وللاستشراق وجهان آخران مضيئان

وللاستشراق وجهان آخران مضيئان

اطّلعت باهتمام على مقال «ظاهرة الاستشراق» للدكتور بركات محمد مراد في مجلة «العربي« الغرّاء العدد 619 (يونيو 2010) مقال مفيد وممتع.. وما الاستشراق - في معظمه - إلا الدليل الثقافي للاستعمار والتنصير. لم يُعْط المقال صورة حقيقية عن الاستشراق التقليدي وأهداف بعض المستشرقين في تشويه صورة الإسلام والمسلمين التي لايزال معظم شعوب الغرب يدينون بها، كما أن هناك جوانب مهمة لم يتطرق الكاتب الفاضل إلى ذكرها، ولم يميّز تمييزًا واضحًا بين مظاهر الاستشراق المتعددة وأساليب المستشرقين، فمنها أساليب متطرّفة، وأخرى معتدلة، وأخرى أعجبت بالإسلام فدافعت عنه، ومنها مَن دخل في الإسلام.

1- أساليب المستشرقين المتطرفين:

أ- هؤلاء معظمهم من القساوسة وبعضهم من أصل يهودي، عملوا على الطعن في صحة القرآن الكريم والحديث الشريف والافتراء على نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم وصحابته مثل الأب «هنري لانس» و«إغناز غولدسيهر» في كتابه «العقيدة والشريعة في الإسلام»، وأكثرية المستشرقين منهم.

ب - ومنها الطعن في بعض رموز الحضارة العربية الإسلامية، فقد قام المستشرق الفرنسي «فران» بترويج افتراء على «ابن ماجد» الملاّح العربي الشهير من أنه قاد البرتغاليين إلى طريق الهند البحري!

ج - إثارة الخلافات الدينية والعرقية بين الطوائف الإسلامية، وإحياء الآراء الشاذّة للفرق الغالية، فلقد عُني «لويس ماسينيون» وهو من أصل يهودي بالحلاّج والقرامطة والإسماعيلية، وآخرون سواه.

2- أساليب المعتدلين: من مثل «جورج سيل» الذي قام بترجمة معاني القرآن الكريم عام 1734م مثنيًا على الرسول صلى الله عليه وسلم، وألّف «توماس كارليل» كتاب «الأبطال» وعدّ الرسول الكريم على رأسهم، وألّف «سارتون» كتابه «مدخل في تاريخ العلوم» أنصف فيه الحضارة الإسلامية، كما ألّف «غوستاف لوبون» كتاب «تاريخ الحضارة العربية» وهو القائل: «ما عرف التاريخ فاتحًا أرحم من العرب».. وآخرون كثيرون.

3- أساليب المعجبين: أعجب بالثقافة الإسلامية كثيرون لا يحصيهم العدّ، وهم من رجالات الغرب والشرق، ولكنهم لم يعلنوا عن إسلامهم من مثل «بوشكين» الذي حاكى بعض سور القرآن الكريم، و«غوته» الشاعر الألماني الكبير الذي نظم «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي» مستلهمًا معانيه من الأدب الإسلامي.

وإنّ المعجبين من دخل في الإسلام.. منهم من تعلّم العربية واطلع على ثقافتها وقيمها العالية، من مثل «فانسان مونتيه» «المنصور بالله الشافعي» من فرنسا، و«شيروتانا كاشيرو» من اليابان و«ليلى روثمان رمزي» من الولايات المتحدة الأمريكية، ومنهم من أدهشه الإعجاز العلمي وتشريعاته العظيمة، فأسلم مثل د. «روجيه جارودي» وألّف كتابه «المستقبل للإسلام» وكذلك «كليون توريزت عبدالرحمن» حفيد «موريس توريز» زعيم الشيوعية في الغرب.

تأثير الاستشراق: ساهم الاحتلال الأجنبي لبعض الدول الإسلامية مستعينًا بالاستشراق ببعض التأثير في الدول الإسلامية من مثل: ظهور مجددّين على الطريقة الغربية في الهند وإيران وتركيا.

  • وكذلك شاعت فكرة كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية، وفكرة الكتابة باللهجة العاميّة، وقد باءتا بالإخفاق سريعًا.
  • عمل أعوان الاستعمار على تغيير اتجاهات الثقافة الإسلامية وذلك في المناهج الدراسية في جميع المراحل.
  • ظهر بعض المفكرين المعجبين بالحضارة الغربية من أمثال سلامة موسى، وجورجي زيدان.

رد الفعل: ردّ العرب والمسلمون على محاولات «التغريب»، هذه فعملوا على إحياء الثقافة العربية والدفاع عنها، وأنشأوا جامعات وطنية، ويعد السيد جمال الدين الأفعاني الرائد في هذا المجال، وتبعه تلميذه الإمام محمد عبده، وآخرون كثيرون، وردّ كتاب من مصر وعلى رأسهم د. إبراهيم زكي خورشيد على «دائرة المعارف الإسلامية» التي أصدرها المستشرقون، ردّوا عليهم أغاليظهم وافتراءاتهم، كما باءت بالإخفاق كل الفلسفات البشرية من وجودية وعولمة وغيرهما أمام القيم الإسلامية السامية وعادت كل من إيران وتركيا إلى جذورهما الإسلامية.

الوضع الجديد: بعد الحرب العالمية الثانية أحس الغرب بضعفه، وقامت ثورات تحريرية على المستعمر فأخذ يتقرّب إليها ويخفّف من وطأته عليها، من ذلك:

  • أخذ الغرب يشجع الحوار بين المسيحية والإسلام، وعقدت مؤتمرات تضم مفكرين غربيين وعربًا تتناول عناصر من الثقافة الإسلامية من شريعة وتاريخ وأدب وفكر.
  • السماح بتأسيس مدارس عربية وإسلامية ومراكز ثقافية في بعض بلاد الغرب من أهمها «معهد العالم العربي» في باريس عام 1980م.
  • تأسيس جمعيات صداقة بين بعض دول الغرب والدول العربية.
  • عقد مؤتمرات تجارية واقتصادية بين معظم دول الغرب والدول العربية.

لقد أخفق الاستشراق المتطرف فكريًا وإنسانيًا كما يقول د.إدوارد سعيد، وبقيت العلاقات بين الغرب والشرق الإسلامي في تجاذب بين صعود وهبوط - وهما أقوى كتلتين في العالم، وستبقيان كذلك، مصداقًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الروم - أي الغرب النصراني - ذوات القرون، كلما هلك قرن خلفه قرن، أهله أهل صبر، وأهله لآخر الدهر، هم أصحابكم مادام في العيش خير».

عثمان الحاج حسون
حلب / سورية