صُور رائدة الملاحة البحرية

صُور  رائدة  الملاحة  البحرية

ولاية صُور بسلطنة عُمان رائدة التاريخ البحري ولقبها «العفية»، لها صدارتها بالتاريخ البحري منذ القدم، حيث عرف أهلها بريادتهم في خوض أعالي البحار، وامتدت تجارتهم عبر المحيطات، فكان المحيط الهندي ممرًا طيعًا لسفنهم بضفتيه الهندية والإفريقية، وتقع ولاية صُور في جنوب شرق السلطنة على المحيط الهندي، حيث ساهم موقعها الجغرافي المميز في جعلها مركزًا رئيسيًا للتجارة في شبه الجزيرة العربية وملتقى للطرق البحرية القديمة، والتي قد اتخذها مالك بن فهم الأزدي، وهو أول ملك لعُمان ولتنوخ عاصمة لمملكته.

 

تعتبر صُور عاصمة المنطقة الشرقية في سلطنة عُمان وتعد الميناء التجاري الذي عرف بنشاطه خلال القرون الماضية، كما ذاع صيت المدينة كمركز لصناعة السفن، حيث كان للمدينة أسطول ضخم من السفن جابت البحار والمحيطات ونقلت مختلف البضائع من موانئ الهند وشرق إفريقيا بل وحتى ميناء كانتون في الصين، كما تشتهر المدينة في صيد الأسماك التي تعد من موارد الدخل الرئيسية التي يعتمد عليها السكان، حيث تشتهر سواحلها بوفرة أسماك التونة الكنعد.

من الميناء تبدأ الحِكاية 
وعلى الرغم من زياراتي السابقة للسلطنة خلال عملي على كتابي المصور الذي أصدرته عن العلاقة التاريخية بين البرتغال وسلطنة عُمان إلا أن القيام بزيارة إلى صُور لم يكن إلا مؤخرًا عندما شاهدت إعلانًا عن أول مهرجان تراثي بحري في المدينة، فقمت حينها بالترتيب للرحلة، حيث رأيت أنه الوقت الأمثل لزيارتها لمشاهدة تلك الأجواء التراثية والتعرف أكثر على تلك المدينة التي لطالما تردد ذكرها في التاريخ البحري الخليجي. 
بعد الوصول إلى صُور، التي تبعد حوالي 150 كم عن العاصمة مسقط توجهت إلى كورنيش المدينة، حيث كان الصباح في أوله، حاملًا كاميرتي أحاول أن أوثق بعدستي المعمار والتاريخ والإنسان. كعادتي في زيارة أي بلد أتجول بحرية بعيدًا عن استخدام خرائط الأجهزة الحديثة، أو خرائط «جوجل». بادرت بسؤال رجل بالقرب من الفندق يبدو من هيئته أنه من سكان المدينة من ملابسه وعمامته الأنيقة الألوان، سألته عن مقصدي، وهو خور البطح «الميناء القديم لمدينة صُور»، فأشار لي بيده أن أواصل السير إلى الأمام، وأخبرني أن المسافة بعيدة نوعًا ما، خصوصًا أني أحمل حقيبتي المثقلة بمعدات التصوير، ولم أكد أن أخطو خطوات قليلة حتى عاد بسيارته وعرض علي أن يوصلني خلال طريقنا.
 عرفته بنفسي وعن سبب زيارتي وعن اهتمامي بالتاريخ البحري والموروث الشعبي فقال أنا متفرغ تمامًا اليوم وأنت ضيفي، كعادة كرم أهل عُمان، أصر علي لقبول الدعوة. بالمناسبة الرجل الكريم يدعى سالم المخيني، وهو من أسرة اشتهرت في التجارة البحرية وبامتلاك أسطول من السفن لعبت دورًا كبيرًا في اقتصاد المدينة في القرنين الماضيين.

