تراث مخطوطات الطبخ عند العرب

تراث مخطوطات الطبخ عند العرب

تراث العرب في مجال الطبخ يعكس ثراءً وتنوعًا يقدم لنا رقيًا حضاريًا وارتقاء في فهم وظيفة الطعام، فهو عندهم ليس غذاء لسد الجوع أو للاستمتاع بالأكل، أو شهوة يجري لها لعابه فقط، بل كان الطعام يطبخ من أجل الحفاظ على صحة الإنسان، لذا كان لهم إدراك عميق بطبيعة الأبدان واحتياجاتها، فهم يرون أنه «لما كانت أبدان الناس دائمة التحلل، فعلينا أن نعرف النوع الذي يحتاجه الجسم من الأشربة والأطعمة، ولأن تعرف طبائع الأبدان وحالاتها، والأغذية مختلفة، منها المعتدلة كالتي يتولد منها الدم الخالص النقي ومنعًا غير المعتدلة كالتي يتولد منها البلغم والمرة الصفراء والسوداء والرياح الغليظة، ومنها ما له خاصة منفعة أو مضرة في بعض الأعضاء دون بعض»

 

فالوقاية من الأمراض تسبق كل شيء، والأكل لم يكن لمجرد الأكل، وتتنوع مخطوطات الطبخ في حضارتنا لدرجة أنه في السنوات الأخيرة بدأت العديد من الدراسات تلفت الانتباه لها على الصعيدين العربي والدولي.
إن ما ساعد على ازدهار فن الطبخ في الحضارة الإسلامية حركة التجارة الدولية التي ازدهرت في ظل الدولة العباسية التي امتدت من الصين إلى المغرب، ثم الثورة الزراعية التي قامت على تقدم علوم الفلاحة، حيث ظهرت المناوبة في زراعة الأرض، فأصبحت الأرض تزرع مرتين في العام بدلاً من مرة واحدة في العام، فجددّوا كثيرًا في طرق الفلاحة واستنباط أصناف جديدة من النباتات وتكثير الإنتاج، وهذا أدى إلى تنوع كبير في الأصناف المقدمة على المائدة في حقبة الدولة العباسية.
تراث الطبخ العربي الإسلامي لم ينشر من مخطوطاته محققًا سوى عدد قليل، لذا فلابد من إعادة الاعتبار لهذا التراث، وكانت هذه المخطوطات ليست وصفات فقط للطبخ لكنها كانت تتناول إعداد الطباخ وأدوات الطبخ وأنواع المواد الداخلة في الطبخ وفوائدها وإعدادها لعملية الطبخ، حتى نظافة أدوات الطبخ، وكيفية استخدامها طبقًا لقواعد محددة في الاستخدام، وماذا على الطباخ أن يعد من أطعمة طبقًا لحالات الاستضافة أو فصول السنة، أو وقت تناول الطعام، والطعام هنا فن وليس وصفات للأكل، ومن أبرز مخطوطات الطبخ العربية: 
- «أصلح الأغذية» لابن ماسوية.
- «كتاب الطبيخ» لإبراهيم بن العباس الصولي.
- «كتاب الطبيخ وإصلاح الأغذية المأكولة»، وهو كتاب يبحث في طرق الطبيخ والفوائد والمضار لأغذية مختلفة، ويرجح أن هذا المخطوط يعود إما إلى القرن الثاني أو الثالث الهجري.
في سنة 400 هجرية ألف ابن مسكوية في فن الطبخ مخطوطة ذكر فيها أسس الطبخ ثم عرج على الوصفات المشهورة في عصره، واهتم بالمقادير بصورة ملفتة للانتباه.
وأسس علي بن يحيي المنجم أول مكتبة متخصصة في الطبخ في تاريخ العالم، ذلك في بداية القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي، وألف رسالة في الطبخ للخليفة العباسي المعتضد، ومما ساعده على ذلك أنه كان جليسًا للخلفاء والأمراء فاكتسب ثقافة ومعرفة مكنته من تقديم رؤية للمطبخ العباسي.

