للشّعر عمودٌ آخر يسند مجد بعلبكّ

للشّعر عمودٌ آخر  يسند مجد بعلبكّ

بعلبكّ اللّبنانيّة، أو هليوبوليس (مدينة الشّمس) وفق التّسمية اليونانيّة التّي استمرّت شائعة في الحقبة الرّومانيّة، يعود تاريخها إلى العصر البرونزيّ الأوسط في القرن الثّلاثين قبل الميلاد وفق ما بيّنت الحفريّات المكتشفة قبالة معبد جوبيتر.
يُنسَب اسمها إلى الإله «بَعْل»، إله العواصف والرّياح، الّذي ورد ذكره في القرآن الكريم على لسان النبيّ إلياس مقرّعًا قومه: ﴿أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ﴾. وعليه، يكون اسمها مركَّبًا من كلمتين: «بعل» (Ba`al) وبكّ (Bek) الّتي رأى بعضهم أنّها اختزالٌ لكلمة (Bekaa) الّتي تشير إلى سهل البقاع؛ وتاليًا فالاسم المركَّب «بعل-بك» 
(Ba`al-Bek) يعني إله البقاع.

مدينة بعلبكّ، اليوم، هي عاصمة محافظة بعلبكّ-الهرمل في لبنان. تقع شماليّ سهل البقاع، وشرقيّ نهر اللّيطانيّ. تبعد عن العاصمة بيروت حوالي 83 كلم2 من ناحية الشّمال الشّرقيّ. تحيط بها من الشّرق والغرب سلسلتا جبال لبنان الشّرقيّة والغربيّة اللّتان تُكلَّلان بالثّلوج شتاءً. ولذلك فقد حباها الله طبيعة خلّابة غنيّة بالمياه العذبة ووفرة الخضرة وخصوبة التّربة، وكان طقسها معتدلًا صيفًا، وشديد البرودة شتاءً. أمّا ارتفاعها عن سطح البحر، فيبلغ 1163م. 
 
بعلبكّ في عيون الشّعراء الوافدين إلى رحابها من الجاهليّة إلى ما قبل عصر النّهضة
برغم عراقة تاريخ بعلبكّ، فإنّ حضورها في الشّعر العربيّ إلى ما قبل عصر النّهضة، وهو مجال اهتمامنا في هذا المقال، يحسب ضئيلًا جدًّا قياسًا بغيرها من الحواضر العربيّة القريبة منها في بلاد الشّام كدمشق وحلب وحمص... ولعلّ ذلك مردّه إلى تبدّل مكانة المدينة ووظيفتها في ظلّ الحكم العربيّ الإسلاميّ؛ فبعد أن كانت من حواضر الثّقافة والفكر والعبادة في الحقبة الرّومانيّة، أمست تشغل دورًا يكاد ينحصر بالوظيفة العسكريّة، وينأى بها عن مراكز فاعليّة صنع القرار السّياسيّ تحت عباءة الخلافة الإسلاميّة، فكانت ثكنة تمدّ جيوش الفاتحين بالمقاتلين وتوفّر لهم الحماية والمداد من العسكر والغذاء.
