رواية «أمادو» بين غربة الذات والرد كتابة

رواية «أمادو» بين غربة الذات والرد كتابة

«ما أحاول أن أظهره في هذا الكتاب هو أن تاريخ النظرية الأدبية جزء من التاريخ السياسي والأيديولوجي لحقبتنا. فمنذ بيرسي بيش شيللي حتى نورمان. ن. هولاند، والنظرية الأدبية مرتبطة بالقناعات السياسية والقيم الأيديولوجية على نحو لا يقبل الانفصال»
تيري إيغلتون، نظرية الأدب، ص، 310.

يدشن الكاتب عبدالله آيت بولمان في «أمادو» مرحلة جديدة من رحلة الكتابة السردية لديه، وتحديدًا جنس الرواية، وما يسترعي الانتباه في هذا العمل الروائي هو انشغاله بكم من القضايا الكبرى التي تحملها شخصيات هذه الرواية، فالرواية ليست مجرد حكاية لبطل يقوم بمغامرات جمة بغية بلوغ الضفة الأخرى، ولكنها أبعد من ذلك بكثير، إنها كشف، وتعرية، وبوح بكل ما تحمل هذه الكلمات من معانٍ، وما يزيد من إبداعية هذا النص، هو أنه يتجاوز كاتبه إلى إبراز وجهات النظر المختلفة المتعلقة بشخصياته، صحيح أننا نقف على بعض التوجيه في العملية السردية، ولكنه توجيه سرعان ما يخبو، ومرد ذلك إلى طبيعة السرد الانسيابي والمتدفق تلقائيًا، فالرواية تكشف عن عوالم مشحونة بالتيه والتشظي، وتستحضر في الآن ذاته الأسباب الكامنة وراء ذلك.
فعبر ثمانية فصول، ينقلنا السارد إلى أماكن مختلفة، حيث تعيش شخصيات الرواية الأحداث، وتسهم في تبلورها، فمن البحث عن الهجرة، إلى تصوير مشهد الولادة، فالوقوف عند العلاقة القائمة بين السجين والسجان، إلى استحضار النبوغ الذي أبانت عنه فاطمتو، ثم استكشاف حمّان ومعه أهل البلدة للغز الطفلة، فاختيار الحاج رابح وزوجه البتول إحاطة ابنتيهما بحقيقة هويتها، ليعود بنا في الفصل الأخير إلى تصوير لحظة اللقاء التي جمعت بين برايان ويحيى الصديق القديم لأمادو.
عبر قراءة هذه الفصول، تتكشف الرؤية عن قضية أساس يطرحها الروائي والمتمثلة في الرحلة، الرحلة باتجاهيها، نحو الآخر من أجل إثبات الذات، وإلى الداخل من أجل ترميمها وإعادة استكشاف كينونتها.

1 - الرحلة أفقًا للتغيير
تتكئ رواية «أمادو» في جانب مهم منها على عنصر الرحلة بهواجسها وأحلامها، ودلالتها المتعددة، فما يؤرق شخصياتها هو هذا الحلم بالعبور إلى الضفة الأخرى، ولو كان الثمن الموت. وهو حلم به تستهل الرواية أحداثها: «لم تكن أيام الرحلة كلها جحيمًا، كان الشبان إذا اجتمعوا مساء ينسون ما مر بهم خلال النهار، فيمرحون ويرقصون... ويرفعون الحلم نجمًا على باب المخيم في انتظار العبور»، الحلم الذي تباينت مصائر الشخصيات وهي تتعقبه، فمنها مَن بلغ المراد وإن عبر تضحيات كبيرة، كما هي الحال مع أمادو بوبكار، ومنها مَن ظلت أجسادهم أشلاء معلقة على أسلاك كهربائية تفوح منها رائحة الموت، ويمثلها الشبان الأفارقة المرابطون على الحدود والمتطلعون لأي فرصة تلوح في الأفق، ثم أخيرًا رحلة مارياما التي كانت رحلة نحو موت محتوم، مخلفة وراءها صبية ستحقق ما لم تستطع الأم بلوغه. 
