مسرحية «الهوى والوفاء» لزينب فواز أسئلة التحرر وفلسفة البحث عن الذات

مسرحية «الهوى والوفاء» لزينب فواز  أسئلة التحرر  وفلسفة البحث عن الذات

تتقدم اللبنانية زينب فواز (1846 - 1914) الحركة النسوية العربية كصاحبة إرث أدبي/ اجتماعي منوع، نهضويّ ورشيق في تعالقه أجناسَ الشّعر والمسرح والنقد الأدبي والرواية والمقالة الاجتماعية، مما يوثّق جلّه لرؤية تأوّلية صائبة لمسيرة المرأة المبدعة المجددة في وقت مبكر جدًا من تاريخنا العربي، واستشراف إنساني مستنير لمستقبل الكفاح من أجل التحرر النسوي ونوال أدنى حقوق المرأة في القول والعمل والتعليم وقيادة المجتمع، منذ ما قبل دعوات مريانا المراش وقاسم أمين وعائشة التيمورية ومي زيادة وهدى شعراوي وماري عجمي وغيرهم وغيرهن في قضايا المرأة العربية.

 

فوّاز أديبة روائية وشاعرة وناشطة اجتماعية من بلدة ببنين من جبل عامل في جنوب لبنان، تنقلت بين لبنان ودمشق والقاهرة والإسكندرية غير مرة، لتستقر نهائيًا في مصر فاعلة في حياتها الأدبية والثقافية والاجتماعية، داعية إلى تمكين المرأة اجتماعيًا وتحرير حقوقها من عقلية المجتمع الذكوري. أصدرت رواية «حسن العواقب» عام 1899 التي عدها بعض النقاد أول عمل سردي ريادي غير مسبوق في العالم العربي، إلى مجموعة كبيرة من المقالات في الصحف المصرية، عطفًا على ديوان شعر وعدد من الكتب في موضوعات اجتماعية ومناسباتية، من أهمها: الدرّ المنثور في طبقات ربّات الخدور، الرسائل الزينبية، الجوهر النّضيد في مآثر الملك الحميد. في هذا السياق السيرذاتي المتراكم اجتماعيًا ومعرفيًا بين الخاص والعام، ومنذ مئة وثلاثين عامًا أصدرت فواز مسرحية «الهوى والوفاء» عام 1893، وهي شعرية من أربعة فصول، والأطول نصًّا بين مثيلاتها وقتذاك، تداخلها بعض النثر لتوجيه الأحداث بين الوقائع كما يحلو لفواز تسميتها، عطفًا على مخاطبتها لشرائح اجتماعية عديدة خارجة على محدودية الرؤية إلى علاقة الرجل بالمرأة باتجاه تقمّصِ رومانسيةٍ مُفرطة بعض الشيء لكنها مفعمة بأحوال الطبيعة الإنسانية. تجري حوادث الرواية في العراق بين بغداد والبصرة، وتتناول قصة حبّ عميقة التجليات بين «كامل» سيد قومه وفارسهم ، و«بهية» ابنة عمه، فهما معًا من عائلة كريمة المحتد يشهد لها بعلو الشأن والسؤدد، وها هي تنتظر عودته من سفره خارج البلاد في قصرها في البصرة مع خادمتها «جميلة» التي تعلم بهذا الحب الكبير، والتي لا تتأخر ذات يوم بأن تزفّ لسيدتها بهية خبر عودة فارس أحلامها القادم من سفر طويل وأعمال تشغله، وذلك نقلاً عن لسان «جليلة» شقيقة «كامل». تفرح بهية بهذا الخبر حيث يدخل عليها ابن عمها فعلًا مملوءًا باللهفة والشوق للقائها: 
أتيتكم والشوق نحوكم يحدو
وأنتم مُنى قلبي وإنْ وقعَ البُعدُ 

يسلّم الاثنان سلام العاشقَين المتيمين، ولا يشبعان من التناجي لوعةً وحبّا، لتصفه بهية بأنه «الخليل الصادق والمحب الموافق» وأنها لطالما كانت على العهد تنتظره وهي رهن إرادته: 
ما شئتَ فافعلْ أنتَ فيّ مُحكّم
ولسان حالي في الهوى يتمثّلُ
أمُعذّبي هذا الحُســـــــام وهذه
أعضاء جسمي كلُّها لك مفصلُ 

ولكن الصورة لم تكن دائمًا بهذا الجمال والتفاؤل، ذلك أن الظروف أقوى منهما، وسيتوقف زواجهما لأن هناك من يعترض عليه، وليس بيدهما الحلّ والرّبط:
ما الحكم حكمي ولا التقدير تقديري  
ما الرأي رأيي ولا التدبير تدبيري!