ومع ذلك، فثمّة إشارات سريعة إلى بعلبكّ تضمّنتها المدوّنة الشّعريّة العربيّة بدءًا من العصر الجاهليّ. فالشّاعر امرؤ القيس الكنديّ يذكرها في قصيدةٍ رائيّةٍ يُصوّر فيها رحلته إلى قيصر الرّوم بتركيا لطلب النّصرة على بني أسد، ويُشير إلى أنَّ بعلبكّ وأهلها قد تنكّروا له كما أنكره ابن جريج في ريف حمص: 
لَقَدْ أَنْكَرَتْني بَعْلَبَكُّ وَأَهْلُها  
وَلَابْنُ جُرَيْجٍ في قُرى حِمْصَ أَنْكَرا
وبما أنّ بعلبكّ شكّلت صلة وصلٍ بين شبه الجزيرة العربيّة وقلب الشّام، فقد كانت محطّةً مفصليّة يحطّ فيها المسافرون رحالهم في طريق سفرهم. ومن هؤلاء الشّاعر النّابغة الشّيبانيّ في الحقبة الأمويّة، وهو شاعر بدويّ كان يفد على الأمويّين في دمشق، يمدحهم ليحظى بنوالهم. ويبدو أنَّه، في إحدى أسفاره الشّاميّة، نزل ببعلبكّ رفقة اثنين من صحبه، ولكنّ دفق الشّوق غمر روحه بعيدًا من مسقط رأسه، فجعل قلبه فارغًا إلّا من لظى حبيبته «أميمة»، وسلبه هناءة ليلته الّتي حاصرها الأرق والشّكوى، غير أنَّه نَعِم بطيف تلك الحبيبة، فبشَّ وانفرجت أساريره:
أَرِقْـــتُ وَصـــاحِبـــــايَ بِبَعْـلَبَــــكِّ
وَأَرَّقَنـــي الهُمــومُ مَعَ التَّشَكّــي
وَهَيَّـــجَ شَـــوْقَ مَحْزونٍ عَميــدٍ
خَيالٌ مِنْ أُمَيْمَةَ هاجَ ضِحْكي
نَعِمْتُ بِها وَقُلْتُ: عِمي ظَلامًا
وَإِنْ أَصْبَحْتِ أَوْ أَزْمَعْتِ تَرْكي
ويقتفي الشّاعر ابن الرّوميّ، في الحقبة العبّاسيّة، منحى امرئ القيس في الإشارة إلى بعلبكّ المتنكّرة له كما أنكرته بغداد صاحبة التّبْل، أي الّتي أذهبت عقله وَجْدًا وحبًّا، وذلك في قصيدة طويلة يُعاتب فيها ممدوحه أبا عبدالله الباقطانيّ الّذي تنكّر لمديحه، ولم يُنلِه من عطائه ما أغدقه على منافسه البحتريّ؛ إذ يقول مُعدّدًا الأماكن الّتي أنكرته:
لَقَدْ أَنْكَرَتْني بَعْلَبَكُّ وَأَهْلُها
بَلِ الأَرْضُ بَلْ بَغْدادُ صاحِبَةُ التَّبْلِ.
أمّا أبو العلاء المعرّيّ، فيُشير، في لزوميّاته، إلى بعلبكّ ذاكرًا رحلة عمرو بن كلثوم إليها، وأخبار صدّه عن الكأس والشّراب فيها:
لَقَدْ بَعِلَ المَرْءُ عَمْرو بِها  
فَصُدَّ عَنِ الكَاسِ في بَعْلَبَكْ
وبملاحظة الشّواهد المقدَّمة أعلاه، نتبيّن أنَّ بعلبكّ شكّلت فضاءً للإقامة المؤقّتة، وحاضنةً للمسافرين العابرين أراضيَها. وقد انتظمت دلالات القصائد الدّائرة في فلكها ضمن مدًى دلاليّ ينحو باتّجاه الانكفاء عنها. 
وبرغم رفعة مكانة جميع من ذكرناهم من الشّعراء الوافدين إلى بعلبّك، يبقى الشّاعر المتنبّيّ أعظم شاعر عربيّ وفد إليها، وأقام في ربوع بلدة نحلة الّتي تعدّ إحدى ضواحيها، إذ يقول: 
مــا مُقــامـي بِــأَرْضِ نَحْـلَـــةَ إِلّا
كَمُقــــــامِ المَسيحِ بَيْــنَ اليَهــــودِ
مَفْــرَشــــي صَهْـــوَةُ الحِصــانِ 
وَلكِـــنّ قَميصي مَسْرودَةٌ مِنْ حَديدِ
أَيْنَ فَضْلــي إِذا قَنِعْتُ مِــنَ الدَّهْـــ    
ـــرِ بِعَيْـــشٍ مُعَجَّـــلِ التَّنْكيــدِ؟!
