سطوة الحبّ بين الواقع والتخييل

سطوة الحبّ  بين الواقع والتخييل

الحبّ شُعلةٌ غير مرئيّة، تُضرَمُ في الحشا، يكون شفيعها إلى قلب المُحبِّ، موقفٌ أو نظرةٌ أو التفاتةٌ، تُحرّكُ خفايا القلبِ وما يحويهِ من مشاعرَ تتأهّبُ للبروزِ عند أوّل إشارةٍ تاركةً الكثير من العلاماتِ الدّالة عليها. ولئن كانت بذور الحبّ موجودة بالقوّة، فإنّ إشارةً واحدة تكفي لإخراجها إلى طور الفعل الذي يتمخّض ليُنتج تجربة تتنوّع بتنوّع أخبار المُحبين والعشّاق على مرّ الزّمان.

 

وفي تعريف مقتضبٍ للحبّ، تُجيبُ أعرابيةٌ الأصمعيَّ عند سؤالها عن ماهيته فتقول: «هو في الصّدور كامنٌ كُمون النّار في الحجر، إنْ قدحْتهُ أورى وإن تركتَهُ توارى». نُدركُ في هذا التّعريف البسيط أنّ الكثيرَ من المشاعر الإنسانيّة كامنةٌ في النّفس البشريّة تنتظر من يُثيرها، ويكشف النّقاب عنها لتبرزَ إلى الوجود على هيئاتٍ مختلفةٍ قد تتلاءم في ما بينها وقد تكون على نقيضٍ تام. 
وفي تعريفٍ للمفكّر ابن حزم القرطبي يقول: «إنّه اتّصالٌ بين أجزاء النّفوس المقْسومة عن أصلِ عناصرها». يُضفي ابن حزم لمسةً فلسفيّةً إلى تعريفه، فالنّفس واحدة، انقسمتْ وتقلّبتْ في الأصلاب، وهي في رحلة شاقّة للبحث عن أصلها المُنقسم عنها، فإذا ما وجدتْهُ تكون قد عادتْ إلى طبيعتها الأولى، والتأمَ ما كان مُنقسمًا في حلّة جديدة تتناسبُ والوضعَ الأثير الذي وُجدتْ من أجله.
وقد زخر التراث العربيُّ بأسماء المحبّين، وصُنّفت الكتب التي تحملُ أخبارهم، وسيرَهم، وأشعارَهم مثل: حماسة أبي تمام الذي أفردَ مساحة وافية للنّسيب، وكتاب «مصارع العشاق» للبغدادي، وما بثّه الأصفهاني في كتابه «الأغاني» من أخبار وأشعار شكّلت مصدرًا ثريًّا يغترفُ منه كلّ من أراد التنقيب وتتبّع أحوالهم وما عاشوه في رحلة العشق الطّويلة.
وإذا كان الشّاعر هو الجوّاب الذي يرتاد سوق المعاني ويتخيّر منها الأجمل ليصبّها في قوالب تخرجُ من بعدها مُحلاةً زاهيةً تطرقُ القلوبَ والأسماع، فمن الذي يستطيع إيصال ما تختزنه نفسُهُ من مشاعر وأحاسيس، وما يُخامرُهُ من شكوك وهواجس أفضل منه؟ وكيف لمشاعر الحبِّ أن تنقلب لتتحوّل إلى بغضٍ وخيانةٍ وعنف؟ 
وفي تتبّع أخبار المُحبين نجد أنفسنا أمام تجربة «ابن عجلان النّهدي» الفريدة والتي تنمّ عن انفعالٍ صادقٍ أثّر في مجرى حياته فأحالها صحراء قاحلة بعد أن كانت روضا غنّاء، خبر قساوتها وتقلّب في مرارها، فقد أجبره والده على طلاقِ زوجه لأنها لم تُنجب، فندم على فراقها وبقي شغوفًا بها حتّى مات. يقول:
ألا إنَّ هِندًا أصبحَتْ منكَ مَحرَما
وأصبحْتَ منْ أدنى حُمُوَّتِها حَما
فأصبحتَ كالمغمودِ جَفنُ سِلاحِهِ
يُقلِّبُ بالكفّينِ قَوْسًا وأسْهُما