فالقرار بيد الجدّة، جدّة بهية، التي هي أساس المشكل، وترفض ولن تقبل بكامل عريسًا لحفيدتها بعدما تزوجت أخته من والد بهية التي توفيت والدتها، وهو ما تراه الجدة تجربة سابقة غير ناجحة ولا مشجعة مع ولدها ولا تريد تكرارها مع حفيدتها. بهية أيضًا لا تستطيع مواجهة جدتها التي احتضنتها وربّتها، وكامل لم يعد أمامه سوى محادثة شقيقه «الناصر» للتوسط لدى الأمير «الظاهر» زعيم عائلتهما ليتجه إلى الأمير «سعيد» والد بهية كي يطلبها منه على أمل أن يوافق، لكن الأخير تمنى التريث في الأمر معترفًا بأنه يريد موافقة والدته التي في يدها حسم المسألة. ترفض الجدّة طبعًا، وتتطور الأمور سلبًا مع مرور الزمن، حيث يتزوج كامل بامرأة أخرى هي «عليّة» على مضض وبضغط مؤثّر من العائلة التي ترى أنه لا يجب ومن غير المعقول في عاداتهم وتقاليدهم أن يظل فارسهم «كامل» بغير ولد ولا عائلة، فيما تتسلل الغيرة قوية إلى صدر «بهية» وتتطور إلى أزمة نفسية كبيرة تغدو منها طريحة الفراش محاطةً بالأطباء والمدعو «صابر» أحد أقاربها الذي يحبها ولا تحبه، تقاسي صراعًا داخليًا حادًا بين الموت الذي قد يكون راحة لها مما هي فيه، والحياة التي تعطيها الأمل بعودة الحبيب الذي حضوره الخلاص وبزوغ الفجر: 
تنازع روحي للخروج يدُ النوى      
فتحبسها عني الأماني في نحري
سهادٌ وسقمٌ واشتياقٌ ولوعــــةٌ
وصبحٌ بلا ضوءٍ وليلٌ بلا فجـــرِ