ضاقَ صَدْري وَطالَ في طَلَبِ الرِّزْ  
قِ قيامـــــي وَقَـــلَّ عَنْهُ قُعودي
أَبَـدًا أَقْطَــعُ البِـلادَ وَنَجْمي
فــي نُحوسٍ وَهِمَّتي فـي سُعودِ
أَنا تِــرْبُ النَّـدى وَرَبُّ القَوافـي
وَسِمامُ العِـــدى وَغَيْظُ الحَسودِ
أَنــا فـي أُمَّــةٍ تَـــدارَكَهــا اللَّــــ
ــــهُ غَـريبٌ كَصالِحٍ فـي ثَمودِ
يذكر شارحو الدّيوان أنّ الشّاعر قال هذه القصيدة في صباه، وهذا يدلّ على أنّ بعلبّك كانت موطنًا فاعلًا في مرحلة تكوينه الذّاتيّ، والنّفسيّ، والشّعريّ، وبخاصّة أنّه أقام فيها مدّة معيّنة أشار إليها بلفظ «مقام»، ولم تكن مجرّد طريق عبور وانتقال فحسب، وفيها اكتسب لقبه (المتنبّيّ) في إثر هذه القصيدة وبسبب البيتين الأخيرين تحديدًا؛ إذ ورد أنّ عثمان بن جنّيّ قال: «سمعت أبا الطّيّب المتنبّيّ يقول: إنّما لُقّبت بالمتنبّيّ لقولي: «أنا ترب النّدى... كصالح في ثمود». 
ولئن شبَّه المتنبّي أحوال مقامه في نحلة بمقام المسيح بين اليهود، فإنّ ذلك يدلّ على أنّ مقامه فيها انطوى على علامات الضّيق، والانزعاج، والشّعور بالغربة، وافتقاد التّقدير... ولكنّ هذا الموقف الاغترابيّ وسط قومه يتجاوز نحلة وبعلبك ليشمل الأمّة بأسرها «أنا في أمّةٍ تداركها الله غريبٌ كصالحٍ في ثمودِ». وقد يُرجَع هذا الشّعور بالضّيق إلى نفسيّة المتنبّيّ المتطلّعة إلى المجد (أبدًا أقطع البلاد، وهمّتي في سعود، أنا ترب النّدى وربّ القوافي...) ورفضه العيشَ العاديّ السّهل الّذي يحجب فضله وشرفه (أين فضلي إذا قنعت من الدّهرِ بعيشٍ معجَّلِ التّنكيد؟!)، أكثر من إرجاعه إلى سوء الضّيافة في نحلة. 
ويذهب بعض الدّارسين إلى أنّ الكاتب أبا عليّ هارون بن عبدالعزيز الأوراجيّ اتَّخذ بلدة نحلة البعليّة موئلًا لاستضافة المتنبّيّ عنده. ولكن، ما الدّليل على ذلك؟ يستدلّ هؤلاء بقصيدة أخرى للشّاعر يذكر فيها رحلته إلى الأوراجيّ قاطعًا عقبات جبال لبنان المكسوّة بالثّلوج، يقول فيها:
بَيْنـــي وَبَيْـــنَ أَبـــي عَلِـــيٍّ مِثْلُـهُ 
شُمُّ الجِبـالِ وَمِثْلُـهُنَّ رَجـــــــاءُ
وَعِقـــــابُ لُبْنــانٍ وَكَيْفَ بِقَطْعِها  
وَهُوَ الشِّتاءُ وَصَيْفُهُنَّ شِتاءُ
لَبِسَ الثُّلوجُ بِها عَلَيَّ مَسالِكي  
فَكَــأَنَّهــــا بِبَياضِهـــــا سَـــوْداءُ
وَكَــــذا الكَريـــــمُ إِذا أَقــــامَ بِبَلْـدَةٍ  
سالَ النُّضارُ بِها وَقامَ الماءُ
ولكنْ، وإن يكن المتنبّيّ قطع جبال لبنان الّتي أوقعته في تيه مسالكها لاختلاط الأمكنة عليه بسبب كثافة ثلوجها، وإن تكن الجغرافيا اللّبنانيّة تُنبئنا بأنّ الوصول إلى نحلة في بعلبكّ يمرّ عبر طريق في سلسلة جبال لبنان الغربيّة إذا كان العابر إليها قادمًا من السّاحل في الغرب، فإنَّه لا قرينة نصّيّة وسياقيّة تثبت ذلك في القصيدة، كما أنّ عبور جبال لبنان لا يُحتّم أن تكون الجهة المقصودة هي بلدة نحلة عينها؛ إذا تلازم بين المكانين؛ فلربّما كان موطن الأوراجيّ في السّاحل والمتنبّيّ يعبر الجبال إليه من الشّرق إلى الغرب! فضلًا عن أنّ الأحوال النّفسيّة والوجدانيّة والمرامي الدّلالية والمقاصد التّداوليّة في القصيدتين متغايرة، إن لم نقل متباينة؛ فأين تشبيه غربته بغربة صالح في ثمود في القصيدة الأولى الّتي قالها في نحلة من قوله (وكذا الكريم إذا أقام ببلدة سال النّضار بها وقام الماءُ) في مدحه الأوراجيّ في القصيدة الثّانية؟! 