«فتح الخير»... أيقونة المدينة 
عُرفت عُمان قديمًا بعدة أسماء، منها ماجان والتي تعني باللغة السومرية القديمة الميناء أو أرض السفن، وذلك بسبب شهرة أهلها في صناعة وركوب البحر، حيث تؤكد النصوص القديمة على ريادة أهلها في ركوب البحر منذ الأزمنة الغابرة، وقد ورد اسم ماجان في نصوص سومرية وأكادية، وعن أهلها الذين عرفوا ببناء السفن منذ زمن قديم وقد ركبوا البحار وتاجروا وتوسطوا في نقل التجارة من مختلف السواحل قبل أكثر من أربعة آلاف سنة، حيث كانت واحدة من المراكز الحيوية على طريق الحرير بين الشرق والغرب. ولذا سمي الخليج وعُمان تحديدًا بحق مهد الملاحة البحرية، حيث شهدت محاولات الإنسان الأولى لارتياد البحار. ويعتقد بعض الباحثين ــ استنادًا إلى دراسات تعود إلى هيرودوت واسترابون وفلافيوس وغيرهم ــ أن جذور سكان المدن الفينيقية المنتشرة على سواحل لبنان وسورية وفلسطين وصولًا إلى قرطاج تعود إلى جنوب شبه الجزيرة العربية، حيث نجد بعض التشابه في أسماء تلك المدن مثل صُور عُمان التي أقام الفينيقيون مستوطنة على غرارها في الجنوب اللبناني.
إن فنون الملاحة وصناعة السفن في عُمان لها تاريخ يعود إلى أكثر من أربعة آلاف سنة، وقد ظهر فيها العديد من الملاحين والتجار الذين كانوا أول مَن سلك الطرق البحرية الجديدة، كما ابتدعوا أساليب الملاحة وأنواعًا كثيرة من المراكب، ولعل من أبرز تلك المدن العُمانية التي اشتهر أهلها بتلك الحرفة هم أهالي مدينة صُور حيث كانت أحواض بناء المراكب في صُور تتمتع بشهرة كبيرة في المحيط الهندي، وعرفت بأنها أنشط مراكز بناء السفن في الجزيرة العربية. 
وواصل العُمانيون تميزهم البحري في غرب المحيط الهندي لقرون من الزمان، ويعود لملاحيها الفضل في الكثير من التطور في فنون الملاحة عند العرب، من أهمها استعمال الإبرة المغناطيسية والاستمرار في تطوير «الرحمانيات»، وهي قوالب شعرية تتضمن معلومات بحرية وجغرافية ومعلومات عن النجوم وجداول فلكية وخطوط العرض الخاصة بالمرافئ التي تقف عليها المراكب، بالإضافة إلى معلومات عن الرياح والسواحل والشعب المرجانية والمعالم المرئية وأنواع كثيرة غيرها.  ومن أبرز الشخصيات العُمانية التي اقترن اسمها بتاريخ الملاحة وعلوم البحار في تلك الفترة الملاح العُماني شهاب الدين أحمد بن ماجد، صاحب كتاب «الفوائد في أصول البحر والقواعد» الذي يعتبر مرجعًا من المراجع البحرية النادرة، والذي يعتبر غاية ما وصلت إليه الكتابة العربية عن الملاحة، وقد ألفه في الفترة الواقعة بين سنة 895-896م، والذي يقال إن الملاح البرتغالي فاسكو دي جاما استعان به لاكتشاف رأس الرجاء الصالح والطريق المؤدي إلى الهند. 
افتتحنا جولتنا التاريخية بزيارة سفينة فتح الخير، وهي سفينة من نوع الغنجة التي تشتهر بها ولاية صُور، وتتخذ منها شعارًا لها وتتميز السفينة بمؤخرة عريضة مزخرفة بحفريات ونقوش جميلة دقيقة وفي مقدمتها مجسم خشبي أشبه بطائر الهدهد وتاج ومنقار وقرنين يتجهان إلى الأمام، وتدل المؤخرة العريضة العالية للغنجة على مدى تأثر صناع السفن في عُمان بالأسلوب الأوربي، حيث يعتقد أن الغنجة في تصميمها مستوحاة من السفن البرتغالية ولم يتبق في عُمان سوى سفينة واحدة من هذا النوع تطل شامخة على المدينة ظلت صامدة بعد توقف صناعة السفن الخشبية والرحلات التجارية بظهور السفن الحديثة ذات المحركات واعتماد اقتصاد الدولة على النفط والغاز. يذكر أن تلك السفينة الضخمة صنعت في عام 1951م في حي الرشة بولاية صُور، وتعود ملكيتها للنوخذة سعيد بن علي القاسمي، وقد عملت السفينة في نقل البضائع بين موانئ الخليج والهند واليمن لمدة 43 سنة، وتنقلت بين عدد من الملاك في صُور ودبي واليمن، وظلت في اليمن حتى رصدها أحد أبناء صُور بالصدفة بأحد موانئ اليمن في عام 1993م، مما أيقظ الحنين في صدره وعاد إلى صُور وأخبر أعيان وتجار المدينة عنها، حيث تم شراؤها وإعادتها لمسقط رأسها، حيث تولى قيادتها في رحلة العودة النوخذة محمد الغيلاني، وخضعت لترميم دقيق من قبل مختصين لتصبح معلمًا تفتخر به المدينة، وبجانب «فتح الخير» توجد مجموعة من المراكب الخشبية التقليدية كما افتتح مؤخرًا على مقربة من السفينة مركز «فتح الخير الثقافي»، الذي يسعى لحفظ ما تبقى من إرث المدينة البحري لنقلة للأجيال القادمة ولتعريف زوار المدينة بتاريخها البحري العريق.
