المجتمع العربي في العصور الوسطى دراسات من «ألف ليلة وليلة»

المجتمع العربي في العصور الوسطى دراسات من «ألف ليلة وليلة»

من الكتب الطريفة في التراث الاستشراقي الغربي، كتاب «المجتمع العربي في العصور الوسطى، دراسات من ألف ليلة وليلة»، الذي ألّفه - أو بالأحرى وضَع أساسه - عميد مدرسة الاستشراق البريطاني إدوارد ويليام لين (1801 - 1873م)، وحرَّره حفيدُ شقيقته المستشرقُ الشهير ستانلي لين بول، ونشره في لندن أواخر القرن التاسع عشر. ونظرًا لأهميته في مجال الدراسات الاستشراقية لآداب وعادات وتقاليد العرب في العصور الوسطى، وما تضمنه من تحليل ذلك المستشرق الرائد لطرائف «ألف ليلة وليلة»، نقدم  في هذا  المقال عرضًا له لقراء مجلة العربي.

 

وُلد إدوارد ويليام لين في هيرفورد بإنجلترا في 17 سبتمبر عام 1801. في بدايات العشرينيات من القرن التاسع عشر، أُغرم لين بمصر وبعلم المصريّات، وكان من نتائج هذا الغرام أنه قرأ كل ما وقعت عليه عيناه من الكتب عن مصر، قديمًا وحديثًا، وعزم على أن يسافر يومًا ما إلى مصر وأن يكتب كتابًا مصوَّرًا عنها. ثم قام بدراسة اللغة العربية - وبخاصة العامية المصرية - ومصر الحديثة، كما اهتم بعادات وتقاليد المصريين في ذلك الوقت، وعزم على الإقامة بمصر لدراستها ودراسة طبائع أهلها. 
سافر لين من لندن قاصدًا مصر في 18 يوليو 1825. وبعد سفر طويل عبر البحر المتوسط  ومدنه وموانئه، وصل إلى الإسكندرية في 17 سبتمبر. أمضى لين أسبوعين متجولًا في الإسكندرية، ثم نزل عن طريق النيل إلى القاهرة، واختلط بالمصريين وتزيّا بأزيائهم، وأكل من طعامهم، وتخلّى عن عاداته ومظهره الغربي تمامًا حتى يتسنى له تنفيذ مهمته وتقديم صورة غزيرة بالتفاصيل عن كل مظاهر الحياة في مصر إبّان عصر محمد علي. استأجر لين  بيتًا في منطقة شعبية بجوار باب الحديد (ميدان رمسيس حاليًا)، بعيدًا عن الحي الأوربي الذي كان يسكنه الرعايا والقناصل الأجانب، وأطلق على نفسه اسم: «الفقير لله منصور أفندي»، ولم يختلط إلا بالمصريين وبمن شاكله من الأجانب، مثل الرسام البريطاني الشهير روبرت هاي الذي رسم مجموعة من أجمل اللوحات عن القاهرة. 
مكث لين في مصر ثلاث سنوات قضاها بين القاهرة والإسكندرية ووسط الدلتا، كما زار فيها الوجه القبلي والنوبة مرتين، حيث كان يتنقل على متن «دهبيَّة» في النيل، كدأب الرحالة والمسافرين عمومًا إلى صعيد مصر في ذلك الوقت. وكان هدفه تأليف كتاب عن الرحلة يقدم معلومات مُحْدَثة عن مصر ونيلها واقتصادها وتجارتها من واقع دراسته وخبرته ومعايشته للواقع. عاد لين إلى إنجلترا في يونيو 1828 وقد حمل معه - بالإضافة لحبه لمصر وإدمانه للنارجيلة وبدئِه كلَّ عملٍ بالبسملة -  مادةً وافية تصلح للنشر، بعنوان «وصف مصر». وتألـَّف النص بمجلداته الثلاثة من 1024 صفحة. فنصحه ناشرٌ حصيف أن يستخلص من مادة الكتاب ما يخص حياة المصريين المعاصرين، فعاد إلى مصر في ديسمبر 1833 ليستوفي مادة الكتاب الجديد ويدققه. أقام لين في القاهرة عامين حتى خريف 1835، ثم عاد إلى لندن حيث أكمل كتابة النص الجديد المُعَنْوَن: «المصريون المحدثون... شمائلهم وعاداتهم»، وأعدّ اللوحات التفصيلية المصاحبة للنص في أواخر عام 1836، حين صدر كتابه في لندن.

