المسرح الكويتى من التقاليدي إلى الطليعي قراءة موجزة في إنجاز جيلين
من البديهى أن نسمي مرحلة البدايات في المسرح الكويتى بـ«المرحلة الاتباعية أو التقاليدية»، وأن ننظر إلى تجارب التجديد الأولى المحدودة فيها بعين الكاتب المسرحي المصري الكبير «ألفريد فرج» كي نستقر على اسمين يراهما الأكثر تأثيرًا، وهما: صقر الرشود وعبدالعزيز السريع الذي يصفه بكونه «يملك بناءً مسرحيًا مدهشًا، وموسيقية مسرحية رائعة وسياقًا مسرحيًا متناغمًا للأداة المسرحية، ولديه سياق صوتي جميل وخلاب، ويملك إيقاعًا دراميًا، فهو يبطئ ويسرع تمشيًا، وتعبيرًا مع دراما الموضوع، كما أن المنظر المسرحي للمخرج صقر الرشود جميل وأنيق من حيث الملابس والألوان والديكور، وحركة الألوان في المشهد المسرحي»، وقد صرح بذلك بعد مشاهدته لعرض مؤلفه الأشهر «على جناح التبريزي وتابعه قفة» من إخراج الرشود (1970)، و«ضاع الديك» (1972)، (1973)، وثلاث مسرحيات أخرى بالمشاركة مع الرشود.
أما عن حركة التجديد الحقيقية والحديثة في هذا المسرح وبالتحديد فيما بعد «التحرير»؛ فعلى الرغم من أنه من المنطقي للبراعم المسرحية الجديدة النابتة أن تمتلك الجرأة في تجربة اقتحام الإنجاز المسرحي العربي والعالمي المتقدم كي تقفز متخطية ما هو موجود وسائد وشائع أمامها من أجل أن تتفاعل مع حركات التجديد أو تتعاطى مع التغريبي أو الطليعي بشكل عام، وتبدأ في تجربتها وعرضها على جمهور لا يزال تلقيه للمسرح ضعيفًا ومحدودًا بحكم عوامل كثيرة اجتماعية وثقافية وفنية جاثمة ومستقرة آنذاك، وأيضًا لطبيعة البدايات وكونها محدودة الخطو وحذرة مترددة وبطيئة. فإننا نشهد لها - وعلى الرغم من كل ذلك - بأنها ظهرت وهي تمثل بفكرها وفنانيها وجدّتها الحياة الثقافية والفنية في الخليج العربي حدثًا كبيرًا منضبطًا وواثقًا ثم مؤثرًا في مَن حولها وبكل تأكيد عرض الراسخة التي انطلق منها الجيل المسرحي الكويتي الثاني بعد التحرير؛ أو «جيل الطليعيين» - كما نفضل أن نسميه - تاريخيًا؛ حيث مثَّل العدوان على الكويت علامةً فارقة في التاريخ السياسي للعالم العربي كاملًا، ودولةِ الكويت خاصةً، نظرًا لما جرَّه عليهما من خسائر وويلات وتبعات ثقال أثّرت عربيًا وخليجيًا بل وعالميًا كذلك على الحياة الاجتماعية والثقافية والفنية في المجتمع الكويتي وفي المجتمع الخليجي بأكمله. وحيث شمل ذلك كل فروع ومجالات الأدب والفنون والمسرح بصفة خاصة، وبالتحديد حينما تعافت مؤسسة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويتية من آثار العدوان، ورجعت إلى ممارسة دورها التنويري في مجالاتها المتخصصَّة في المطبوعات والمنشورات وكذلك المهرجانات المسرحية بشكلٍ خاص، حيث تمثَّل ذلك في حركة تجديد مسرحي، كتابةً وعروضًا بظهور مجموعة المؤلفين الكويتيِّين، من تلاميذ الجيل المسرحي السابق المؤسس، والذي يستحقُّ أن نسميهم بـ«الطليعيِّين» نظرًا لتأثرهم الطبيعي بالآباء «التقاليديِّين»، وفي نفس الوقت انطلاقهم من نقاط التجديد المحدودة التي مارسها ذلك الجيل إلى آفاقٍ تجديدية أوسع، تأثرًا بعاملين، مهمين:
أولهما: هو مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي. أما العامل الثاني فهو ما أتيح لهم من سياحة ثقافية وفنية في العالم الغربي، الأوربي والأمريكي، على شكل بعثات حكومية أو رحلات خاصة قاموا للتعرف على قسمات المسرح العالمي المعاصر وانطلاقاته في التجارب الطليعية في حقلي «النص/ الدراما» والعرض المسرحي الحي ليصبحوا ممثلين لهذه الحركة الطليعية مع أسماء أخرى مهمة معاصرة من زملائهم سوف يذكرها البحثُ ذكرًا عابرًا نظرًا لمساحته المحدودة وعدم توافر نصوصهم الدرامية بين أيدينا - رغم سعينا في طلبها في الفترة الزمنية الضيقة المحددة لإنهاء الدراسة - وكذلك لعدم مشاهدتنا لعدد من عروضها الحية إلا ما يتيحه حضور بعض المهرجانات الكويتية والعربية التي شاركت فيها، إلا أن ذلك لم يكن مانعًا من اعتبارهم (رجال مسرح homme de theatre تجريبيين حقيقيين) تجتمع لديهم لمعرفة بالظاهرة الأولى للــ«المسرحي» منذ عهد الإغريق مرورًا بــ«شكسبير» ثمَّ «بريخت» وكثيرين من المعاصرين الذين تضامنت فيهم وظيفة الكاتب الدرامي والمخرج المسرحي للعرض المسرحي.