 تجولت في المتحف الذي يضم 5 قاعات حديثة تستعرض القاعة الأولى من المتحف مقدمة عن تاريخ ولاية صُور من خلال مجموعة من الصور القديمة والمواقع التاريخية من قلاع وحصون وغيرها، أما قاعة الإرث البحري فتستعرض نماذج من السفن التقليدية التي اشتهرت بها ولاية صُور وعرض الأدوات المستخدمة في صناعتها، كما تعرض القاعة صورًا لأبرز البحارة وقباطنة السفن، وقاعة خاصة تحمل اسم السفينة الشهيرة فتح الخير وقصتها. 
أما قاعة «ثقافة مستمرة» والتي تتناول الجانب الاجتماعي في ولاية صُور وحياة السكان ومحتويات البيت الصُوري قديمًا من خلال عرض بعض الأدوات المنزلية، مثل الفخاريات والسعفيات، كذلك تستعرض القاعة المهن التقليدية والأزياء الشعبية التي تتميز بنقوش وتصاميم تختلف عن باقي مناطق عُمان. في القاعة أيضًا شاشات تعرض مقاطع لعدد من الموضوعات المرتبطة بالفنون الفلكلورية والملاحة وغيرها من مقاطع تراثية، ولم ينس القائمون على المتحف الطفل، بتخصيص قاعة مغامرات السندباد التي خصصت لتقديم برامج التعلم للأطفال من خلال ورش تعليمية وعرض أفلام ثقافية ومجسمات لمقتنيات المركز يمكن للأطفال التفاعل معها من خلال لمسها وتركيبها كما يتم توزيع عدد من الأوراق للزوار تحوي أسئلة عن تاريخ المدينة، ويمكن معرفة إجاباتها من خلال التجول بالمتحف، بهدف ربط الأطفال بالثقافة المحلية.
بعد الجولة التاريخية في مركز فتح الخير التي أثرت حصيلتي بتاريخ هذه البقعة من الجزيرة العربية كان لابد من زيارة آخر مصنع لصناعة السفن التقليدية في منطقة الخليج العربي، وهو مصنع السيد جمعة بن حسون العريمي، والذي يعود تاريخ تأسيسه لعام 1730م. رافقنا السيد علي بن جمعة الذي توارثت عائلته المهنة أبًا عن جد، حيث لا تزال عائلته تزاول هذه الحرفة لأكثر من قرنين من الزمان لمشاهدة أكبر سفينة من نوع الغنجة في تاريخ سلطنة عُمان. استقبلتنا أصوات المطارق الصادرة من سواعد النجارين بتناغم أطربني. دخلنا في قلب السفينة الضخمة التي يبلغ ارتفاعها 8 أمتار، وبطول يبلغ 55 مترًا سفينة صُنعت من خشب الساج المستورد من الهند وبورما يذكر أن العمل على صناعة السفينة بدأ في عام 2020، ومن المتوقع الانتهاء منها في عام 2024 وبلغت تكلفة صناعتها مليون دولار أمريكي، وسيتم شحنها لدولة قطر بعد إكمالها.     
وفي سؤال السيد علي عن مصير صناعة السفن الخشبية التقليدية في زخم تطور وسائل النقل، أفاد بأن الإقبال على هذا النوع من السفن قل عن السابق، وإن أكثر الطلبات تأتيه من دولة قطر. أما بالنسبة لسلطنة عُمان فلا يزال المصنع يقوم بتصميم بعض القوارب التقليدية ونماذج مصغرة لأبرز أنواع السفن التقليدية كالغنجة والبوم والسنبوك والبتيل، حيث يهوى الكثيرون على اقتنائها لإضافتها كديكور في مجالسهم أو في مكاتب العمل والشركات أو لتقديمها كهدايا حيث لازال أبناء عُمان يتفاخرون بإرثهم البحري الممتد لآلاف السنين. أما عن العزوف عن هذه الحرفة من الجيل الحالي قال بحسرة إن الشباب العُماني اتجه للعمل في مؤسسات الحكومية والشركات حيث العائد المالي أعلى والعمل أقل مشقة من هذه الحرفة، كما أن ظهور المواد الحديثة في صناعة السفن وقوارب الصيد كقوارب الفايبرجلاس قليلة التكلفة ساهمت بشكل كبير في اندثار هذه الصناعة. ولكن لاتزال أسرته تحاول التمسك بهذه الحرفة وتناقلها للأجيال القادمة رغم الصعوبات التي تواجههم، حيث قلة توافر الأخشاب عن السابق بعد منع بعض الدول كالهند لتصدير بعض الأنواع للحفاظ على البيئة.