ترجمة «ألف ليلة وليلة»
في عام 1838، ترجم لين، في لندن، طبعة بولاق العربية من «ألف ليلة وليلة»، في ثلاثة مجلدات، ونشرها متفرقة على امتداد السنوات 1838-1840. وقد هذَّبها من كل ما يخدش حياء الأسرة الإنجليزية المحافظة. اعتمد لين  في ترجمته هذه على طبعة مطبعة بولاق التي صدرت في عهد محمد علي باشا، بتحقيق الشيخ محمد قطَّة العدوي عام 1252 هجرية/1835م. ورصَّعت تلك الترجمة مئاتُ اللوحات الجميلة المنقوشة على الخشب عن المجتمع العربي وقصص الليالي، بيد الرسام البريطاني ويليام هارفي. ولاتزال تُطبع حتى الآن في إنجلترا والدول الناطقة بالإنجليزية. ومن هذه الترجمة، نبتت بذرة كتاب «المجتمع العربي في العصور الوسطى».
لم يكتف لين في ترجمته لـ «ألف ليلة وليلة» بترجمة النص العربي فقط؛ وإنما كان يرى أن العادات والتقاليد والمفاهيم الواردة بها تستلزم شرحًا وتعليقًا يساعد القارئ الأوربي على جلاء غموضها. فوضع في ذيل كل فصل من ترجمته مجموعةً من الحواشي، يفسر الكثير منها أهم خصائص الحياة اليومية للمسلمين في مصر والعراق والشام، وأحيانًا شبه الجزيرة العربية. وقد أدرك المستشرقون أن تلك الشروح والحواشي تقدم صورة تامة للمجتمع العربي وعاداته ومعتقداته منذ ظهور الإسلام وحتى حكم المماليك والعثمانيين، إلا أنَّ وجودها متناثرة في ثلاثة أجزاء كبيرة، وحسب ترتيب القصص وليس حسب موضوعاتها، جعل الرجوع إليها صعبًا، وقراءتَها على نحوٍ متتابع مستحيلًا. فعمَد ستانلي لين بول - بعد وفاة شقيق جدته ويليام لين - إلى جمع هذه التعليقات الواردة في ترجمته، وأضاف إليها وأعاد صياغتها في شكلٍ ملائم وتسلسلٍ مريح وموضوعي، في فصول مترابطة، تجعل من السهل على القارئ الإنجليزي الرجوع إليها بلا تشتت في البحث في ترجمة لين لألف ليلة وليلة. وقد لاقى هذا الجمع والتحرير ترحيبًا عامًّا في دوائر الاستشراق وبين القراء الأوربيين، وصار أكثر من مجرد جمع حواشٍ على ألف ليلة وليلة، بل صار عملًا مستقلًا استشراقيًّا قيمًا.
جُمعت هذه التعليقات في كتابِ عَنْوَنه ستانلي لين بول باسم «المجتمع العربي في العصور الوسطى... دراسات من ألف ليلة وليلة» في أحد عشر فصلًا: الدين، الجن والشياطين، الأولياء، السحر، الكونيات، الأدب، الولائم واللهو، الطفولة والتعليم، النساء، الرق، طقوس الوفاة. وذيَّله بقائمة المصادر العربية التي اعتمد عليها لين في كتابة هذه التعليقات، ومعظم هذه المصادر كان مخطوطًا ولم يُطبع حتى وفاة لين. وقد رأى ستانلي لين بول أن يحرر هذا الكتاب محافظةً منه على القيمة الأدبية والتاريخية لتعليقات ويليام لين عن وصف المجتمع العربي في العصور الوسطى، بإدراجها مبوَّبة ومرتَّبة في هذا الكتاب، خاصةً أنه رأى أن القاهرة ودمشق وبغداد كانت على وشك التحول للطراز الأوربي في الكثير من مظاهرها، فأشفق أن يضيع ما رآه ولامسه شقيقُ جدته ويليام لين من روح ألف ليلة وليلة أثناء إقامته في القاهرة لدراسة طبائع المصريين في عصر محمد علي باشا، وآثر تسجيله، فكانت نتيجة ذلك تحريره لهذا الكتاب.