يوصّف الشّاعر حاله مستخدمًا التّجريد قاصدًا نفسه، مُستعينًا بضمير المخاطب «منكَ /أصبحتَ»، ليخرجه من حياديّته، ويجعلهُ مُساهمًا في ما سيجري عليه. ويتكرّر الفعل النّاقص «أصبح» ثلاث مرات يتوزّعها ضمير الغائب «أصبحتْ» مرة واحدة، ومرّتين بالاستناد إلى ضمير المُخاطب «أصبحْتَ». وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على تغيّر حاله بعد هند، هذا ما يؤشّر لعُمق العلاقة التي كانت تربطهما ودلّ عليها السّياق. إنّ حُرمة هند عليه بعد أن كانت حلاله «أصبحت منكَ مَحْرَما»، استتبعتْ أن يصيرا بعيديْ النّسب «أصبحتَ من أدنى حموَّتِها حَما»، وبالتّالي خرجت من دائرة التّبعيّة له، والنتيجة تبدّت في البيت الثاني حيث انتقل من الفاعليّة إلى العبثيّة في صورة تشبيهيّة عكستْ انطوائيّته وعزلتهُ وانسحابهِ من المشهد العام الذي يتطلّب منه الجهوزيّة التامّة «فأصبحتَ كالمغمود جفنُ سلاحه»، فجاء توظيف اسم المفعول «المغمود» ليدلّ على حالة القهر التي مورستْ وفُرِضتْ عليه وهي طلاق زوجه من غير رغبةٍ منه. ويُقال إن ابن عجلان خرج متوجّهًا بعدها إلى مكّة فمات.
 
أشعار ترف وجدانية 
وفي منحى آخر، نجدُ آثار الحبّ باديةً جليّةً عندما نغوصُ في شعر قيس ابن الملوّح، فقد أحبّ ابنة عمّه ليلى منذ الطّفولة، وكبر ونما هذا الحبّ ليشكّل هويّته الوجدانيّة والنّفسيّة، يُساهم في رسمِ حياته المُستقبليّة وما شابها من ألمٍ وحسرةٍ بعد التّفريق بين الحبيبيْن وإرغام ليلى على الزّواج بغيره. هذه الجزئيّة شكّلتْ مُنعطفًا في حياته جعلتْنا نتلمّسُ عُمق الصّراع والضّياع الذي عاشه حتى لقّب بالمجنون، فيقول:
رويْدًا لئلّا يركبَ الحبُّ والهوى
عظامكَ حتّى ينْطلقْنَ عَواريا
ويأخُذَك الوسواسُ من لاعجِ الهوى
وتخرسَ حتّى لا تُجيبَ المُناديا
وإنّي إذا صلّيْتُ وجّهْتُ نحوها
بوجهي وإن كان المُصلّى ورائيا
أصلّي فما أدري إذا ما ذكرتُها اث
نتيْنِ صلّيْتُ الضُّحى أم ثمانيا 
يوظّف قيسٌ التّجريد ليبنيَ صورةً فنيّة مؤثّرة، من خلال الاستعارات المُتتالية (يركب الهوى عظامكَ، ينطلقنَ عواريا، يأخذك الوسواس). فالنتائج المُترتّبة على العشق كارثيّة، تفعلُ فعلها في الجسد فتعرّي عظامهُ، ويغيبُ الشّغفُ عن الحياة بحيث يغيبُ العاشقُ في دهاليز نفسه ممّا يقطعه عن العالم الخارجي. فوجودُه عبارة عن جسدٍ من غير روح (لا تجيب المُناديا). ولم يقتصر أثر الحبّ على الجسد وما يُرافقه من نُحول وشحوب، وعلى النّفس وتشتّتها وضياعها، بل تعدى ذلك إلى الأمور العقائديّة، فصارت ليلى كعبتُه التي يُولّي وجهَه شَطْرها، وإذا كان من شروط قبول الصّلاة «حضور القلب» فإنّ قلب قيسٍ قد اختار وجهةً أخرى هي حضور المحبوب في قلبه.