ولسوف تقتصر هذه الصفحات إذن على ذكر بعض الأسماء كضرورةٍ ملزمة وهم: ناصر كرماني، حسين المسلم، بدر محارب، سليمان البسام، عبدالله العابر، شايع الشايع، علي العنزي، فيصل العبيد، سعداء الدعَّاس، كممثلين لحركة المسرح «الطليعي» الكويتي، وكذلك لما يشملهم من سمات مميزة لإنجازهم الفني.
أولها هو: عدم إلزامهم أنفسهم بالسير وراء دعوات تأصيل المسرح العربي التي بدأها «توفيق الحكيم» و«يوسف إدريس» بدعوتهما إلى التجديد عن طريق التأصيل وكذلك المسرح الاحتفالي المغاربي. وإن كان ذلك لا ينفي بعضهم بها بقدر متفاوت.
ثانيها: ظهور العنوان المسرحي «الجديد والمثير» بما يمثّله من طرافة علاوة على إثارة الدهشة والتساؤلات باعتبارها (مداخل أو عتبات النص Meta textes)، ومنها:
- غسيل ممنوع من النشر، تخاريف حصان، خيول الريح، لــ«ناصر كرماني». وكذلك أعمال سليمان البسام: ودار الفلك - مؤتمر هاملت - ريتشارد الثالث.
ومسرحيات «بدر محارب»: - تاتيانا - حدث في جمهورية الموز - دراما الشحاذين. ومسرحية: انعكاسات د. علي العنزي ثم مسرحيتي «سعداء الدعَّاس»: - هاملتهنَّ - وأنتم مَن قال ذلك.
ثالثها: ظهور مصطلــــح «الــدراماتورجيا» Dramaturgie والدراماتــــورج (dramaturge) واستقطاعهما مساحة كبيرة في الإبداع والنقد المسرحي العربي، حيث أدى ذلك دورًا إيجابيًا كبيرًا وغير معتاد في عمليات التأليف والاقتباس والاستلهام والمعارضة المسرحية.
رابعها: ويتمثًّل في اتساع رقعة الموضوع المسرحي وشمولية المعاناة للمبدع الكويتي، تلك التي لم تعد قاصرةً على معالجة مشكلات مجتمعه الإقليمي أو العربي ومواطنيه إلى مسِّ المعاناة الإنسانية جامعةً ومعالجة مشكلات البشر.
خامسها: الاستفادة من تقنيات العرض ووسائط التوصيل الجديدة وأدواتها، من أفلامٍ سينمائية وشرائح تلفازية، وإمكانات إضاءة حديثة مثل الهالوجين والليد وتقنيات الظل والنور واستغلال المسرح الرقمي، وأيضًا المسرح الغامر Immersive theatre، والمسرح التفاعلي.
سادسها: محاولة واجتهاد رجل المسرح «الطليعي» الكويتي ومحاولته الجادة في توسيع مفهوم هذه المعاناة وتعميقها كي تمس موضوعات ومشكلات الأمن والأمان والحرية والديمقراطية والعدل.