هَناتٌ ومميزات
إن القارئ لهذا الكتاب سيلحظ مدى طرافته، ومدى تبحُّر لين في المصادر العربية، وتملُّكه لناصية تلك اللغة، وكذلك سلاسة أسلوب ترجمته لها وعرضه للمعلومة بأسلوب لا يَنْفُر منه القارئ  غير المتخصص، ولا يُشْكِّل عليه. مما يتميز به لين في تلك التعليقات التي شكلت متن الكتاب، اعتماده على كتب المذاهب الفقهية السُّنيّة الأربعة فيما يتعلق بتعريف القارئ الإنجليزي بأحكام الزواج والطلاق والميراث والتشريعات الجنائية وأركان الإسلام ومعاملة الرقيق في الإسلام. وقد تناولها بحيادية وموضوعية ولم يشطط في تفسيرها. كما دافع عن أن العرب يقدِّرون الحب الصادق للنساء، وليسوا شهوانيين كما يراهم الغربيون، مفندًا هذا الاتهام بأدلة كثيرة من التراث الإسلامي، وقال: «وكَوْن العرب ليسوا شهوانيين في المُطْلَق يظهر جليًّا لكل شخص يختلط بهم في المجتمع العائلي؛ حيث تتاح له الفرص للتعرف على العديد من العرب المرتبطين بإخلاص بزوجاتٍ زالت جاذبيتهن وجمالهن الشخصي منذ وقت بعيد، واللاتي لا يملكن ثروة ولا نفوذًا، وليس لهن أقرباء ذوو مالٍ وسلطان ليستميلوا به أزواجهن فيحجموا عن طلاقهن. 
وكذلك كثيرًا ما يُخلص رجل عربي في علاقته بالزوجة التي في عصمته، حتى عندما تكون ذات جمال محدود في أفضل فترات عمرها، وأن الزوجة المفضلة دائمًا لديه - من بين زوجتيه أو أكثر- هي أقلهن جمالًا». كما أثنى لين على معاملة الرقيق في الإسلام وعلى وصايا النبي بحسن معاملتهم. وتناول في فصل «الأولياء» ما رآه في مصر إثناء إقامته فيها ممن يدّعون الولاية وهم في الأصل محتالون، فيعتقدهم العوام ويتقربون إليهم بالهدايا والنذور. وضرب مثالًا على ذلك بقصة الشيخ علي البكري وصديقته المخادعة «الشيخة أمُّونة» اللذيْن كشف أمرهما الضابط التركي جعفر الكاشف في القاهرة قبيل الحملة الفرنسية على مصر، وأودعهما السجن وجعلهما عبرة. ثم ذكر آراء مشايخ الأزهر في مثل أولئك الأفاقين الذين يدَّعون الولاية والكشف ومعرفة الغيب، والإسلام منهم براء. ومن أطرف فصول الكتاب، فصلا: الجن والشياطين، والمآدب واللهو. ذكر لين في فصل «الجن» تقسيم عوالم الجن من مصادر التراث، وحكاياتهم مع العرب ومع البحارة، وطرق اتقاء الناس شرَّهم. 