ولعل الجامع بين هذه الرحلات، هو أن أبطالها يحركهم هاجس تغيير واقعهم والبحث عن آخر أفضل، فالمحرك الرئيس لها ليس المعرفة أو السياحة، ولكنه الهروب من جحيم القهر الملازم لهم، فكانت الرحلة نحو الآخر أملا في تغيير محتمل. غير أن ما يسترعي الانتباه في الرواية، هو أن رحلاتهم تلك لم تزد إلا من مضاعفة العذابات والمآسي، ففي اللحظة التي كانت ترنو فيها الشخصيات إلى الخلاص، فرارا من نيران الفقر والعوز إلى واحة الخصب والعطاء، إذا بها تتوغل أكثر في هاوية الجحيم، لتصلّى سعيرًا، ولا تصل إلى مبتغاها، وإلا وقد فرطت في كل شيء، فأمادو رغم بلوغ فرنسا، سرعان ما صار وراء القضبان في سجونها، جراء جريمة قتل اقترفها دفاعًا عن شرف معدوم بالقوة، ومارياما ما إن بلغت بيت الحاج رابح الوهراني ووضعت رأسها على وسادة متلذذة بدفء اللحظة التي لم تتحسسها لشهور طوال حتى داهمها الموت معلنًا رحيلها. بينما باقي الرفاق ما زالت الأسلاك الكهربائية على الحدود تشوي أجسادهم أثناء كل محاولة عبور يتخذونها، ديدنهم في ذلك عذاب، ومصيرهم موت محقق.
ولهذا يتبدى الخلاص في الرواية محكومًا بالفشل حتى بعد حين، فأمادو، ضيّع الأهم حب حياته، والطفلة التي كان يمني النفس بلقائها، وضمها إلى صدره رفضته بشكل مطلق، ليخيب سعيه ذاك «أنا لا أعرفه، ولم أره قط، ولست أدري كيف يبيح لنفسه ادعاء كهذا. ثم هب أنه والدي، فأين كان طوال هذه السنوات». كلام يزيد من وقع المأساة، ويضرب حصارًا أكبر على الغربة التي تحياها الذات، حين تدرك فداحة الخسران، ولا يبقى أمامها إلا التعلل بالآمال: «حين أدرك بوبكار أن سعيه خاب لم يبد أدنى مقاومة كأي أب مكلوم. كان يكفيه أن يرى ابنته على قيد الحياة، ويعرف أنها قادرة على الدفاع عن نفسها حتى وهي تواجه والدها». 
في الرواية، لا يقدم الكاتب عبدالله آيت بولمان عملاً عن حكاية فرد واحد هو أمادو بوبكار، بل يتجاوزه إلى تقديم صورة عن واقع المجتمع ما بعد الكولونيالي، الذي لم يبق أمام أفراده إلا التطلع لواقع أفضل، هو في الجوهر الواقع الغربي، فيما يشبه الحنين إلى الجلاد، حيث العلاقة المازوشية بين الضحية ومعذبها، وليس هذا الغرب إلا فرنسا الاستعمارية، ولهذا يقدم لنا أمادو وقد تجاوز الذات المتخمة جراحًا إلى كونه ممثلاً لوعي ثوري يرى صون الكرامة أهم من الحياة ذاتها « لم يكن طبعًا يقصد قتلها ولكنه القدر، إنما أراد تأديبها فكانت ضعيفة للغاية، لم يشعر إلا وقد صفعها بكل ما أوتي من غيرة عليك وعلى إفريقيا... صفعة ألقت بها مترين أو يزيد ليرتطم رأسها بـ«الكانابي» الذي كان ينام عليه. 
الوعي الذي تفتق عن جحيم الحروب، فأمادو شاهد على ضياع قارة بأسرها، واحتراق جيل آثر التغيير، فظلت أشلاؤه معلقة على أسلاك تفوح منها روائح الاحتراق، الشاهدة على فداحة الواقع الحي.
إن قارئ هذه الرواية يقف عند بعض ملامح الأدب السياسي فيها، وهو أمر تفرضه طبيعة القضايا المطروحة من جهة، وطبيعة الشخصيات الموزعة بين فضاءات جغرافية متعددة، القاسم المشترك بينهما الغزو الاستعماري، وهذا النزوع، يكاد يكون سمة لكتاب المستعمرات السابقة على نحو ما تؤكد ذلك رضوى عاشور، تقول: «فكتاب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، يكتبون أدبًا سياسيًا ليس اختيارًا أو التزامًا فقط. بل أيضًا استجابة لأكثر الأمور إلحاحًا على وجدانهم... إن حياتهم تتشكل بصورة يومية بالحدث السياسي الذي عادة ما يكون عنيفًا». ولعل هذا ما وقفت عنده أحداث الرواية في أكثر من موقع.
