رقمَنةُ الشّعر العَربي المُعاصر حينَ تَتحولُ القَصِيدةُ إلى نَص بَصَري

رقمَنةُ الشّعر العَربي المُعاصر حينَ تَتحولُ القَصِيدةُ إلى نَص بَصَري

الأدب والفنون التشكيلية... أية علاقة؟ هذا السؤال - كما غايته وتجلياته - ليس جديدًا بالمرة على الممارسات والإنجازات الأدبية والفنية، أو - بالأحرى ليس طارئًا - على هذه الإنتاجات الرمزية للإنسان، عبر مراحل كل الحضارات والثقافات الكتابية التي عرفتها البشرية منذ نشأتها إلى الآن. إذ عرفتْ هذه الثقافات وهذه الحضارات في تجسيداتها وتعبيراتها الجمالية، العديد من أشكال الدمج والمزاوجة بين هذين الشكلين التعبيرين الرمزيين (الشعر والتشكيل)، وتوطدت هذه العلاقة الملغزة - في تبادلاتها الرمزية أيضًا - بين التعبير الأدبي في جميع أجناسه (من أدب، ومسرح... وغيرهما)، وبين التعبير الفني - التشكيلي كذلك في جميع أشكاله وأنواعه (من نحت، وحفر، وتصوير...).

 

من هنا، تُطرح أمام الدارس والمتتبع لمسار وأشكال التقاطع الرمزي بين الأدب والفن التشكيلي - على سبيل المثال - هذه العلاقة الضرورية والمثيرة أيضًا، والتي ظلت تجمع الإبداع الأدبي، في مختلف أجناسه وأشكاله، بالإبداع التشكيلي (سواء كان صباغة أم نحتًا أم فنونًا غرافيكية Arts graphiques) عبر العديد من المسارات والحقب التاريخية للفنون والآداب الإنسانية بشكل عام. ولسنا في حاجة أيضًا للتأكيد، هنا، على أهمية علاقة الأدب بالفنون، أو علاقة الشعر بالتشكيل على وجه الخصوص. 
خصوصًا وأن القصيدة البصرية العربية المعاصرة والجديدة أصبحت متعددة الخطابات كذلك، وتميل، بل تعتمد في العديد من نماذجها التشكيلية والبصرية الجديدة على الاستعانة - في تبليغ دلالتها الأدبية - بإشارات بصرية خارجية وغير لغوية، متجاوِزة في ذلك الاعتماد فقط على بِنياتها الإيقاعية والصوتية، إلى بِنيات دلالية أخرى تندرج في مجال الكتابة والبصر والتصوير العيني، الذي يجعل مسائل «الإبلاغ» و«التوصيل» الشعري البصري - على سبيل المثال - شفرات خاصة وإضافية، تحتاج إلى القراءة بفروض الفكر والعين معًا، ما دامت هذه القصيدة الجديدة قد راهنتْ أيضًا على الانتساب إلى عصر الصورة والكتابة، وجعلتْ من نفسها خطابًا للقراءة، بل للتأمل والمشاهدة في آخر المطاف.
ومن هنا، يمكن الحديث أيضًا داخل القصيدة البصرية، وضمن أشكال تمظهُر الكلمة (كعلامة مكتوبة أو مرسومة) على الحامل النصي، وانتقال طبيعة هذه الكلمة ودلالتها، من المقروء إلى المرئي، ومن اللساني إلى البصري، أو حتى إقامتها في المنطقتين معا، عن العديد من أوجُه هذا التمظهر أو هذا الانتقال، ثم عن نوع من التبادل الدلالي والوظيفي للخطي والتصويري معًا. إذ يكون بوسع الكلمات المكتوبة أن تصبح صورة أو أيقونة، ويكون بمقدور الصورة أن تتشكل أيقونيًا أيضًا من الكلمات.