لكن الوقت كان كفيلًا بحلحلة الأمور، إذ توفيت الجدة وكذلك الوالد، وأصبح الطريق مفتوحًا أمام «كامل» ليتزوجها على الرغم من زواجه من «عليّة» التي تندم على ارتباطها بكامل لأنه لا يزال مقيمًا على العهد في حبِّهِ لبهيّة، بل ها هو قد توجه إليها في البصرة، متمنيةً لو كان لها جزء صغير من قلبه: 
أخذتُم فؤادي وهو بعضٌ... فما الذي  
يضركم لو كان عندكم الكُلُّ؟
 إلى أن يفِد «كامل» على قصر «بهية» بعدما كان أرسل لها رسالة يبثّ فيها لواعج حبه وأن الأمر متاح بعد وفاة أبيها وجدتها، وتستقبله «بهية» إنما بلوم وعتاب كبيرين، حتى تستقيم الأمور بينهما بالمسامحة باتجاه الزواج السعيد. 
قبل الدخول في تفكيك ممكنات هذه المسرحية دلاليًا وفنيًا، يجدر التدليل على شخصيتَين نسائتَين شكّلتا مع فواز «ترويكا» إبداعية ريادية عربية في إنتاج النصوص المسرحية الشعرية النسوية الأصيلة الموضوعة محليًا بعيدًا عن الاقتباس من الغرب، هما: لطيفة عبدالله في «الملكة بلقيس» (1891)، وألكسندرة الخوري في «أمانة الحب» (1899)، ما يؤكد طبيعة التفكير الجمالي والاهتمام الحضاري بثقافة المرأة وأدبها كجزء من تطلعاتها وآمالها. يمكن القول إن لهذه المسرحية، الهوى والوفاء، اتجاهات ريادية عديدة في الشكل والمعنى، أحد وجوهها بلورة حالة تقليد كتابية جديدة ابتعدت من التّمسك بالموضوع الدينيّ والوطني والقومي إلى موضوع اجتماعي له جمهوره وذوّاقته حتى اليوم وإنْ طُرِق غير مرة، إنما تحت سقف المغايرة الأسلوبية للنص بدلالاتها العميقة التي تخدم تطلعات فواز إلى مجتمع أكثر تطورًا، تجددًا، وطمأنينة، تحريضية بالمعنى الاجتماعي لا السياسي بالضرورة وتهدف إلى استثارة تساؤلات الواقع ومحاولة تغييره انطلاقًا من الأحداث المتوترة في متن الرواية. في مثل هذا التصور، تطرح فواز في هذه المسرحية فلسفة البحث عن الذات، ذاتها النسوية الواثقة، الرائية إلى الانعتاق التحرري في محيط قبلي/ ذكوري، وفي فضاء درامي ذي مسحة تراجيديا واضحة من نقطة انطلاق النصّ وحتى ذروة الصراع فيه، وتتوجه بالحبكة إلى هذا الطقس المسرحي قصدًا أو عفوًا، في كافة تفاصيل المواقف، وتحديدا ما يمكن تسميته بالرُّهاب النفسي لدى «كامل» تحت سطوة حبّه الكبير لبهية من جهة، وواجبه في إطاعة عائلته كونه فارسها الكبير من جهة ثانية، لكن، وربما لجهل فواز بالقواعد الأرسطية للمسرح، فإنّها لم تلتزم بسيرورة المسرحية حتى نهايةٍ مأسويّة وفاق شروط التراجيديا المعروفة، بل شاءتها سعيدةً هنا، نعني زواج «كامل» من «بهية» وهو ما يبدو اقترابًا من من الميلودراما بمعناها الرومنسي في إطار عائلي، انطلاقًا من ظُلمٍ لَحِقَ بشخصية «بهية» بحرمانها من حبيبها، ثم انتقالًا بحركة الأشخاص إلى المعاناة والتأزم الكبير، فالعودة إلى الاستقرار من جديد في نهاية النص، في دورة درامية قامت على ثلاث شخصيات: 
- الجدّة: التي تسببت بتعنتها العائلي وثقافتها البسيطة القبلية من منع زواج «كامل» ببهيّة، برغم تودد الأخيرة منها حدَّ التذلّل غير مرّة.
- كامل: البطل الذي يبدو أنه رجل طيب، ذلك أنه وبرغم شجاعته وفروسيته وصفاته كزعيم مستقبلي للقبيلة، فإنه لم يفلح في مواجهة قرار العائلة بضرورة التعجيل بالزواج من امرأة ثانية مهما كانت العواقب.  
- بهيّة: أو البطلة والفتاة العذراء البريئة التي خبّأ لها القدر محطات قاسية حزينة حتى حدود الموت، إلى أن عاد إليها «كامل» حبيبا وزوجا كما تريد. 