ويُضاف إلى قائمة الشّعراء ممّن وفدوا إلى بعلبكّ - عابرين أو مقيمين مؤقّتًا - الشّاعر حسّان بن نمير الملقَّب بعرقلة الكلبيّ الّذي قاده ترحاله الدّائم زمنَ الأيوبيّين إلى النّزول ببعلبكّ. ولكنَّه، في إحدى اللّيالي الأرقة، يتنازعه الشّوق إلى حبيبته الّتي يهيم فؤادها بها، والّتي شطرت كيانه الوجوديّ نصفين: الجسم في بعلبكّ حيث السّفر، والرّوح في دمشق حيث الحبيبة، فيقول منكرًا على نفسه هناءة العيش وهو ناءٍ بعيدًا من موطنه وحبيبته: 
كَيْفَ الحَياةُ لِمُسْتَهامٍ جِسْمُـهُ   
في بَعْلَبَكَّ، وَفي دِمَشْقَ الرّوحُ؟!
ظَبْيٌ بِها، لَمْ يَرْعَ إِلّا مُهْجَتي   
وَالظَّبْـــــيُ مــا مَرْعاهُ إِلّا الشّيحُ
تَشْتاقُــــهُ عَيْنــي، وَيَبْكيها دَمًا  
وَالقَلْبُ، وَهْـــوَ بِصَدِّهِ مَجْـــروحُ
وحدث في زمن الأيّوبيّين أن حرّر الأيوبيّون قلعة بعلبّك بقيادة صلاح الدّين من احتلال الصّليبيّين، فراح الشّعراء يُمجّدون ذلك الفتح الجديد، وينقشون تلك البطولات الخالدة في الذّاكرة والوجدان العربيّين بقصائد حماسيّة حفظتها المدوّنة الشّعريّة، ويكفي أن نذكر ميميّة العماد الأصبهانيّ في مدح صلاح الدّين وتبيان صنيعه المأثور في تحرير المدينة وقلعتها، فيقول:
بِفُتوحِ عَصْرِكَ يَفْخَرُ الإِسْلامُ
وَبِنـــورِ نَصْــرِكَ تُشْرِقُ الأَيّامُ 
وَبِفَتْحِ قَلْعَــــةِ بَعْلَبَـــكَّ تَهَـذّبَتْ   
هذي المَمالِكُ وَاسْتَقامَ الشّامُ
أمّا ابن الورديّ، في العصر المملوكيّ، فقد عاين آثار سيلٍ جارفٍ ضرب بعلبكّ، ونقل إلينا بعض مشاهداته المحزنة موظّفًا بعض المصطلحات النّحويّة (المزج والتّركيب) في تصوير آثار ذلك السّيل الّذي استفحل في المدينة (المركَّب اسمها تركيبًا مزجيًّا)، ليخلّف وراءه برودة شديدةً قرصت الأجسام، ولهيبًا محرقًا لسع القلوب المكسورة:
سَيْلٌ طَغى في بَعْلَبَكَّ وَراعِدٌ  
وَلَهيبُ نــارٍ ثـــارَ لِلتَّعْذيـبِ
فَلَئِنْ تَرَكَّبَ ثُمَّ مازَجَ سورَها  
فَلِبَعْلَبَكَّ المَزْجُ في التَّرْكيبِ
ولكن، بعد تتبُّعنا حضورَ بعلبكّ في شعر الوافدين إليها، نسأل عن الشّعراء البعليّين: من هم شعراء بعلبكّ؟
 
شعراء بعلبكّ حتّى القرن التّاسع عشر
ما نلاحظه، حسب اطّلاعنا، أنَّ ديوان الشّعر العربيّ لم ينطوِ، منذ أن افتتح المسلمون بعلبكّ في العهد الرّاشديّ، على اسم أيّ شاعر بعليّ، إن كبيرًا أو مغمورًا، إلى زمن قيام الدّولة المملوكيّة، برغم بزوغ عددٍ لا بأس به من العلماء البعليّين في علوم الفقه والحديث والفلك والكيمياء... ولعلّ أقدم الشّعراء البعليّين المذكورين في المصادر العربيّة هو شمس الدّين ابن الموصليّ البعليّ (1300-1372م) الّذي عاصر الدّولة المملوكيّة، وبرع في النّحو والفقه إلى جانب الشّعر والأدب. وقد حفظت المصادر له عددًا من القصائد تدور على أغراض الشّعر المألوفة.