إرث النواخذة
اهتمت سلطنة عُمان بإحياء تراثها البحري منذ تولي المغفور له السلطان قابوس بن سعيد مقاليد الحكم في عام 1970م بإنشاء وزارة التراث والثقافة التي أخذت على عاتقها مهمة حفظ وتوثيق التاريخ العُماني والتراث الإنساني غير المادي والتركيز على الجانب البحري بشكل خاص بإصدار العديد من الكتب المتعلقة بهذا المجال، كما تم بناء سفن تقليدية محاكاةً للسفن العُمانية التي كانت تصنع قبل أكثر من ألف سنة والإبحار فيها بنفس الطرق القديمة، حيث تم بناء السفينة صُحار في عام 1981م، والتي تم الإبحار فيها إلى ميناء كانتون في الصين، رحلة السندباد، إحياء لرحلات طريق الحرير ولتذكير العالم بأمجاد تلك الأساطيل التليدة، كما تمت إعادة الفكرة ببناء سفينة جوهرة مسقط  في عام 2010م التي تم بناؤها من غير مسامير حسب الطريقة العُمانية القديمة التي تعتمد على ربط الألواح الخشبية، وأبحرت إلى سنغافورة للتأكيد على مهارة صناع السفن العُمانيين وأساطيل سفنهم التليدة التي خاضت الأعاصير، قاطعة آلاف الأميال بسفن خشبية محلية الصنع، وشكلت انتعاشًا اقتصاديًا في تلك الحقب الزمنية البعيدة. 
ويأتي مهرجان التراث البحري بنسخته الأولى في ولاية صُور مجددًا ومذكرًا أبناء عُمان بتاريخ أجدادهم المغامرين، حيث شمل المهرجان العديد من الفعاليات الثقافية والترفيهية التي عرفت الزائر على تاريخ المدينة والأنشطة البحرية القديمة من خلال القرية التراثية التي قدمت ركنًا مخصصًا للصناعات الحرفية التي اشتهرت بها المدينة وكرنفال المأكولات العُمانية ومسرح الفعاليات الذي شهد العديد من الندوات الثقافية والشعرية وعروض فولكلورية بحرية بالإضافة إلى الفعاليات الترفيهية كتجربة التزلج بالألواح الشراعية، وتجربة الإبحار الشراعي ومسابقة للصيد البحري، إلى جانب سباق القوارب التقليدي.   
وصلت إلى خور البطح والذي يلتف بشكل دائري حول منطقة صور القديمة برفقة الكاتب العماني خالد بن علي المخيني، الذي أفاد بأن الخور كان يوفر ملجأ طبيعيًا للسفن لحمايتها من العواصف وهيجان الأمواج التي تهب طوال فترة الشتاء، كما أن هذا الخور سمح لهم بصيانة سفنهم بكل حرية، إذ إن حركة الماء فيه تنساب بسهولة من مدخل الخور في حالة الجزر إلى خارجه، تاركة لهم مساحة كبيرة من اليابسة يتحركون فيها بكل حرية بين سفنهم لصيانتها، وبالمقابل يستطيعون إخراج سفنهم خارج حوضهم الجاف عند حدوث المد العالي.
وأضاف المخيني أن خور البطح يعد واحدًا من أهم ثلاثة خيران في صور، ولقد ساهم بشكل كبير في تحديد النظام الملاحي فيها، فهو صالح كحوض جاف لصيانة السفن نظرًا لاتساعه فهو يستطيع بسهولة إيواء قرابة 100 سفينة خشبية كبيرة في آن واحد. وذكر المخيني أن النشاط الرئيسي الذي يمارس على جوانب هذا الخور هو بناء السفن، وقد كان في صور عدة ورش متفرقة على طول الخور، كما يعتبر الخور بيئة الأطفال المفضلة في المدينة، ففيه يتعلمون السباحة كما يتنافسون على الغطس والقفز من على أسطح السفن الكبيرة المتهالكة التي أخذت حيزًا من الخور، كما يقوم الصبية في أوقات الجزر بتجميع القواقع البحرية من بين الصخور، ثم يقومون بطبخها بماء البحر مستعينين ببقايا الأخشاب الكثيرة بالقرب من ورش صناعة السفن، ولا يزال خور البطح المشهد الأكثر جمالًا في صور، فعلى الرغم من أن الحركة فيه قد سكنت وأصوات معدات النجارين قد خفت إلا أن أهل صور في اتصال وجداني دائم لا ينقطع به. 