وكنماذج لهذه الإبداعات الطليعية لجيل كتاب ما بعد التحرير تأتي «دراما الشحاذين» للكاتب بدر محارب - على سبيل المثال - بسيرها مسارًا غير تقليدي؛ حيث تبرز كتجربة على مسار غير تقليدي حين حدد المكان كـ«جراج خرب قذر غير آدمي بالمرة» متيحًا بذلك مساحة تلعب فيها السينوغرافيا دورها التأثيري النافذ وهي بذلك تمثل طعنًا مدروسًا في المسرح التقيلدي رغم كونها «تقليدية» على مستوى الالتزام بالزمان والمكان ووحدة الحدث وتماسك تفريعاتها ومنطقية ترتيب الأحداث. مثلما تمثل في نفس الوقت معارضة للحدث المسرحي البرجوازي المعتاد، عن طريق تفكيكه وتحطيمه ومسخ شخصياته، ثم بتركيب النص داخل النص كحلقة أساسية في «البنية structure» وتفكيكه مرة أخرى بمعارضة حيلة «المسرح داخل المسرح».
أما التجربة الطليعية الثانية - التي نتخذها كمثال - فتمثلها مسرحية «لنشرب القهوة» للكاتب فيصل العبيدي، حيث يبدي العنوان «دلالة قبلية tribal connotation» ودّية بالطبع، لكنها سرعان ما تكشف عن بروز مناقشة لقضيةٍ وطنية موضوعها هو الوطن ما بين هجره أو البقاء فيه، ورفض الواقع، وكذلك التمرد عليه في معالجة طريفة جذابة مخالفة لكل توقعات التلقي، وصولًا إلى توحد الأصوات وتوحد المواقف، انتهاءً إلى قرار جماعي صريح ينطق بــ: لن نشرب القهوة.
إضافةً إلى ما يلعبه النص الماورائي Meta text باعتباره ليس نصًا تكميليًا أو اختياريًا قابلاً للحذف بل متضمنًا في جسد النص الأصلي رغم إتاحة الفرصة لحدوث تبديل أو تغيير في الرؤية السينوغرافية بشرط ألا تجافي عالم المعنى المقصود في نص المؤلف.
ناصر كرماني
أما الكاتب والمخرج المسرحي «ناصر كرماني» فيعتبر واحدًا مؤكدًا من الطليعيين في المسرح الكويتي الذين ظهر إبداعهم بعد التحرير وارتبط بمستجدات الفترة مثلما ارتبط بحركة التجديد والتجريب في المسرح العالمي منذ دراسته للهندسة في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1990 ثم تحوله إلى دراسة السينما المستقلة وحصوله على الماجستير من جامعة سولينت ساوث هامبتون البريطانية عام 2002 وحيث يحيلنا التأمل في دراسته الجامعية الأولى هذه إلى التأمل في أعماله المسرحية لتبدو لنا سمة الاهتمام بمعالجة البنية المسرحية واضحة بحضور عنصرَي التركيب ومعالجة القالب في تجاربه الطليعية مثل: تخاريف حصان - خيول الريح - وغسيل ممنوع من النشر التي كرّسها لمعالجة مواجع ومحرمات اجتماعية وقيود وسدود تعوق تقدم البشر وتضع العقبات أمام حياتهم فتحيلها الكذب والظلم والعنصرية والاختلال معتمدًا على المفارقات الحادة وعلى «الجروتسك Grotisque» كوسيلة للكشف والفضح والتعرية متخذة نماذجها من تحكم الأب السائد مجتمعيًا والذكورة المتفشية وقهر النساء وزيف الطبقة البرجوازية وتسلطها على من هم دونها من المقهورين الذين يكشفهم أيضًا ويحدد مسؤولياتهم عن ما هم فيه من بؤس علاوة على نيله من الطبقات العليا وفضحه وتجريحه لها محملاً إياها جرائم مسؤولة عنها. وكل ذلك يمثل في مفهومه غسيلاً ممنوعًا من النشر كعنوان في جملة مفعمة بـ«الإحالات القبلية» التي تربط النص بسياقه الاجتماعي وبأبعاده السياسية والاقتصادية والدينية كذلك، وكما قلنا فهي محاولة كشف وتعرية يعرضها الكاتب عرضًا موضوعيًا متقنًا لا يخفي توجهه الفكري وتعاطفه الإنساني دون أن يقع في هوة المباشرة أو يقترف خطيئة الوعظ على خشبة المسرح، وكما هي الحال مع رفاقه من «رجال المسرح» يتطلع هو الآخر بدور المخرج.
