خواطر برسم القمة العربية للثقافة.. د. عبدالله تركماني

خواطر برسم القمة العربية للثقافة.. د. عبدالله تركماني

ملف القمة الثقافية العربية
الآراء الواردة في هذا الملف تحمل رأي كتّابها, ولا تتحمل «العربي» مسئوليتها

منذ إصدار ميثاق الوحدة الثقافية في فبراير 1964 ظل العمل الثقافي العربي المشترك أملاً لم يتحقق، واليوم أليس من المشروع التساؤل عن مصير «الخطة الشاملة للثقافة العربية» التي أعدتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في العام 1985 باستضافة من المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت؟ وما الذي يمكن لقمة عربية ثقافية أن تحققه للمشهد الثقافي العربي وللمثقف العربي؟ وهل يحتاج المثقف العربي اليوم إلى قمة عربية ثقافية ترسم للثقافة العربية طريقها وتحدد لها شكلها ولونها؟ ألا يكون اضطلاع قمة عربية بالنظر في الشأن الثقافي قيداً على الثقافة العربية؟

لعلّ السؤال الذي يجدر الانطلاق منه هو ما هي التحديات الثقافية التي يواجهها العالم العربي والتي يُساهم تشخيصها والتعرف إليها في صياغة استراتيجية للعمل الثقافي العربي؟

إنّ الثقافة العربية اليوم، كما هي بالأمس القريب مكبلة بقيود كثيرة، فلا يمكن الحديث عن واقع الثقافة العربية من دون التطرق إلى أنّ 30% من المواطنين العرب يعانون من الأمية، ولو أضفنا على هذا واقع الفقر الذي يعانيه العرب (41 % منهم تحت خط الفقر). فكيف سيقرأ شعب هذه نسب الأمية والفقر فيه؟ وعليه فإنّ السؤال هو: من أين يبدأ البحث عن مشروع ثقافي عربي وكيف السبيل؟

ولعل أمل الدكتور سليمان العسكري يتحقق: أن تكون القمة الثقافية المنتظرة قمة نوعية تفتح باباً جديداً لحرية المواطن العربي المبدع‏,‏ وأن تكون سماؤها أرحب مما هي الآن لكثير من مفكرينا‏,‏ وأن تكون الأرض العربية مستقراً آمنا لحرية الفكر والإبداع العربيين‏.‏

في التنمية الثقافية

لاشك أنّ الثقافة هي محور منظومة التنمية المستدامة وجزء من البنية الأساسية لأي مشروع نهضوي عربي، وهي تعوّل كثيراً على نجاح التنمية البشرية‏,‏ إذ لا قراءة من دون قراء‏,‏ وليس هناك قراء من دون محو للأمية‏.‏ ولئن كانت أدبيات التنمية الحديثة والثقافة في القلب منها - تعتبر أنّ نجاح عملية التنمية يتطلب تكامل أضلاع مثلث الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، فإنّ أية استراتيجية للعمل الثقافي العربي لابد أن تنطلق بدورها من إقامة شراكة بين المؤسسات الثقافية الرسمية، ومبادرات القطاع الخاص المعني أحياناً بالعمل الثقافي، ومنظمات المجتمع المدني ذات الصلة. ولعل الاقتناع بالمسئولية الثقافية لرأس المال يدفع كيانات القطاع الخاص للاضطلاع بدور تنويري في هذا المجال.

مقترحات لعمل ثقافي مجدٍ

حبذا لو أنّ القمة العربية للثقافة المنتظرة تتخذ عدداً محدوداً من القرارات القابلة للتنفيذ، على سبيل المثال: أن تلغي الرسوم الجمركية على الكتب وأن تسمح بحرية التنقل للكتاب العربي، وأن تهتم بتسويقه وترجمته. وأن تقوم بتجديد المناهج التعليمية بدءاً من الصفوف التعليمية الأولى، وزيادة الاهتمام ببرامج محو الأمية في القرى والأحياء الشعبية والجهات النائية في الأقطار العربية.

إنّ ما نحتاج إليه اليوم، على صعيد التكامل الثقافي العربي، هو العمل الثقافي (المشاريع والأدوات الثقافية على أرض الواقع وفي صفوف الناس). والعمل الثقافي الذي نحلم به على صعيد التكامل الثقافي العربي قد يكون هو إطلاق عدة مشاريع ثقافية عربية تتوافر لها عناصر التمويل وإمكان التنفيذ، وإرادة العمل، ووضوح الرؤية. وحينما يتأمل المرء الواقع الثقافي العربي وما يواجهه من تحديات سرعان ما يكتشف أن هناك مشاريع ثقافية عاجلة وملحة جديرة بأن تُطرح للنقاش العام:

1 - توظيف حركة التأليف والنشر في العالم العربي لإطلاق مشروع يعنى بإحياء الوعي العربي بلغة تناسب مستجدات العصر وتخاطب النشء والشباب على وجه التحديد.