وفي فصل «المآدب»، تناول لين كيف يعِدُّ المسلم العادي وجباته اليومية وآداب تناوله للطعام ودعواته لأصدقائه لتناول الولائم في بيته. وأظرف ما فيه هو وصفه لفطيرة ضخمة أُعدَّت في مصر أيام زيارة الرحالة العربي الشهير عبداللطيف البغدادي لها في القرن الثالث عشر الميلادي؛ حيث  وُضع فيها ثلاثة خراف محشوَّة وبين كل خروف وآخر ثلاثون دجاجة بعضها محشو وبعضها مقلي وبعضها مشوي، وكُوِّمت على كل ذلك أصنافٌ أخرى على شكل قبة، ثم دخلت كلها التنُّور، فكانت أعجب فطيرة رآها في حياته، على حد قوله. ولا يتسع المقال لوصف ما ذكره لين من مظاهر: الختان والزواج وعقد القران، ومواكب الزفاف التي رآها بنفسه أو التي سجلها الجبرتي في تاريخه، وطقوس الوفاة والجنائز، وغيرة الضرائر من بعضهن البعض، واعتقاد العوام المبالَغ فيه في السحر والحسد، وأساليب تربية الأولاد في المجتمع العربي، وصور إعجاب العرب بالأدب والشعر على امتداد تاريخهم، وحق الخبز والملح الذي جعل لصًّا يتراجع عن سرقة خزينة بعد أن أنَّبه ضميره أنه أكل مع صاحبها «عيشًا وملحًا». كل ذلك وغيره من محتويات الكتاب جعل منه: «تحفة استشراقية اجتماعية وتاريخية وأدبية تعادل بعض كتب التراث الإسلامي التي تناولت المجتمع العربي وعاداته، خاصة في الحوليات التاريخية التي تألفت في عصر المماليك».
ولعل من أهم ما يلفت النظر في ذلك الكتاب أن لين كان متحسرًا جدًّا على عدم مقابلته مؤرخ مصر الحديثة، عبدالرحمن الجبرتي، أثناء إقامته في مصر، وذكر أسفه أنه «لم يعثر على النسخة الخاصة بـ«ألف ليلة وليلة» التي ألفها الجبرتي، بعد تهذيبها مما لحق بها من البذاءة والخلاعة، وجعلها صالحة لتهذيب النفوس وتربية النشء  بمحتواها، وتسلية الناس بلا مجون أو ما يخدش الحياء». ولعل هذه النسخة تظهر إلى النور في يوم من الأيام، وتكون حدثًا فريدًا في التاريخ الأدبي لألف ليلة وليلة.
ومن الناحية الأخرى لم يخلُ الكتاب من عيوب المستشرقين؛ فنجد لين يتناول الكونيات عند العرب تناولًا جاهلًا بإنجازات العرب في مجال الجغرافيا الفلكية والجيولوجيا والفلك، ونجده لم يعتمد في وصف مفاهيم الكون لدى العرب إلا على كتاب ابن الوردي «خريدة العجائب»، وهو المليء بخرافات وإسرائيليات من باب الأدب الشعبي، وليس من المجال التجريبي والنظري الذي سبق به العرب أوربا في القرون الوسطى. ولا ندري أكان لين جاهلًا بأعمال علماء الفلك والجغرافيا العرب والمسلمين في القرون الوسطى، أم متجاهلًا إياها عن عمد!
وكذلك نجده يتناول قضية تعدد الزوجات في الإسلام بمبدأ الشجب، وذلك بأسلوبٍ ناعم، ثم يناقض نفسه في نهاية المطاف ويقول: «ولمَ نعاتب الإسلام على تعدد الزوجات، بينما مجتمعات أوربا تزخر بتعدد الزوجات الفعلي؟»، يقصد  بذلك: كثرة الزنا بالنساء في أوربا. ثم يقول: «إن الغرض من تعدد الزوجات في الإسلام منع الزنا لدى المسلمين في المقام الأول، وفي هذا القدر كفاية».
لذلك، ترى الدكتورة ليلى أحمد، أستاذ الأدب العربي ودراسات الشرق الأوسط في جامعة مينيسوتا، وجمهورُ المستشرقين، أن ما قام به لين في ذلك الكتاب من التعليقات والشروح أهم من ترجمته نفسها لكتاب ألف ليلة وليلة.
وبالجملة، سيظل هذا الكتاب علامة أدبية وتاريخية طريفة، ينهل منها القارئ العادي والقارئ المتخصص، في زمنٍ كثُرت فيه السطحية، وغربةُ الإنسان العربي في مجتمعه بوسائل التواصل الاجتماعي التي عزلته حتى عن نفسه، وفي ظل استشراء الحداثة والافتتان بكل ما هو غربي ■