ورغم اعتبار المؤلف هو صاحب العرض المسرحي المضمر لنصه المسرحي نظرًا لكونه أول مَن يراه مجسدًا في ذهنه أو مخيلته، وحيث يتسبب ذلك عادة في خلافات تاريخية بين الكاتب ومخرج عمله الدرامي نظرًا لاختلاف الرؤية بينهما، هذا الاختلاف الذي يتم التغلب عليه في حالة المؤلف المخرج بما يتضمن ذلك قيامه بالتغيير في النص أو إعادة تركيبه وترتيب أجزائه وكذلك حريته في الإضافة والحذف باعتباره متصرفًا في كل من «دراماتورجيا النص والعرض». حتى في لحظات التنفيذ أو تخليق العرض المسرحي الحي باعتباره سيدًا ومتصرفًا في عمله. هذه الحرية التي يكفلها لنفسه باعتباره مالكًا ومتصرفًا في النص والعرض لا تنكر عليه إعادة الرؤية وتجديد الطرح المرئي بناء على ما يمكن أن يقوم به من تقصي رأي المشاهد ودراسات التلقي والتغذية المرتدة للعرض، كما أن كرماني يتيح للممثلين مساحة للارتجال في عروضه وذلك بعد التأكد من هضمهم للعمل معنى ومبنى، معتمدًا على مساحة الحرية الممنوحة له كذلك والتي يتيحها له فهمه لوظيفة «الجروتسك» في تعرية التناقض وكشف الزائف والملفق. وانضمامًا لباقة الطليعيين الكويتيين هذه وكتجربة لمسرح ذي ملامح خاصة وفهم نظري وتطبيقي يتمتع بعلم وبمفاهيم تتباين فيه التجارب وتختلف فيما بينها؛ إلا أنها ودون شك تلتقي في كونها بحثًا جادًا لأصحابها المسرحيين سواء كانوا مخرجين لأعمالهم أو مؤلفين أوكلوا المهمة لمخرجين يثقون في تفهمهم للتجربة عاملين على تأكيدها ونشرها.
سليمان البسام
كذلك ومن الطبيعى أن يبرز اسم «سليمان البسام» كرجل مسرح HOMME DE theatre تتخذ هذه الصفحات من عرضه ريتشارد الثالث «تعريفًا موجزًا بأسلوبه» و«طليعيته»، حيث يعمل أدوات التغيير في النص الشكسبيرى إلى «نص عرض» واضح الدلالة بيّن الإحالات بتحويله المكان الأصلي إلى مملكة أو حيازة صحراوية يكتظ جوفها بالنفط والثروة وبسببهما وبسبب أطماع وتدخلات خارجية تكتظ بالصراعات تشعلها وتحترق بها أو تحرق ضحايا لا تغيب هويتهم عن المتلقين غرباء كانوا أو من ذات الجنس واللغة والدين كغالبية كذلك في مفارقة لم تعد قادرة على إثارة الدهشة من طول التعود عليها وكذلك الاكتواء بنارها لمن تأثرت حياتهم بهذه الصراعات ونذرت حياتهم ومصائرهم كضحايا لها وإنما بأقدار ونسب أو بجرعات متفاوتة - بالطبع - ما بين محيطه الخليجي وبقية عالمه العربي.
الأمر الذي يثيره كمبدع ويستفزه كمواطن أيضًا لأن ينكأ الجروح فنيًا حين يقدم التراجيديا الشكسبيرية بصبغة عربية بعد تفكيكها دراماتورجيا وحين يقدم التراجيديا الشكسبيرية بصبغة عربية بعد تفكيكها دراماتورجيًا وإسقاط زمانها ومكانها وبشرها على عالمنا العربي في عرض مفعم تتضافر فيه كافة عناصر العرض المسرحي الحي لتقدم لوحة شاملة يوازي به هموم المنطقة العربية وظروفها بهموم وظروف حرب الوردتين الأهلية الإنجليزية التاريخية التي استمرت مشتعلة ين أسرة يورك وأسرة لانكستر من عام 1555 حتى عام 1485م وصاغها وليم شكسبير مسرحيًا عام 1591م غالبًا كما ذكر في تاريخه.