وصلنا الخور حيث فعاليات المهرجان، ولمشاهدة نشاط محاكاة استقبال السفن قديمًا، كما تم تمثيل طريقة نقل تلك البضائع المتنوعة على الجمال، حيث تتحرك الجمال وراء بعضها البعض في خط واحد على طريقة القافلة إلى سوق صُور، الذي كان غنيًا بالبضائع المختلفة كالتوابل والأقمشة وغيرها عبر زقاق طويل وضيق يعرف محليًا بسكة البوش، حيث كانت الجماهير تحاكي طريقة استقبال السفن بأهازيج حماسية وبعض الفنون الفلكلورية، وكان للأطفال حضور مبهج حيث كانوا يلوحون بالأيادي بملابسهم التقليدية الجميلة المحلاة بالنقوش، والتي تختلف عن ملابس المناطق العمانية الأخرى، حيث  تتميز الملابس الصُورية بالنقوش وباستخدام أجود أنواع الأقمشة من الحرير المعروف محليًا بالبريسم، كذلك الدشداشة الصُورية التي تتميز بتطريز جميل عند الأكمام والعنق والصدر وبغطاء للرأس يعرف بالكمة.
وعن تلك الرحلات التجارية القديمة شرح لي الكاتب خالد المخيني عن مواسم تلك الرحلات التي تعتمد على الرياح الموسمية، حيث بداية الموسم تكون في شهر أغسطس وتتوجه السفن إلى البصرة محملة بأخشاب المنجروف، وبعد تسويق تلك الأخشاب يتم شحن السفن بالتمر والتوجه إلى الساحل الهندي مرورًا بميناء كراتشي لبيع تلك التمور وشراء الأخشاب وبعض المواد الغذائية والتوابل لبيعها في طريق العودة. ويضيف المخيني قائلًا: عندما نذكر صُور العُمانية ونتحدث عن الأسطول الصوري فإننا نتحدث عن زهاء الثلاثمائة سفينة تقليدية عابرة للمحيطات موثقة بأسماء أصحابها ومعروفة بأنواعها قطعت رحلات متواصلة في ثلاثة اتجاهات مختلفة لأربعة قرون دونما انقطاع، في ملحمة لم يحدث لها مثيل في تاريخ العرب قاطبة.
ومن العادات الاجتماعية التكافلية في ذلك الوقت يذكر أن عند احتياج أهالي البحارة للتموين يتم التوجه إلى بيت النوخذة الذي يعرف بالسركال لتوفير المؤنة والحاجيات الضرورية. وقد لعب بيت السركال دورًا كبيرًا لتأمين حاجيات سكان المدينة خصوصًا بفترة الحرب العالمية الثانية، حيث شحت المواد الغذائية ومن بيوت السركال المعروفة قديمًا بيت النوخذة محمد بن حمدان المخيني بمنطقة الرشة.
كما تم تمثيل طريقة نقل تلك البضائع المتنوعة على الجمال إلى سوق صُور الذي كان غنيًا بالبضائع المختلفة كالتوابل والأقمشة وغيرها، ومن اللقاءات الجميلة في المهرجان لقائي بالأستاذ ربيع بن عنبر، الذي يعد من مؤرخين المنطقة البارزين، والذي وثق بلوحاته تاريخ المدينة البحري بألوان مبهجة، وما أن عرف إني من الكويت حتى راح يذكر بحنين العلاقات التاريخية التي تربط الكويت بعُمان وتحديدًا بمدينة صُور في مجال صناعة السفن وتبادل الخبرات والرحلات التجارية، حيث كانت الغنجة العُمانية ترافق البوم الكويتي في رحلاتهما إلى الهند وشرق إفريقيا، علاقة قديمة وأخوية قبل إنشاء دول مجلس التعاون الخليجي بعقود من الزمان، حيث كانت صُور تمثل نقطة استراحة للسفن الكويتية القادمة من الهند وإفريقيا، وتتوقف  السفن الكويتية في ميناء صُور للتزود بالماء والغذاء أو للقيام بصيانة مراكبهم لمواصلة رحلتهم إلى الوطن.