2 - دعم اللغة العربية والحفاظ عليها في ظل الشواهد الخطيرة والمقلقة على تراجعها وركاكة استخدامها وضعف نظم ومناهج تعليمها في المدارس.

3 - إطلاق فضائية عربية ثقافية ذات توجه عربي تضامني تحتفي بالفكر والإبداع والفنون لجميع الدول العربية.

إنّ الثقافة العربية في مأزق، والعمل الثقافي العربي المشترك في وضع غير سليم، إذ يعزف المواطنون في الدول العربية عن الثقافة، فلا يمثل الاهتمام بالثقافة لديهم إلا نسبة ضئيلة للغاية من اهتماماتهم. ويكفي أن نذكر هنا أنّ أعلى كمية تصدر من أي كتاب لأي مؤلف من جميع الدول العربية، لا تزيد على ثلاثة آلاف نسخة. والكتاب العربي الذي يطبع في بيروت لا يصل إلى دول المغرب العربي مثلاً، إلا بعد سنة أو سنتين، هذا إذا وصل فعلاً، وهو غالباً لا يصل، أو تصل نسخ محدودة منه.

أهم خصائص الزمن الثقافي المعاصر

يشهد العالم مرحلة إعادة نظر جذرية في قضية الثقافة، بل إعادة اعتبار لها من زاوية استراتيجيات المستقبل، خاصة أنّ التطورات الجارية تبشر بمستقبل جديد على مستوى الإنجاز المادي والتقدم التكنولوجي، ومراكز البث الإلكتروني، وبرامج التنفيذ في مجالات الإدارة والعمل الوظيفي، فضلا عن المؤسسات التي تقتضي طبيعة عملها صرامة متناهية في التنفيذ.

ومهما كان الأمر فإنّ ما سوف يميّز الزمن الراهن هو زيادة الانفتاح الثقافي والاجتماعي الذي سيشمل الاقتصاد والسياسة وأساليب التفكير، بحيث تتصل كل مجتمعات العالم بعضها ببعض بما يحقق التبادل الثقافي على أوسع نطاق. وسوف يساعد هذا الانفتاح والاتصال على معرفة الثقافات المختلفة في العالم، وإدراك كنهها ومعرفة رموزها ومعاني هذه الرموز، مما يؤدي إلى احترام ثقافة الآخرين والنظر إلى كل ثقافة منها على أنها منظومة واحدة تتفق - في مبادئها العامة - مع المنظومات الثقافية الأخرى على الرغم من اختلاف العناصر الجزئية التي تدخل في تكوينها. وسوف تزداد المطالبة بالحقوق المدنية لكل بني البشر، وإعادة صياغة وتأويل الثوابت التقليدية المتوارثة في الاجتماع والأخلاق والسياسة والاقتصاد. وعلى الرغم من سقوط الحواجز الثقافية بين مجتمعات العالم، وازدياد التقارب الثقافي بين مختلف الشعوب، فسوف تظهر الرغبة في إبراز وتأكيد التمايز والاختلاف والاستقلال للتعاطي المجدي مع محاولات الهيمنة الثقافية الغربية.

ومن أجل ذلك، فلنجرؤ على توكيد وجود مشتركات إنسانية، هي تلك التي ألهمت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام 1948. فعلى العكس من مزاعم أعداء الحرية والأصوليين من كل حدب وصوب، ليست هذه المشتركات أنموذجاً غربياً، بل إنها ميّزة إنسانية. وهي ميّزة كل الشعوب، وكل الأمم، وكل الديانات.

وفي هذا السياق لا يحق لنا الحديث عن غزو ثقافي مادمنا مشاركين بفاعلية وجدية في الحوار مع أنفسنا وغيرنا، وقادرين على طرح الأسئلة على الذات والمختلف، وعلى امتلاك أنماط من التفكير الحر والمفتوح تتركز حول تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، هويتنا وديننا، فلسفتنا ومجتمعنا، مفاهيمنا ومبادئنا، ما لدينا وما لدى غيرنا، ومؤهلين للإفادة من غيرنا، مقتدين في سلوكنا بابن رشد، الذي رأى أنّ ما هو صحيح لدى غيرنا يجب أن نعتبره ملكاً لنا، بغض النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا مع الجهة التي أنتجته. أما إذا افتقرنا إلى أدوات التفكير والمعارف الضرورية لزماننا ولحاجاتنا، وانغلقنا على أنفسنا واتخذنا موقف الخائف المرعوب على هويته، الرافض لأي احتكاك مع غيره، فإنّ وضعنا يكون أفضل الأوضاع بالنسبة إلى من يريد غزونا ثقافياً أو عسكرياً أو سياسياً، ونكون بلا حصانة أو مناعة، ثقافية كانت أو غير ثقافية، وندمر أنفسنا وثقافتنا من حيث نعتقد أننا نحميهما ونصونهما.