وكمعارضة مسرحية فقد رمى البسام عمله في وجه المتلقن نائيًا بهم عن قصد إمتاعهم برؤية فُرجة والتسّلي بمشاهدتها بل لما أشرنا إليه من ضمانات بل لما أشرنا إليه من ضمانات الأمان واستمرار العرض بإسقاطه «المعنى المضمر» وتعبئة مغلفًا بالتاريخ وما يمثله ذلك من جاذبية في الرؤية، أيضًا من تحريك الفكر وإعمال العقل لدى المشاهد حين تنعقد في عقله الموازنة بين عملين وتتضح المقارنة بمزاوجة التفكير بالعقل ولذة تحريك المشاعر وإثارة الانفعالات مستعينًا بكافة الوسائط وأدوات التأثير ووسائل الإيهام والكشف والإقناع موسيقيًا وحركيًا وأدائيًا في باقة متجانسة موحدة يبدو فيها وبالطبع شواهد التأثر بحركة المسرح العالمي الحديث وإنجازاته خاصة وفرقته ذات الجنسيات المتعددة تتجول عارضة أعمالها في بقاع شتى متعددة الأجناس والأعراف واللغات من هذا العالم، مؤكدة معنى المسرح وهدفه كرسالة إقناع بقضايا ينتمي إليها أي مبدع حقيقي يحمل همومًا إنسانية حقيقية.
ثامنها: تعاظم دور الكوريوجرافيا ومصمم الحركة Choreography/ Choreograph، لدرجة طغيان اللوحات الراقصة دون أن يعني ذلك بالطبع إصابة جميع العروض بعدوى الإغراق في هذه الشكلانية.
تجربة طليعية جديدة
مثلما تتكفل بذلك تجربة «انعكاسات» التي انبثقت انبثاقًا غير تقليدي عن مشاهدة للوحات في معرض «انعكاسات» للفنان التشكيلي الكويتي عنبر وليد التي تضمنت «إسقاطات سياسية واجتماعية أثارت هموم ومخيلة المسرحي خالد أمين» ودفعته لأن يطلب من صديقه الدكتور علي العنزي أن يكتب نصًا طليعيًا جديدًا مع «السينوجراف» ومصمم الإضاءة عنبر وليد وأيمن عبدالسلام لتتشكل تجربة طليعية جديدة تحمل قدرًا مثيرًا للمناقشة الفنية الجادة والجدل المثير ليس حول البنية أو المعمار المسرحي وحدهما؛ بل حول قضايا اجتماعية وأفكار وقيم دخيلة ليس على المجتمع الكويتي والخليجي وحدهما بل مسّت المجتمع العربي وقضية الانتماء له وتهديد الانسلاخ منه. وحيث يعرفها مؤلفها الدكتور علي العنزي بكونها «تمتاح من معاناة شرائح اجتماعية ومجموعات طبقية اعتصرتها الغربة الداخلية وأفضت بها إلى متاهات متكئة على مصطلح - مسرح الكارثة Theatre of catastrophe - بلغة تقارب الحلم في محاولة لاختزال تجربة الاغتراب داخل الروح من خلال أصوات الشخصيات التي تختلط فيها الشاعرية بالواقع حيث غالبًا ما يرتبط مسرح الكارثة بقدرة العمل على الحيلولة دون استرخاء المتلقي نفسيًا وتشكيله مصدر إزعاج سيكولوجي لديه وكأنه حبة رمل تؤرق صدفة أو أمعاء رجل، وكي يتم لنا ذلك يعدو أبطال مسرح الكارثة نحو المفارقات عَدوًا وهم مفتونون بالتناقضات متلاطمين ضالين تتسم دوافعهم بالغرابة!! «- كما جاء في تقديمه لنص المسرحية المنشور- . وبالطبع ظهر العرض كتجربة أولى فريدة أخّاذة بل ومثيرة كتطبيق عملي - ينتمي إلى مسرح الكارثة لفنانين عرب ربما كان الأول من نوعه على مسارحنا دون أن يغفل الناقد عن سمات انتماء نوعه إلى مسرح القسوة، أو لا ينتبه إلى تأثره بـ«التغريب» VERVREMDUNG/ ALIENATION.
سعداء الدعاس
أما عن تجربة «سعداء الدعاس» والتي هي كاتبة ومخرجة ذات وجهة نظر في المسرح عامة عالميًا ومحليًا وذات وجهة نظر أكثر عمقًا وتحديدًا بالنسبة للمرأة وقضايا حضورها ووجودها التاريخي سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا حيث قدمت في مسرحيتها الشهيرة بعنوانها المركب «هاملتهن» ما يشبه (المعارضة) لدراما هاملت - شكسبير تأسّيا بأعمال كتاب عالميين أخرين قدموا مثل هذه المعارضات لأعمال درامية راسخة مثل هاينر موللر في «ماكينة هاملت» وأوجين يونسكو في «ماكبت» على سبيل المثال، وقد اختارت الدعاس أن تستدعى إلى الحياة الملكة أم هاملت والحبيبة أوفيليا لتعيد عرض المسرحية الشهيرة من وجهة نظرهما كامرأتين.