مِعمار فريد وحصُون
إلى جانب براعة السكان في الفنون الملاحية تميزت مباني المدينة بتصميم هندسي فريد يحتفظ بطابع خاص لها يميزها عن غيرها من المدن. يذكر الكاتب خالد المخيني أن المدينة اشتهرت قديمًا في تصنيع مادة النورة من أحجار بحرية هشة، والتي تستخدم في طلاء الجزء السفلي من السفن، وكذلك لطلاء واجهات البيوت حيث تميزت مباني صور القديمة باللون الأبيض الناصع. وأضاف المخيني أن على بعد كيلومترات من صُور نجد مدينة قلهات التاريخية التي ظهرت صُور على غرارها بعد الزلزال المدمر الذي حل بها قبل حوالي 500 عام. وأكملت المدافع البرتغالية على ما تبقى بعد ذلك حتى لم يبق منها سوى بضعة بيوت على سيف البحر وجزء من مبنى تاريخي هو بقية من حضارة هرمز يطلق عليه اسم بيبي مريم أدرج مؤخرًاعلى قائمة اليونيسكو للتراث العالمي. 
وأضاف المخيني أن قلهات زارها الكثير من الرحالة الذين وصفوا معمارها كياقوت الحموي الذي أسماها فرضة عُمان وابن بطوطة الذي دخلها قبل وقت قصير من حدوث الزلزال، حيث وصفها بالمدينة الكبيرة ووصف جامعها المغطى بالقيشاني والمرمر، وأشار في كتاباته إلى صُور كقرية كبيرة على تخوم قلهات.
 وتعتبر منارة العيجة والتي تعد من أقدم المنارات لإرشاد السفن في منطقة الخليج العربي تطل على الميناء بتصميم هندسي أنيق وكان البحارة يعتمدون عليها عند دخولهم ليلاً للميناء، كما تنتشر أبراج المراقبة العسكرية في أماكن استراتيجية مرتفعة، ومنها برج الرفصة وبرج داغس والمخانة، والتي تتميز بالقوة والصلابة رغم مرور الزمن عليها، والحصون والقلاع التي بُنيت لتأمين وتحصين المدينة من الغزاة حيث تعرضت المدينة لهجمات متعددة من الغزاة كالبرتغاليين الذين غزوا سواحل عُمان في القرن السادس عشر ميلادي. وتتميز تلك القلاع والحصون بمواقع استراتيجية ومنها حصن صور الذي يعتبر من أهم الحصون في الولاية، والذي يتميز ببرج فريد محاط ببساتين من النخيل، وكان في السابق مقرًا للوالي ومكانًا للاحتفال بالأعياد والمناسبات، ويحتوي على أربعة أبراج، ويرتفع سور الحصن لستة أمتار. 
ومن الحصون المهمة في المدينة حصن السنيسلة الذي بني على هضبة تطل على المدينة تم تصميمه على شكل مربع بأبراج مستديرة وسمي بسنيسلة لأنه يقع على نتوء عال يشرف على قرية السنيسلة وشيد في عهد الإمام ناصر بن مرشد اليعربي في عام 1648م، ويبلغ ارتفاعه 35 مترًا وبعرض يبلغ 30 مترًا، وقد ساهم بشكل فعال في مراقبة الشاطئ وحركة السفن ويشمل الحصن غرفة الشيخ ومسجدًا ومدرسة لتعليم القرآن الكريم وسجنًا وأربعة أبراج.