أمّا في الحقبة العثمانيّة، وقبل عصر النّهضة، فقد أحصيتُ ذكر خمسة من الشّعراء البعليّين، وهم: بهاء الدّين العامليّ، ومحمّد وموسى الحرفوشيّان، وعبد الرّحمن التّاجي البعلبكيّ، وعبد الحيّ بن أبي بكر البعليّ الملقَّب بـ«طرَّز الرّيحان». 
ويعدّ البهائيّ العامليّ (العامليّ النّسب، والبعليّ المولد والنّشأة) أشهر هؤلاء الشّعراء. برع في الشّعر وعلوم الفقه والحديث والنّحو والحساب والفلك، وترك ديوانًا يشتمل على قصائد تتراوح أغراضها بين الشّعر الدّينيّ والوصف والرّثاء والعشق الإلهيّ والإخوانيّات والحكمة والمواعظ.
أمّا الحرفوشيّان (محمّد وموسى)، فهما سليلا عائلة الحرافشة الأمراء الّذين نازعوا العثمانيّين السّلطة في بعلبكّ وسهل البقاع، وأقاموا إمارة ذات نفوذ وسلطان طوال ثلاثة قرون ونصف القرن تقريبًا (1480-1866م). اشتهر محمّد بأنّه من أهل الشّعر والعلم والفضل والتّحقيق، وعُرف بكثرة تنقّلاته بين موطنه «كرك نوح» في بعلبكّ، ودمشق، وحلب، وبلاد الحجاز، وإيران. ترك ديوان شعر، ولكن لم يصلنا منه إلّا 329 بيتًا تتوزّع بين عشر قصائد و26 مقطوعة، وهي حصيلة جيّدة بلا شكّ. ذكره المحبّيّ في (خلاصة الأثر) قائلًا: «وكان في الشّعر مكثرًا محسنًا في جميع مقاصده، وقد جمعت من أشعاره أشياء لطيفة». ولئن وقفنا على بعض شعره، أمكننا تبيان طلاوة أسلوبه، وعذوبة ألفاظه، ورقّة معانيه وصدقها، ويتبدّى ذلك في قصيدةٍ يحنّ فيها إلى موطنه الأوّل حيث أيّام الصّبا الهنيئة الّتي انقضت سريعة:
رعَى اللهُ أَوْقاتًا بِها كُنْتُ أَجْهَلُ الــــ
فِـــــراقَ وَأَيّــــامًا بِهـا أُنْكِــرُ الجَفـا
تَقَضَّتْ كَلَمْحِ العَيْنِ أَوْ زَوْرِ طارِقٍ
أَتى مُسْرِعًا أَوْ بارِقٍ في الدُّجى خَفــا
وَأُبْــدِلْــــتُ مِنْهــــــا فُرْقَــــــــةً وَتَشَتُّتًــــا
وَبُعْــدًا وَهَــجْــرًا دائِــمًا وَتَــأَسُّفــا
فَيـا رَبِّ أَنْعِــمْ بِاللِّقـاءِ لِمُدْنِـفٍ
وَإِلّا فَكُـنْ بِالحَتْـفِ يا رَبُّ مُسْعِفـا.