وما بين غصْب ابن عجلان على طلاق زوجه، وغصْب ليلى على الزّواج بغير قيس، تُطالعنا قصّة ديك الجنّ الذي قتل زوجه غيرةً وحبًّا بعد أن طالتْها وشاية دبّرها ابن عمّه، ورثاها بقصيدة مؤثّرة وخالدة يقول فيها:
يا طلعةً طلع الحِمامُ عليها
وجنى لها ثمرُ الرّدى بيديْها
روَّيْتُ من دمها الثّرى ولطالما
روّى الهوى شفتيَّ من شَفَتيْها
قدْ باتَ سيفي في مجالِ وشاحِها
ومَدامعي تجري على خدّيْها
فوحقِّ نعليْها وما وطِئ الثَّرى
شيءٌ أعزّ عليّ من نعْليْها
ما كان قتليْها لأنّي لم أكنْ
أبكي إذا سقطَ الذّبابُ عليْها
لكنْ ضَننْتُ على العيونِ بحُسْنِها
وأنِفْتُ منْ نظرِ الحَسودِ إليْها 
في مشهد قصصيٍّ دراميٍّ بأحداثٍ مُتسلسلة، يرثي ديك الجنّ زوجه، تاليًا بيان إدانته وندمه، موزّعًا قصيدته بين ضميريْ المتكلم (روّيْتُ، شفتيَّ، سيفي، مدامعي، أبكي، ضننْتُ، أنفتُ) الذي استأثر بكلّ الأفعال، فكان الشّخصيّة الفاعلة والمتحكّمة في أحداث هذه القصّة المأسويّة، وضمير الغائب (دمها، بيديْها، شفتيْها، وشاحها، خدّيْها، نعليْها)، المتمثّل بالضّحيّة الغائبة عن مسرح الفعل، ولكنّها حاضرة في كلّ تفاصيل المشهد. وفي تناقض صارخ يتكرّر الفعل روّى ولكنه يكشف عن فاعليْن مُختلفيْن ونتيجتيْن حتميّتيْن، فما بين الهوى والقتل بَوْنٌ شاسعٌ يكشِفُ دواخل الشّاعر المُستثار وحالة الغضب التي تملّكتْهُ فجعلتْهُ يُخرجُ الوحشَ المُختبئ في داخله فيقتُل السّكينة والأمان، مُبرّرًا فعلته بالغيرة التي قضتْ عليه أوّلا وتركتْهُ مشتّت الفكر لا يلوي على شيء إلّا تلاوة بيان الوجع والألم والنّدم.
 
أحوال المحبين تنعكس على شعرهم
وإذا كان الشّعر هو المُعبّر عن أحوال الشّاعر، كاشفا ما تنطوي عليه من أسرار وخفايا، مُبرزَا التّناقضات التي تتأرجح بين الشكّ والغيرة، والوصل والهجر، فقد كان شعر جميل بن معمر سجلًّا حافلًا بالتّناقضات، فأول لقاء جمعهما عند الماء حيث تعاركا حول أولويّة الانتفاع به، فالماء في رمزيّته للحياة متناقض تمامًا والبيئة الصّحراويّة وما تُمثّله من شظف العيش وقساوته. ولعلّ «العراك الذي يسبق العشق، يعكس حالة التوتر التي ترافق الانجذاب إلى الآخر من جهة، والخوف من عدم استجابته من جهة أخرى، بما يجعل الحبّ نوعًا من الرقص على الحبال الفاصلة بين الشّغف والتّوجّس، أو بين الانجذاب وسوء التّفاهم» كما يقول شوقي بزيع. ومن الأخبار ما رواه البغدادي في «خزانة الأدب»، فبعد أن ودّع جميل ٌبثينة وذهب إلى الشّام واصلت بعده حَجَنة الهلالي، وبعد عودته أصرّ حجنة أن تُعلم جميلا بذلك فخاطبته قائلة:
ألم ترَ أنّ الماء غُيّرَ بعدَكم
  وأنّ شِعابَ الوصْلِ بعدكَ حُلّتِ
فردّ جميل:
فإنْ تكُ حُلّتْ فالشّعابُ كثيرةٌ
وقدْ نهلَتْ منها قلوصي وعلّتِ
وفي جملة من الأخبار نستطيع القول إن الحبّ بين جميل وبثينة لم يكن خلوًا من الشكّ والرّيبة والغيرة وتهمة الخيانة بين الجانبين، وهذا التناقض موجود في طبيعة العاطفة الإنسانيّة في تعبيرها لأنّها لا تلتزم الدقّة المنطقيّة في جميع أحوالها.