أبرز المخطوطات
من أبرز مخطوطات الطبخ العربية التي لقيت عناية ونشرت في عدة طبعات، كتاب الطبيخ لابن سيار الوراق، وهو يعود للعصر العباسي، ومؤلفه أبو مظفر بن نصر بن سيار الوراق (توفي نحو 350 هجرية/ 961 ميلادية)، يقول في بداية المخطوط: «سألت أطال الله بقاءك، أن أؤلف لك كتابًا أجمع فيه ألوانًا من الأطعمة المصنوعة للملوك والخلفاء والسادة والرؤساء، وقد عملت لك، أطال الله بقاءك، كتابًا شريفًا ومجموعًا ظريفًا مشتملاً على منافع الأبدان ودافعًا المضار... يجمع كل الألوان المشوية والمطبوخة من اللحوم المسلوقة... بعد أن تصفحت أيدك الله كتب الفلاسفة القدماء...». 
يعرف الكتاب لغة الطبخ ومصطلحاتها التي أغفلتها المعاجم اللغوية، وخصص الباب الأول: في فساد الطبيخ، وكيفية غسل اللحوم، والمواد الغذائية، وكيفية غسل اللحوم، والمواد الغذائية، وكيفية استخدام النيران بدرجاتها، واعتبرها من الأعمال التي تتعلق بصحة الإنسان، بينما خصص الباب الثاني للأدوات التي تستخدم للطبخ والحلوى، وتحدث عن عمل المطنجات التي تتخذ من الطيور المسمنات، وهو يقول عنها: «المطنجات التي تتخذ من الطيور مثل: الدجاج والفراريج والفراخ... إلخ، وصفة ذلك واحدة، إلا أن ما صلب لحمه من هذه الأجناس ينبغي أن يزاد في مائه، إذا جعل على النار مع الزيت لينضج بالماء قبل أن يُقلى في الزيت، إذا كان اللحم يقلى في الزيت قبل أن ينضج بالماء، فإنما يزيده القلي صلابة وإبطاء في المعدة». كان ابن سيار الوراق مدركًا للتنوع في المجتمع العباسي لذا خصص قسمًا لأكلات النصارى.

ما بين الطبّاخ والطبيخ
ختام تراث العصر العباسي في الطبيخ كان كتاب «الطبيخ» لمحمد بن الحسن الكاتب هو كتاب شامل وفريد في تناوله، وقسّم أبوابه على النحو التالي: 
الباب الأول: في الحوامض وأنواعها.
الباب الثاني: في السواذج على اختلافها.
الباب الثالث: في ذكر القلايا والنواشف وأجناسها.
الباب الرابع: في الهرائس والتنوريات وما يناسبها.
الباب خامس: في المطجنات والبوارد والمقلوبة.
الباب السادس: في السموك طريها ومالحها.
الباب السابع: في المخللات والصباغ والمطيبات.
الباب الثامن: في الجواذب والأخبصة وألوانها.
الباب العاشر: في القطائف والخشكنانج وما يجري مجرى ذلك.
يرى محمد بن الحسن الكاتب أنه ينبغي للطباخ أن يكون حاذقًا عارفًا بقوانين الطبخ، بصيرًا بصنعته، وليتعاهد قص أظافره بحيث لا يحيف عليها، ولا يتركها تطول لئلا تجتمع الأوساخ تحتها، وليختر من القدور: البرم ثم من بعده الفخار، وعند الضرورة النحاس المبيض، وأردأ ما طبخ في قدر نحاس قد نصل بياضها، ويختار من الحطب اليابس مما لا يكون له دخان ساطع كثير الدخان، وكل ما فيه نداوة، ثم يعرف مقدار الوقود، ويختار من الملح الأندراني، وإن لم يحضر فالملح النقي الأبيض الخالي من التراب والحجارة الصغار (وأجوده ما حل وعقد) ومن الأباريز (البهارات) ما يذكر: الكسفرة ما كان حديثًا أخضر اللون يابسًا، ومن المصطكي ما كان حبه كبارًا براقًا غير دق، خاليًا من الرتاب والوسخ، ومن الفلفل ما كان حديثًا غير عتيق وكان حبّه كبارًا.
وليبالغ في تنقية سائر الأباريز وطحنها ناعمًا، وكذلك في غسل الأواني المستعملة في الطبخ والقدور،... ويختار لدق اللحم هونًا من حجر، والأباريز وتنعيمها وغسل القدور والأواني مهما أمكن، ثم يكثر من الأباريز في السواذج، وأكثر منه في القلايا والنواشف في حلوها أكثر من حامضها، ويققله في الحوامض ذوات الأمرق». 
النص السابق من الكتاب يكشف عن مدى الحرص على دقة عملية الطبخ ونظافة أنية الطبخ، بل فهم دقيق في طبيعة البهارات المستخدمة واختلاف طبيعة الاستخدام طبقًا لطبيعة المادة المطبوخة.