أمّا الحرفوشيّ الآخر (موسى)، فكان «بطلًا شجاعًا جوادًا مقدامًا لعمل الخير فاضلًا شاعرًا أديبًا بليغًا» حسب وصف المحبّيّ. وتتجلّى الفروسيّة والبطولة والحماسة في قصائده بصورةٍ بيّنةٍ، ومن ذلك قصيدة داليّة يفتخر فيها على أعدائه بشجاعته ومهابته ونسبه المتّصل بالأمير عليّ الحرفوشيّ قائلًا: 
كَـــأَنَّ رَأْسَ جُنـــودِ الضِّــدِّ لَيْــسَ لَهُ عِلْمٌ
بِـــأَنَّ بِـــــــلادي مَــــــوْطِــــــنُ الأَسَـــــدِ
وَمِنْ مَهابَةِ سَيْفي فـــــي القُلوبِ غَـــدَتْ  
أُمُّ العَـــدُوِّ لِغَيْــرِ المَـــوْتِ لَـــمْ تَلِـــدِ
فَلْيَرْقُبـوا صَـدْمَــةً مِنّـي مُعَـوَّدَةً
أَنْ لا تَفِرَّ لَهـــا الأَعْـداءُ فـــي البَلَدِ
أَلَسْتُ نَجْـــلَ عَلِـيٍّ وَهْـوَ مَـنْ عَرَفوا
مِنْـــهُ المَخافَةَ في الأَحْشاءِ وَالكَبِدِ
وَإِنَّني أَنـا مـوسى مِنْـهُ قَـدْ وَرِثَتْ
كَفّي سُيوفًا تُذيبُ الأَمْنَ في الخَلَدِ 
أمّا «طرَّز الرّيحان» وعبد الرّحمن التّاجي، فهما ممّن اتّصلوا بالحرافشة في بعلبكّ. اشتهر الأوَّل بأنَّه شاعر وزاهد، وله ديوان شعرٍ جمعه بنفسه. وأمّا الثّاني، فاشتُهر بقصيدة في مدح الأمير عمر الحرفوشيّ، يؤرّخ فيها تاريخ إنهاء تشييد قصره سنة 1666 فيقول: 
لَيْثٌ يُريكَ البَرْقَ في يَوْمِ الوَغى
غَضَبٌ يُجَرِّدُهُ وَطَرْفٌ أَجْرَدُ
مِــــنْ أُسْرَةٍ سادوا الوَرى بِمَكــارِمِ
عِـــزٍّ وَآلاءٌ لَهُــمْ لا تُجْحَــــدُ
أَعْني الحَرافِشَةَ الكِرامَ وَمَنْ لَهُـم
عِزٌّ يَذِلُّ لَهُ الأَعَزُّ الأَصْيَــدُ
قَــــدْ كـانَ هذا القَصْرُ قَفْرًا خالِيًا
وَلَهُ البِناءُ حِكايَةٌ تُسْتَبْعَــدُ
فَجَعَــــلْــــتَ مَنْظَــرَهُ بَهِـيًّـا رائِقًـا
وَتَرَكْتَ فيهِ العَنْدَليبَ يُغَــرِّدُ
وفي الأخير نعود إلى السّؤال عن سبب غياب الشّعراء البعليّين قبل زمن إمارة الحرافشة، وسبب قلّتهم في أثنائها، حتّى وإن شرّع أمراؤها أبوابهم للشّعراء ممّن أثنوا عليهم وأطروا فعالهم أمثال السيّد محمّد الحسينيّ، ونيقولاوس الحلبيّ، وطرّز الرّيحان البعليّ، وعبد الرّحمن التّاجي... فنرجّح أنّ غياب أسماء شعراء بعليّين غيابًا تامًّا، قبل الحقبة الحرفوشيّة، يتّصل بغياب وجود إمارة ذات شأن في تلك المنطقة، نظرًا إلى التّلازم الثّابت بين مركز السّلطة وحركة الشّعر، وبين المال وتطلّعات الشّعراء، كما يشهد على ذلك الموروث العربيّ. أمّا قلّتهم في زمن الحرافشة، فقد يرجع سببها إلى سياسة الطّمس المتعمّد الّتي مورست بحقّ تاريخ تلك المنطقة وإرثها بعد أن نجح العثمانيّون، بمعاونة دوليّة من فرنسا وإنكلترا، في القضاء على سلطة الأمراء الحرافشة ■