الآلة الإلهية
من اللافت أن هذا المسار المسرحي انتُهِج طويلًا بعد وفاة فواز، كما في مسرح سعيد عقل الشعري المُشبع بالروح الرومنطيقية ومثالية العلاقات بين الأنا والآخر والمُبتعد دائمًا من مفهوم التضحية والنهايات المأسوية برغم توتّر الأحداث، حيث إنّ فوّاز أدخلت، تقنية القدر، أو ما يُعرف بالآلة الإلهية في مجرى الأحداث، فأنهَتْ دور الجدة ثم الوالد بالوفاة تيسيرًا لحلّ العُقدة، لكنها فوّتتْ بذلك فرصة التوجه بالنص إلى نهاية مأسوية كانت ستجعل من روايتها المُعدّة للتمثيل نموذجًا يُحتذى في الروايات التمثيلية التراجيدية في البدايات الأولى لتاريخ المسرح الشعري النسوي العربي. ولكن كان من الجيد بكل حال أنّ فوّاز حافظت على خصوصية الرؤية الفنية/ الثقافية التي طبعت شخصيتها في إثبات الذات وكسر السّائد والتقاليد تجاوزًا عن الواقع النفسي الذي جعل هذه المسرحية نتاج نقطة التقاء اللحظة التاريخية التي أفرزتها، مع التقاليد الصارمة المجتمعية، أي المناسبة التي رأت فيها الكاتبة إلى إطلاق فكرة التحرر النسوية إنما بمنجز أدبي هذه المرة، عطفا على مواقفها وكتاباتها الأخرى في هكذا قضية، وهو ما عبّر بعمق عن تشكل أفكار تنويرية ترى المرأة عنصرًا فاعلًا ومسؤولًا في حراكها الخاص والعام لأجل الفوز بما تراه صحيحًا، وللقول إنها تستطيع مواجهة قرارات المجتمع الذكوري وإنْ إلى حدٍّ ما كما فعلت «بهية»، وهذا بذاته تفكير نهضوي بِلُغةِ الدراما، ومحاكاة واقعية لتفكير جيل كامل عاصرته فوّاز ممتدًا إلى ما بعده. بهذا التوجه، فإن هناك غير وجه طليعي يمكن تقصيه في الأفكار التي حكمت هذا المنجز المسرحي، منها ما تحيلنا إليه وعوية فوّاز لآفاق التحول الجديد لعلاقات الرجل بالمرأة في التاريخ العربي الحديث، الذي لربما كان وليدًا في بسط مسوغاته وممكنات تطوره، لكنه يبقى فهمًا سبّاقًا، متوثّبًا، لتاريخ مسيرة المرأة العربية باتجاه التحرر والتطور والتمكين. هنا، من المهم التنبه إلى أن النقد وقتذاك وحتى عهد قريب، لم يُعِر هكذا عمل مسرحي، وأعمال كثيرة مشابهة، الاهتمام اللازم والضروري لدرسها وتفسيرها بما هي منجزات شعرية لأشخاص يستحقون لقب شاعر وأسهموا في تنشيط وسيرورة الحركة الشعرية المحلية والعربية، كما لم يلتفت النقد أيضًا إلى أمر في غاية الأهمية هو فعل إهمال للتراث الكتابي للمسرح، نعني فشل «الهوى والوفاء» وغيرها من النصوص المسرحية المحلية والعربية المماثلة في العبور إلى اللعبة الإخراجية كأشغولة درامية، آنذاك وحتى اليوم، على الرغم من أن مسألة العرض كانت في بال فواز عندما كتبت هذه المسرحية أقله على الورق وفي المصطلحات والمفردات؛ فقد لحَظَتْ مسألة وجود كورس يمارس الإنشاد من خلف الكواليس أو الستارة غير مرة، كما نبهت القارئ في الحواشي إلى أنّ الكلام موجّه «للحضور» في بعض المواقف، وأنّ الخطاب في بعض المشاهد هو للحاضرين على الخشبة «جميعهم من جهة أخرى من المسرح»، ما يعني بمعظمه وعيًا دراميًّا بمسألة الممارسة المشهدية ومتطلباتها، وهي تطلق نصًا للعرض لا من أجل القراءة والإمتاع الذهني فحسب، نهوضًا على مفهوم المسرح بوصفه محور نشاطين أدبي وتمثيلي، وهذا تفكير ريادي من دون شك سواء بالأسبقية الزمنية أو بالقيمة الفنية للمادة التي نبحثها منذ ما يزيد على مئة وثلاثين عامًا. 

تكامل المسرح والشعر
فنيًا، لا يمكننا تجاوز بعض الهنّات في الحوار، حيث بدا الإطناب واضحًا في مقاطع الحب وبثّ اللواعج بين بهية وكامل، فضلًا عن ردّات الفعل في غياب أحدهما عن الآخر كأن يحمل «كامل» سيفًا ليقتل نفسه لمجرد أنه سمع بمرض «بهية»! لكن تلك التفاصيل لم تمنع تطور المسرحية وصولاً للحلّ، عطفًا على جمالية تكامل المسرح والشعر وخدمة كل منهما للآخر بما يناسب تثوير الصراع الدرامي، بسلاسة الألفاظ، وحُسن توظيفها في العبارة الواحدة، مع ما كان سيمنحنا حِجاجية الغوص على تحليله فنيًا بشكل أوسع وأمتع لو قُدّر لهذا العمل أن يعبر إلى اللعب على الخشبة. الحوار توزع أيضًا على بحور خليلية مختلفة، تعالقَ فيها الشِّعرُ الإيقاع، مما تفردّت فوّاز باختياره مبنِيًا بالدلالة على مرئياتٍ مُتخيّلَة لعمل فرجويّ أُعِدّ للمسرحة أصلًا، في عملية تناسق بين الكلمة والإحساس، تركّز معظمها في الطويل، البسيط، والرّجز، مُنعشةً في النفوس، بخلطة ماتعة قوامها الشّعر المطعّم برائق النثر وأصفاه، وِفاقَ الذوق الفني للجمهور والنقاد على حدّ سواء آنذاك أمس وربّما حتى اليوم ■