وبالطبع من وجهة نظرها كمؤلفة أنثى هي الأخرى، وفيما يشبه المحاكمة ضمن عرض تحكمت فيه هي الأخرى باعتبارها المخرجة المؤلفة. حيث تعيد سعداء الدعاس كمؤلفة صياغة هاملت رائعة شكسبير من وجهة نظر أنثوية خالصة تتقاسم فيها المرأتان أوفيليا الحبيبة الشابة المخذولة خذلانًا مماثلاً لما عانته جليلة بنت مرة زوجة كليب من قتل زوجها بيد أخيها حين كابدت معاناة مزدوجة شطرتها كنسيج تمزق بين عاطفتين متناقضين لحمته هي كره متلبس في حب للشقيق قاتل زوجها وحبيبها، وخوف عليه من قتل منتقم طالبًا الثأر له.
وسُدى تمثّل في الجسد المنشطر والروح الموجوع لتصبح «الجرح والسكين» تمامًا كما عبّر عنه شارل بودلير. ذلك ما عانته أوفيليا شكسبير وعبرت عنه بعبارات ملتاعة مجملة لم تكتف بها سعداء الدعاس بل أرادت أن تفتق جراحات المرأتين فيه، وأن تستنطقها بما لم تبح به في المسرحية الأصل مستعينة بلعبة تبديل الأدوار وتراوح لعبها بين امراتين أولاهما مجربة ملتفة على مشاعر غدر وخيانة وتآمر وأيضًا على مشاعر حب مرتكس مغدور به أضنى ولدها هاملت الذي تفرعت داخله المشاعر وأربكه تناقضها ما بين حب وكره وإدانة وشك وتردد وانتقام. هاملت الذي تعارك فيه كل ما سبق لارريستد قاتل الأم المنتقم الأب واليكترا وسواسه وشيطانه ومحرضته على الثأر للأب المغدور. وهو هاملت المعاني من ازدواج المشاعر وتناقضها.
وكذلك أوفيليا، فجميع شخصيات هذا العمل العظيم يعانون من افتراس العواطف المتناقضة ووحشيتها. كل ذلك كان محرضًا للكاتبة أن تجمله وتضغطه داخل ثنائية درامية أسمتها هاملتهن: أي هاملت المرأتين اللتين تحبانه وتكرهان فعلته وهما النقيضين كذلك ما بين فجور الأم جرترود وطهر أوفيليا. وهكذا أقدمت سعداء على هدم «الظلام الخاص» لكلا الأنثيين وتعرية ما استكن فيه من مشاعر غامضة ودوافع ملتبسة لأن جعلتك منهما تعيش حياة القاتل والضحية. وكأنها صنعت من كل منهما «تيرزياس» آخر ليس فقط الكاهن النبي والعراف الإغريقي الشهير؛ بل مزدوج الجنس حالة - «hermaphroditism» - الذي عاقبته الآلهه أفروديت أن يعيش كامرأة سبع سنوات يتحول بعدها إلى حالة من العلم الكامل بكلا الجنسين.
وقد تمت صياغة كل ذلك وسبكه وتركيبه في عملية «تمسرح Theatricality» مكثف متقن اضطلعت فيه بكلا الدورين: دور المؤلف الذي نسميه المخرج الأول للنص إخراجًا ذهنيًا مضمرًا غير معلن؛ ثم دور المخرج المجسد للنص تجسيدًا حيًا يقبل التغيير والإعادة الجديدة في كل مرة يتاح لها تقديمه وفي وجود تقنيات ووسائط عرض حديثة تسمح بتخصيب السينوجرافيا مثلما تتيح للتصميم والأداء الخرجي مساحة تعبيرية كلغة مساعدة أو Meta texte جسدي كبديل للنص الموازي اللغوي أو المكتوب، وحيث يحسب كل ذلك إيجابيًا - بالطبع - باعتباره معالجة دراماتورجية يتم بها تخصيب النص الأصلي أو إعادة تدويره وتشكيلهperformanticaly /de manière performante ■