ثم إن الحديث عن الفضاء - في علاقته بالنص الشعري البصري، هو حديث - بالدرجة الأولى - عن تجسيد مادي ومرئي لهذا النص داخل الفضاء، سواء كان هذا الفضاء في ملمحه النصي (حين يشكل النص المكتوب تمظهره البصري الأساسي على الصفحة، ويكون بإمكاننا قراءته قراءة خطية وفق تركيب لفظي ودلالي معين)، أو في ملمحه الصوري - التصويري (حين تشكل هيئة النص المكتوب أو صورته على الصفحة كذلك تمظهره البصري، لكن من دون ضرورة توفر شرط القراءة الخطية للنص وفك دلالته)، أو حتى في ملمحه الأيقوني كذلك: حين تأخذ هيئة النص على الصفحة شكل أيقونة، من خلال عمليات المماثلة أو المشابهة، التي تحيل بالضرورة على صورة أو هيئة أو شكل شيء ما موجود في الواقع. كأن يأخذ النص في ترسيمه الخطي، على سبيل المثال، شكل شجرة أو مزهرية أو كرسي أو ما شابه ذلك.

الأدب في عالَم متغير (الوسائطية)
تغيرتِ الكثير من الأشياء في الصيغ التواصلية للإنسان، وفي أشكال وماهية الخطابات نفسها. وتوغل العصر الحالي أكثر فأكثر في ثقافة الصورة، وسطوتها، وضروراتها، واستعمالاتها، ووظائفها التواصلية وحتى «السحرية» الأساسية الأولى كذلك، هي الوظائف والاستعمالات التي كانت سابقة للكلمة المسموعة والمكتوبة في البدايات الأولى لإنسان المغاور والكهوف. 
وإذ تَصْدُق، هنا بالفعل، تلك التأملات التي وضَعها المفكر الفرنسي «ريجيس دوبري» حول وظائف الصورة، وطبيعتها، وتحولاتها، والحنين إليها، وعودتها خصوصًا، حتى في أشكالها الأولى داخل الثقافة الرقمية والوسائطية للعصر الحالي، ففي عصر الوسائط المتعددة التفاعلية والمجموعات الرقمية على الشاشة، يقول «دوبري» في كتابه التدشيني «حياة الصورة وموتها»: «يبشر تبخر الأنسجة والتضاريس والملونات بمستقبل زاهر لتحويل الصور إلى «إيديوغرامات». (التعبير عن فكرة مّا بواسطة علامات ورموز تخطيطية أو صور تقليدية. إذ تم استخدام «الأيدوغرامات» والصور التوضيحية لإنشاء أنظمة تواصلية، في الكتابة، مثل الهيروغليفية المصرية، والمسمارية السومرية والحروف الصينية). 
ذلك ما يجعل أيضًا هذا العصر الرقمي الحالي، يعرف الكثير من التجليات الوسائطية، والتحولات الجذرية في مفاهيم وأشكال الثقافة، والتعاملات، والعلاقات الإنسانية نفسها بين المجموعات البشرية، سواء داخل محيطها الجغرافي الخاص، أو عبر الفضاء الكوني. 
أمام هذا العالم «السيبرنيطيقي Cybernétique» المتجدد كل لحظة والمتغير باستمرار. وداخل مجالات كل هذه الوسائط، وكل هذه الترسانة المعقدة من الأجهزة الرقمية والإلكترونية، ذات الوظائف التواصلية السهلة والرفيعة، والمهام الإنجازية العديدة والسريعة، وعالية الجودة في نفس الوقت، وجَد الكاتب نفسه، كما الفرد العادي، على حين غرة وبدون سابق إنذار، في مواجهة حضارية وثقافية مغايرة. إذ أخذتْ هذه الترسانة أو الوسائل الإلكترونية والرقمية الجديدة تقلب حياة البشر رأسًا على عقب، وتعمل، بالتالي، على تغيير الكثير من تصورات الإنسان، ومفاهيمه، ونظرته إلى العالم والحضارة والثقافة على حد سواء.
داخل نفس السياق، دخلت القصيدة بدورها عالم الرقمية، لكنها عرفتْ في مجال التداول النقدي والكتابي العربي الكثير من الالتباسات في التعريف وفي المفهوم، خصوصًا وأن هذا «الجنس» أو هذا «الإنجاز» الإبداعي الرقمي والتفاعلي الذي بدأ يغادر تدريجيًا في الوقت الراهن حامله الورقي، وأصبح يُكتب أو يُنجَز، بالأحرى، على الحامل الرقمي والإلكتروني، يُعَدّ بمنزلة «الوافد الجديد» والمستحدث نوعًا ما - في الثقافة الإنسانية بشكل عام، والمستنبَت أيضًا في الثقافة والممارسة الإبداعية العربية بشكل خاص.
