في ضيافة المتنبي

في ضيافة المتنبي

تمتدُ علاقتي بالمتنبي منذ الصغر، أيام اليفاعة بالتحديد، منذ أن تعرفت على حياته في كتاب «تاريخ الأدب العربي» للكاتب اللبناني حنا الفاخوري، وقرأتُ مقتطفات من بعض قصائده الشهيرة. وهو ما دفعني للبحث عن ديوانه في مكتبة الوالد، رحمه الله، وهو ما تحقق بالفعل، إذ وجدتُ نسخة منه فيها بشرح الأستاذ عبدالرحمان البرقوقي، فانغمستُ في عملية قراءته. هكذا أحببتُ الشاعر أبا الطيب المتنبي، وهكذا صاحبتُ سيرته الحياتية والشعرية بشكل متصل. والجميلُ في الأمر أنني حين بدأتُ كتابة الشعر، وعُرفت به بين أصدقائي في المدرسة أطلقوا علي لقب «مُتنبي الدار البيضاء»، مما دفعني للاستمرار في كتابة الشعر. وحين ولجتُ عالم المسرح الهاوي كتبت مسرحية عن هذا الشاعر العربي الكبير أسميتها «أيام المتنبي ولياليه». 
لقد قرأتُ فيما بعد كل ما كُتب عن أبي الطيب المتنبي حين أردتُ كتابة روايتي عنه التي أسميتها «ألواح المتنبي»، فوجدتُ أن العديد من الروائيين العرب قد كتبوا عنه وحاولوا من خلال كتابتهم الروائية بالخصوص، الإحاطة بمجمل حياته وربطها بالواقع الذي نعيش فيه الآن. لكن بالنسبة لي، حاولتُ أن أقترب بكتابتي عنه من همومه الشخصية التي جعلتُ منه يرى في الكلمات ما لم يره الشعراء الآخرون ويجعل من هذه الكلمات وسيلة وهدفًا في الآن نفسه. وسيلة لكي يرتقي من خلالها إلى أعالي المجد الذي كان يسعى جاهدًا للوصول إليه، وهدفًا من خلال جعل هذا الشعر يصل إلى مقامات شعرية كبيرة لم يستطع الشعراء السابقون عليه الوصول إليها. لقد كان يريد من شعره أن يكون مرآة رمزية دالة عليه. ومن حسن حظه وحظ الشعر العربي برُمته أنه قد استطاع تحقيق ذلك بالفعل، بحيث أصبح الشاعر الأكبر في تاريخ الشعر العربي منذ عصر الشاعر امرئ القيس إلى عصرنا الحاضر هذا.
من هنا، فقد تطرقتُ في روايتي عنه، «ألواح المتنبي»، إلى الحديث عن علاقته بكلٍّ من جدته التي كان يحبها كثيرًا، والتي مثلت بالنسبة إليه دور الأم، وعلاقته بأبيه ولاسيما علاقته بزوجته وابنه، مُحاولًا من خلال تمثل هذه العلاقات الإنسانية التعبير عن وجدان الشاعر المتنبي والوصول إلى أعماقه التي كانت موطن الأسرار بالنسبة إليه. كما توقفتُ عند علاقته بالأمير سيف الدولة، وتحدثتُ عن صراعه مع الشاعر أبي فراس الحمداني وتغلبه عليه على المستوى الشعري. لقد أعدتُ الاعتبار في هذه الرواية إلى محبة المتنبي لعالم القراءة وشغفه الكبير بها، ولعشقه اللامتناهي للشعر ورغبته المنقطعة النظير في كتابة شعر كبير يخلد اسمه في سجل الشعراء الكبار. وهو أمر جعلني أشعر وأنا أكتب عن هذا الشاعر العربي الكبير وكأنني كنت أكتب عن نفسي وعن كل الشعراء الذين يعشقون عوالم الكتب وينغمسون في بحور الشعر بكل الشغف الإنساني الممكن.
بالفعل تبدو الكتابة عن أبي الطيب المتنبي كتابة صعبة لاسيما حين تنحو منحى التخييل الروائي. فهناك وقائع في حياته يجب أن تُستثمر في إعادة بناء حياته من جديد، ويجب توظيفها في الرواية بشكل يجعل منها تنتمي إلى عوالم هذه الرواية وتُشكل صلب أحداثها، سواء على مستوى الهدف العام أو سواء على مستوى توالي الأحداث وتناسقها بشكل تسلسلي مُحكم.
هكذا مكّنتني هذه الرواية «ألواح المتنبي» وأنا أكتبها من الاقتراب من جديد وبشكل تفاعلي عميق مع سيرة هذا الشاعر العربي الكبير، ومع سيرة أشعاره أيضًا، كما قربتني من همومه الشخصية بحيث توقفتُ كثيرًا عند حبه الكبير للجميلة خولة أخت سيف الدولة وعدم قُدرته على الزواج منها، أو حتى التقدم لطلب يدها من أخيها، خوفًا من غضبه عليه رغم علمه بحبها هي الأخرى له، وعدم قدرتها على إخبار أخيها بالأمر. هكذا عاش المتنبي حبًا مستحيلاً عانى منه كثيرًا. وأعتقد أنني قد جسّدته في هذه الرواية بشكل كبير.
إنّ المتنبي في هذه الرواية هو أنا بشكل أو بآخر ■