لقد أفلح الروائي عبدالله آيت بولمان في خلق شخصية جدلية بامتياز، حيث نقف في جانب منها عند البعد الواقعي، الذي تتقاطع فيه مع مجمل الشخصيات التي ترنو إلى واقع آخر، ومن جهة ثانية نجدها ترقى إلى مستوى الصورة الرمزية المختزلة لوعي أمة بكاملها، فوعيها المتقد واللافت للنظر ليس إلا اختزالاً لوعي جمعي، ولهذا تظهر شخصية أمادو أكثر اكتمالاً في العمل الروائي، وأقدرها على دفع القارئ لتتبع خيوطه.

2 -  الرد بالكتابة... نحو تهشيم الصور النمطية
في كتاب لافت موسوم بـ «الرد بالكتابة» يعمد مؤلفوه، إلى طرح سؤال هام مفاده، كيف تصير الكتابة أداة للدفاع والتقويض؟ لتلوح الإجابة من رحم اللغة التي يتوسل بها الكتاب، فما دامت اللغة هي الأداة الكفيلة ببناء العالم، «إذًا، فالهوامش هي المركز، ويمكن أن تبني العالم وفق نمط مختلف من العادات والتوقعات والخبرات». ولما كان مثقفو العالم ما بعد الكولونيالي أقدر على تطويع هذه اللغة، فقد جعلوا منها جسرًا للتعبير عن جملة من الأفكار والرؤى، وتفنيد جملة من الادعاءات التي رسخها الإنشاء الغربي، ورواية أمادو لا تشد عن هذه القاعدة، فعبر لغة انسيابية ومتدفقة، يعمد المؤلف من خلال شخصياته إلى إثارة جملة من القضايا التي تنزاح عن «بلاغة اللوم» التي تظل حبيسة الضعف والاستكانة، إلى رد الفعل المباشر، ولعل من أقدمت عليه شخصية أمادو بوبكار (خنقه للسجان لدرجة أنه كان سيقتله، ثم قتله امرأة فرنسية معروفة بعنصريتها إزاء الزنوج) تبرز جوانب من هذا الرد. هل هذا يعني أن نسلك نفس سلوك القوى الاستعمارية؟ يجيب فانون بأن رد العنف الممارس لا يمكن أن يتم إلا بعنف أقوى وأشد، لأنه «هو القوة المطهرة التي تسمح بالثورة المعرفية». ولعلها النصيحة التي عمل بها أمادو وهو يدافع عن إفريقيا التي ما زالت ترتبط في ذهن الغربي بالسواد لا غير.
ومن أمارات هذا الرد، تغليف الحوار الذي يدور مع الجلاد بنوع من السخرية، وبطابع فني خالص، يبرز النظرة المتعالية من جهة «أعرف ما قد تثيره لديك مثل هذه المعتقدات من هزء واستخفاف، فلطالما نظرتم إلينا بعين لا ترى فينا إلا أقوامًا بدائية تحتاج إلى ترويض»، كما يبرز من جهة ثانية الجهل الكبير للرجل الأبيض بثقافة الغير، وما لفظ بدائية المبثوثة في ثنايا الحوار، إلا تأكيدًا لهذا الموقف العنصري، والدونية التي يسم بها الإنسان الغربي آخريه.
فمن «قلب الظلام» الإفريقي - بتعبير رضوى عاشور - حيث الشر كامن، تنفجر ينابيع الثورة والمقاومة، مقاومة التنميط، لتعكس الصور وتجلّى الحقائق عارية إلا من صوت الذات التي اكتوت بحر الاستغلال فأعلنت أن «الكلمة ينبغي أن تكون لنا نحن الأفارقة». وفق هذا التصور تتقدم صور الرد في الرواية، من خلال إسناد بعض الأفعال والصفات للغرب، بعدما كان هذا الأخير يسحبها على غيره، ولهذا تتحول النعوت في إطار القلب التصويري من الإفريقي إلى الغربي، ليتبدى «في صورة «كانيبال»، يمتص دماء فريسته ويلحس شفتيه في تلذذ وانتشاء». 