لكن ما يهمنا، هنا، ليس الغوص في التعريفات والمفاهيم التي تم إسنادها إلى القصدية الرقمية، بل إبراز مدى جمالية هذه القصيدة وعلاقتها بالتشكيل، باعتبار التشكيل من المكونات الأساسية لهذه القصيدة، سواء كانت تفاعلية وترابطية أو مُنجَزة فقط على حامل رقمي أو إلكتروني، حيث يكون الشاعر، هنا، قد تجاوز الصيغة الخطية، والورقية المباشرة، والتقليدية في تقديم النصّ إلى المتلقي، وأصبح يقدم نصه الشعري بعناصر تشكيلية وبصرية لا عهد للشعر بها من قَبْل، ومِنْ ثَمّ يقوم بترويجها واقتسامها مع الآخرين على نطاق واسع، من خلال المنصات الرقمية والمواقع الإلكترونية والتقنيات الجديدة التي أصبحتْ توفرها التكنولوجيا الحديثة والراهنة. 
ومن باب المفارقة، يمكننا أن نستحضر، هنا، ما قاله الشاعر «المتنبي» ذات عصر مضى، معتزًا بنفسه في واحدة من أجمل وأشهر قصائده في الفخر والمديح معًا:
الخيلُ والليلُ والبيداء تَعرفني
والسّيفُ والرمحُ والقِرطاسُ والقلمُ
حيث لا ندري، حقيقة، سواء من باب المفارقة نفسِها، أو من باب نوع من القلب المجازي للظروف والسياقات التاريخية: ماذا كان سيقوله الآن أو يكتبه، بالأحرى، شاعر كبير ومتميز من عيار «المتنبي» وهو يرى أو يعايش بدوره هذه «العجائب» الرقمية والإلكترونية، أو هذه الإبداعات الشعرية والفنية للتقنية وتكنولوجيا العصر الحالي؟ 
هل كان الشاعر سيقوم بدوره بنوع من «الإبدال» الخاص لشكل ومضمون القول الشعري، ويقوم كذلك بنوع من «الترحيل» الرمزي لموصوف القصيدة وقاموسها، نحو عصر الصورة وعتادها، أو ربما أيضًا نحو أشياء أخرى، ومنها أدوات الكتابة نفسها، هي التي لم تعد لها نفس الوظيفة أو نفس القيمة التي كانت لها في عصر «المتنبي»؟ ربما كان الشاعر الكبير سيستبدل في بيته الشعري هذا، وفيما يخص أدوات الكتابة تحديدًا: «القِرطاس» بشاشة الحاسوب أو الهاتف الخَلَوي، و«القلم» بلوحة المفاتيح Le clavier، لتكون القصيدة وقاموسها «منتسبيْن» بالفعل إلى عصريهما إنْ صَحّ التعبير؟

الشعري والتشكيلي في الفضاء الرقمي
داخل نفس المسعى الذي ظل يَشْغَلُنا منذ سنين (مزاوجة الشعري بالتشكيلي والتأسيس لبصرية القصيدة)، خُضْنا أيضًا تجربة رقْمَنة نماذج من القصيدة المغربية والعربية، من خلال محاولة تصميم «بطائق شعرية إلكترونية» أو «رقمية»، قُمنا بإنجازها بواسطة برامج حاسوبية ومعلوماتية مختلفة، تقوم أساسًا بوظائف تقنية وفنية عديدة منها: رقْمَنة المعطيات النصية والخطّية والتصويرية، ومعالجة الخصائص الشكلية والبصرية للصورة (اللون، الحجم، التوجيه...). وإدخال صور الشواعر والشعراء في البطائق إلى جانب شذراتهم الشعرية، مع إضافة عناصر تشكيلية، ومؤثرات لونية وبصرية عديدة إليها. كمَا أننا قمنا بإنجاز هذه التجربة ضمن مشروع طموح يهدف إلى رقْمَنة شذرات أو منتقيات من الشعر المغربي والعربي، على شكل بطائق شعرية - تشكيلية إلكترونية، لتصدُر مستقبلاً كأنطولوجيا شعرية رقمية مطبوعة على حامل رقمي (قُرص مُدمَج CD-ROM). 