المطبخ الأندلسي... وشيء من بغداد
كان المطبخ الأندلسي والمغربي ثريًا بما لذ وطاب من الأطعمة، وهذا التراث ما يزال حيًا في جنوب إسبانيا إلى اليوم، وتوارثته مدن مثل فاس التي مزجته مع مطبخها فصار المطبخ الفاسي من أكثر المطابخ العربية ثراءً، بل حمل من الطرائف في الطعام ما يحتاج لصفحات لذكرها، وكان علي بن نافي الملقب بزرياب الموسيقي العراقي الذي اشتهر أمره في العراق خلال العصر العباسي، هاجر إلى الأندلس فغير كثيرًا في عادات الطعام والمطبخ بها، إذ كانت الأكلات تقدم دون ترتيب وذوق على المائدة فجعل الطعام له ترتيب في التقديم محدثًا بروتوكولاً للمائدة بتقديم الشوربة ثم السمك، فاللحم، وينتهي بالفاكهة والحلوى وكاسات من الفستق والجوز، ونقل زرياب الكثير من المطبخ البغدادي للأندلس وطوّر فيه حتى صارت العديد من الأكلات تنسب له، مثل الطبق الذي يسمى تقلية زرياب من اللحم المفروم والعجين المقلي بزيت الكزبرة.
من أفضل ما خط حول المطبخ الأندلسي (فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان) لابن رزيق التجيبي، والكتاب ثري، اهتم بالخبز فذكر أنواعه الخمسة المتداولة آنذاك، وهي: المطبوخ في الفرن، والمطبوخ في التنور، والمطبوخ في طاجن حديد، والخبز الفطير، ونوع من خبز البنيج، هذا الاهتمام بالخبز صاحبه شق آخر ركزت عليه كتب الحسبة، وهو مراحل إعداد الخبز بدءًا من طحن القمح إلى غرباته إلى عجنه إلى خبزه في الفرن لتضع لنا أول مواصفات قياسية في العالم لإنتاجه بأوزان محددة، بل نجد العديد من النصائح الخاصة بمكسبات الطعم للخبز التي تجعل الإقبال عليه كثيفًا.
الطعام في هذه الحضارة ليس لتناوله فقط بل هو فعل اجتماعي حيث تتحلق الأسرة حول السفرة التي كانت ترتفع عن الأرض قليلاً فيما عرف بالخوان أو الطبلية أو المائدة حسب المنطقة الحضرية، وكان هناك حرص على تناول الطعام في جماعة لترسيخ قيم المشاركة وتبادل الأحاديث.
تراث الطبخ والمائدة، هذا التراث الغني في الحضارة الإسلامية مازلنا في حاجة لإعادة استكشافه لكي نعمل على إعادة من اندثر منه، ونستعيد الشق الطبي منه أيضًا، وإن كان تراثه باقيًا في العديد من المدن الإسلامية، وهو ما يستدعي تسجيل ما تبقى منه على قائمة التراث اللامادي في العالم على غرار ما قامت به دول المغرب العربي حين سجلت «الكسكس» على قائمة التراث العالمي ■