صورة كان قد أقرها قبل قرون من الزمن شكسبير في مسرحيته العاصفة، وهو يقدم كاليبان مجردًا من كل حس إنساني فهو مطبوع على كل شر، إنه مسخ، لا لغة له، وفي منطق «النص الشكسبيري، مخلوق بلا حقوق، فهو ليس إنسانًا». وفي القلب المكاني الحاصل بين كلمتي «كانيبال» وكاليبان، ما يزيد من توضيح هذه الصورة. صورة تحاول الرواية تقويضها، لتصير معكوسة وما كان بالأمس آكلا للحوم البشر، صار اليوم أكثر إنسانية، لتقف بذلك شخصيات الرواية على قمة الهرم الإنساني مساءلة جلادها «أخشى أن يكون حافزكم بل عقدتكم ألاّ يحظى أسود ولو من حجم (فانون)، بسبق في مجال الأخلاق، والأخلاق رأسمالنا وسر بقائنا واستمرارنا». 
الرد في ثنايا الرواية، لا يرتبط بتقويض الصور المتخيلة التي أنشأها الغرب عن آخريه، ولكن ينبع أيضًا من هذا الوعي بالذات التي أدركت أخيرًا، أن اختلافها هو في نسغه نعمة، وإجابة عن الأسئلة المقلقة التي لطالما طرحتها بإلحاح شديد، من قبيل «لماذا لم أولد في بلد غير هذا؟ ولماذا بهذه البشرة السوداء؟ أنا زنجي. إذن أنا في السجن يا يحيى»، هذه العبارة التي اختتم بها أمادو إحدى رسائله لصديقه يحيى، تكشف عن حجم المعاناة التي يحياها سود البشرة في ظل مجتمعات عنصرية، تقيّم الناس على أساس اللون، لا الإمكانات التي يتمتعون بها، ولهذا تلوح مشكلة أمادو بكونه محددًا من الخارج، فلون بشرته يفضحه حتى إن أراد إخفاء حقيقته، ولعلها المعاناة التي كان قد ألمع إليها فرانز فانون، في كتابه «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء»، مبرزًا أوجه الاختلاف بين المعاناة اليهودية والمعاناة الزنجية، فاليهودي يصبح غير مرغوب فيه عندما يكشف عن هويته كيهودي، بينما الزنجي لا فرصة له للمداراة أو المخاتلة، فهو ليس عبدًا للفكرة التي يحملها الآخرون عنه، ولكنه عبد لصورة ظهوره.
وكما أدرك مصطفى سعيد أن إحدى سبل المقاومة والرد على المزاعم الغربية، هي تأنيث الغرب، فإن أمادو يسير على نفس الخطى، وكأني بالروائي يستحضر طيف مصطفى سعيد في «موسم الهجرة إلى الشمال»، عبر تناص، يعيد الفكرة الجوهرية «أنا جنوب يحن إلى الشمال»، التي هتف بها بطل الرواية، ليعيدها أمادو بصيغة أخرى حيث يقول: «لقد دخلت أوربا غازيًا، ولن أعود منها، وإلا وقد دانت لي قبائلها وعشائرها». ولا نحتاج طول تأمل لندرك أنه قول ينطوي على بعد حضاري يؤطر شخصية أمادو، فالرغبة في الغزو لا تعدو أن تكون إلا محاولة للمشاركة في صرح هذه الحضارة، لكن الحقد الدفين الذي تحمله الذات في دواخلها يعمي بصيرتها، لتزداد بذلك مأساتها، ولا يصير أمامها من حل إلا الثورة الجنسانية يقول: «فماذا لو استطعنا أن نزرع من صلبنا في أرحام الغربيات آلاف الأطفال الرائعين؟ وكيف يصير الوضع في مثل هذه الحالة؟ أخي يحيى، لا يحتاج منك إلى تفكير، سيعترفون بنا ببساطة». 
عبر فصول الرواية، ظل الآخر راسخًا في أذهان الشخصيات، فهو حينًا ملاذ للخروج من حياة الضياع والتيه التي تعيشها، وهو أحيانًا الجلاد الذي كان ومازال السبب الرئيس في كل المآسي التي تحياها إفريقيا، ولا سبيل إلى الانعتاق من إساره إلا بمقاومته، وهي المقاومة التي كشفنا عن بعض وجوهها ■