وإن كنا لا ندعي حقيقة، هنا، بأن محاولتنا هاته، ترقى إلى مستوى الإبداعات الشعرية الرقمية المغربية والعربية، إلا أن ما قمنا به في هذا الإطار يأتي أيضًا ضمن اهتمامنا الإبداعي المتواصل، في تحقيق وإنجاز بعض الجوانب الخاصة بتشكيلية القصيدة وبصريتها بالأساس، سواء على مستوى فضائها النصي، من حيث توظيف مساحات البياض والسواد، وغيرها من العناصر التشكيلية وغير اللسانية، أو على مستوى مجاورة هذه القصيدة للعمل التصويري (في التشكيل وفي الفوتوغرافيا)، أو حتى على مستوى السعي (في مرحلة ثالثة) إلى رقمَنتها، وإدخالها إلى الخاصيات التفاعلية والترابطية، والفضاءات، والاستعمالات الرقمية الحقيقية في آخر المطاف.
وحتى إن كانت اقتراحات هذه التجربة قد جاءت في مرحلتها الأولى، مشتغلة على نصوص الآخرين، من خلال العمل على رقْمَنة بعض المقاطع أو الشذرات من قصائد الشاعر الراحل «محمود درويش»، وشواعر وشعراء من المغرب والعالم العربي، وجاءت هذه التجربة على شكل «بطائق شعرية رقمية» أو إلكترونية ثابتة أو، بالأحرى، «صامتة»، وليس بها مؤثرات الحركة والصوت والكثير من عناصر الإبداع التفاعلي، إلا أنها تستحق، في نظرنا المتواضع، انتسابها إلى مجالات الإبداع الرقمي (الشعري – التشكيلي) إن صح التعبير؟ وذلك لعدة أسباب، من أهمها: أن هذه «البطائق الشعرية – التشكيلية الرقمية»، بما تحتويه وتضيفه تنويعاتها الضوئية، واللونية، والبصرية من أبعاد بصرية، وجمالية، وتشكيلية للقصيدة، إذ تزيد هذه التنويعات والأبعاد والعناصر من تكثيف دلالتها وتوسيع دائرة تلقيها وتداولها عبر العين خصوصًا، فهي كذلك، وهذا هو الأهم، قابلة، على سبيل المثال لا الحصر، للتوظيفات والاستعمالات المختلفة التالية:
1 - يمكن عرضها للجمهور بواسطة تقنية أو جهاز «المِسْلاط الضوئي» أو جهاز «الداتا شاو data show» على شاشات كبرى، ضمن جلسات شعرية «بصرية - رقمية» خاصة، مصحوبة أيضًا بخلفية موسيقية أو صوتية (تسجيلات صوتية أو إلقاء مباشر ومصاحب للعرض البصري بصوت الشواعر والشعراء).
2 - يمكن طبعها بأحجام مختلفة على ورق خاص بطبع الصور الفوتوغرافية، واستعمالها كـ «بطائق بريدية شعرية» للإهداءات وبعض المناسبات وسياقات التراسل الإلكتروني.
3 - يمكن طبعها كملصقات شعرية - تشكيلية كبيرة الحجم، أو على شكل لوحات فنية على حوامل مختلفة النوع والحجم، وعرضها للجمهور كمعرض شعري ــ تشكيلي.
4 - يمكن وضعها على المواقع الإلكترونية، أو على صفحات «الويب Web» الشخصية والخاصة على الشبكة العنكبوتية (الإنترنت).
5 - يمكن وضعها أيضًا، ضمن وظائفها التزيينية والجمالية، كخلفيات على «الشاشات المكتبية Fonds d’écrans» للحواسيب، ووضعها أو تحميلها أيضًا على شاشات الهواتف المحمولة.
6 - يمكن بعثها أو إرسالها بواسطة البريد الإلكتروني «الإيميل» كنوع من التحايا الشعرية الرقمية للأصدقاء ■