وبعيدًا عن التناقضات واللعب على حبالها في رحلة للموت تارة، واتّهام بالخيانة تارة أخرى، فإنّنا نقع على نماذج زخرتْ بكلّ معاني الحبّ والوفاء، ذابت في لواعج الشّوق، فكان أنيسُها يُرتّلُ آيات الفَقْدِ ويُموسقُها على أنغام القلب وإيقاع الحياة. ففي لفتة وجدانيّة للشريف الرضي، غذاّها بكلّ ما فيه من وجْدٍ قديم مُهيمنٍ على روحه، مُشرِكًا فيها جوارحَه كلّها يقول:
ولقدْ مرَرْتُ على ديارِهِمِ
وطلولُها بيدِ البِلى نَهْبُ
فوقفْتُ حتّى لجَّ من لَغَبٍ
نَضوي ولجَّ بعذليَ الرَّكْبُ
وتلفَّتَتْ عيني فمذْ خفيَتْ
عنّي الطّلولُ تلفَّتَ القلبُ
إن الجمالية التي يكتسبها المكان تختلف وتتفاوت من مبدعٍ إلى آخر. يقول يوري لوتمان: «إن جلّ مفاهيم الإنسان الأخلاقية والنفسية والاجتماعية وحتى الأيديولوجية، لا يعبّر عنها إلا تعبيرًا مكانيًا، إنه يمدّ الإنسان بتصوراته ومفاهيمه، كما أنه يشكل له - وبخاصة للمبدع - حلًا مريحًا وآمنًا إذ ينقذه من السقوط من السطحية ويخلّصه من المباشرة في معالجة الأحداث». 
وقد تصوّر غاستون باشلار المكان تصوّرًا فنيًا بوصفه صورة متخيّلة فاشتغل على تبيان الوظيفة الرّمزية للمكان ومن ثمّ القيمة التي تشبّع بها المكان إذا، بهذا المفهوم يكون المكان قد تجاوز المفهوم الكلاسيكي له ليشمل الأبعاد السيكولوجية والسّمات الإنسانية. «إن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكانًا ذا أبعاد هندسية وحسب، فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط بل بكل ما في الخيال من تحيّز».
فالمكان «ديارهم» مرتبط بالعناصر الوجدانيّة وما تتركهُ من آثار تُحتّمُ على الإنسان الانجذاب والتّعلق به. والوقوف على الأطلال لم يكنْ إلا لتجديد الذّكرى والحنين لمن كان يُزيّن المكان بحضوره، فالحضور وجدانيٌّ بطبيعة الحال وهذا ما جعل الشريف الرضي يقفُ مطوّلًا مع علمهِ بخلوّ المكان من ساكنيه «وطلولها بيد البِلى نهبُ». إنّ الولوج إلى أعماق النّفس البشريّة يفتح بابًا للسؤال عمّا تختزنُهُ من مشاعر وأحاسيس تتفاعل في ما بينها لتطفوَ على السّطح وتبدو آثارها جليّة على الجسد، فتشتركُ الحواس كلّها في رسم هذا المشهد المؤثر، فحيث تتعذّر الرّؤية البصريّة «خفيت عني الطلول»، تحلّ الرؤية القلبيّة لتكون أعمّ وأشمل «تلفّت القلبُ» ■