وادي شاب... واحة من الجمال
في طريق العودة إلى مسقط توقفت في أحد أهم الأماكن السياحية في المنطقة الشرقية «وادي شاب» بعد أن نصحني بزيارته أحد الأصدقاء في الكويت، ويقع الوادي في منطقة طيوي التابعة لولاية صُور ويبعد حوالي مسافة الـ40 كيلومترا عن مركز مدينة صُور. يتميز الوادي ببرك من المياه الزرقاء الدافئة وسط الجبال وبساتين من النخيل. ركبت أحد القوارب الصغيرة  التي يقودها شباب محليون مقابل مبلغ رمزي للوصول إلى المناطق الداخلية من الوادي لرؤية شلالات المياه والكهوف المغمورة جزئيًا  بالمياه. كان المكان يعج بالزوار الذين كان معظمهم سواح أوربيين. قضيت بعض الوقت في المشي في أحضان تلك الطبيعة الفريدة ومشاهدة الأطفال والشباب يقفزون من سفح الجبل. مكان جميل ومناسب للباحثين عن الاسترخاء، وما أن قاربت الشمس على المغيب حزمت حاجياتي وأكملت الرحلة إلى مسقط حيث نداء الطائرة ■

أهازيج وفرحة استقبال السفن

التلويح للسفن واستقبالها بخور البطح التاريخي

صور العفية صاحبة منارة العيجة عرفت بالملاحة البحرية منذ القدم وتميزت بربط طرق التجارة ما بين البصرة والهند وشرق افريقيا

الجمال تستقبل السفن لتذهب للطريق التاريخي للسوق القديم بصور بتجارة تمتد من البصرة إلى موانئ شرق إفريقيا والهند

الشبكة صديقة الصياد

من كورنيش ولاية صور

كم هو جميل انتشار المساجد بين أزقة سوق صور القديم

باب صوري تقليدي من الخشب

أزياء صور التراثية

سوق صور القديم

مشهد بانورامي من قلعة سنيسلة حيث موقع القلعة الاستراتيجي المرتفع الذي يوفر الحماية للميناء والمدينة

الزي العماني الأنيق

القرية التراثية لتذكير الأجيال بالتاريخ العريق

أكبر سفينة غنجة بتاريخ عمان بارتفاع ثمانية أمتار والطول يبلغ خمسة وخمسين مترًا

الرسام والمؤرخ البحري يشرح إحدى اللوحات بريشته المبدعة