ولعلنا نأخذ بما قدمه المفكر السيد يسين من مقترحات للقمة العربية للثقافة، تتضمن مناقشة عدة محاور منها العرب والعالم: كيف ينظر العرب إلى العالم؟ وكيف ينظر العالم إلى العرب؟ وكيف يمكن تصحيح الصورة المشوهة للعرب في الغرب بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول؟ وكيف يمكن مواجهة ظهور ثقافة كونية وتحديات الفضاء المعلوماتي، وهروب الشباب إلى المدونات لنقد النظم السياسية؟ كذلك أزمة الثقافة الديمقراطية في الوطن العربي، والعلاقة المعقدة بين الدولة والمجتمع، وكيف يمكن التعريف بالإبداع العربي في الخارج؟

مجالات التغيير المطلوبة للتكيّف الإيجابي مع العصر

للخروج من الحالة الموصوفة للثقافة العربية، خاصة في ظل ثقافة العولمة، لابد من التأكيد على مجموعة جوانب مترابطة للتغيير الثقافي، الذي يمكّننا من القطيعة مع التأخر والانطلاق إلى مسارات النمو والتنمية الذاتية، والتحرر من المحنة العربية:

(1) مبدأ الحرية والاختيار، لأنّ الحرية ترتبط بالمسئولية وتنفي الحتمية أو الجبرية.

(2) النسبية والتنوع والاعتراف بالآخر، فكل حقيقة نسبية، ولكل فكرة تجلياتها الجزئية.

(3) ثقافة حسن الاختيار، إذ يترتب على القول بنسبية كل حقيقة أنّ أي اختيار يكون صائباً بقدر ما يتفق مع معطيات الواقع.

(4) ثقافة الدور أو الواجب الحضاري، أي إحياء فكرة الإعمار التي هي من أهم الأرصدة الثقافية للحضارة العربية - الإسلامية، بما هي واجب الإنسان في الكون.

(5) - ثقافة الامتياز والإنجاز، إذ أنّ الفائزين في المنافسة الحضارية هم مَنْ يسعون لتحقيق أعلى معدلات وأرقى مستويات الأداء في مجالات الحضارة المختلفة، وبخاصة مجالات الإنتاج والاقتصاد والثقافة.

هكذا، لم يعد مستقبل الثقافة العربية محصوراً في التعليم على الرغم من أهميته، أو مقتصراً على مشكلة الكتاب على الرغم من تصاعد دوره وتنوّع وسائل تيسيره وإشاعته، وإنما أصبح المستقبل أفقاً من الإمكانات المتعددة التي تتعدد فيها وسائط التثقيف التي وصلت إلى درجة هائلة من الانتشار الإعلامي الجماهيري بواسطة التلفاز، على وجه الخصوص، وظهور الدور المتصاعد للمواقع الثقافية على الإنترنت. وكان من نتيجة التعقد اللافت في علاقات العمل الثقافي وأدوات إنتاجه أن اتسع معنى التثقيف العام ليشمل جهود وزارات: التعليم، والثقافة، والإعلام، والشباب، والعمل، والأوقاف، والاتصالات، وغيرها. وتتناغم في هذه الجهود أدوار المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص وتنظيمات المجتمع المدني، بالقدر الذي تتشابك وتتقاطع فيه مصالح متعددة من الداخل والخارج، تستعين بأحدث منجزات الثورة المعلوماتية.

إنّ أول خطوة أمام بناء هذا النظام الثقافي العربي تكمن في التوقف عن استخدام الثقافة بوصفها جهازاً من أجهزة السيطرة والمراقبة وتشكيل النفسية والعقلية القابلة للخضوع والإذعان، بغية الانتقال من ثقافة تصنع في خدمة السلطة إلى ثقافة تكون في خدمة التغيير، تغيير الإنسان أولاً، وتغيير شروط حياته المادية والاجتماعية والسياسية، والارتقاء بها إلى مستوى الحياة الإنسانية ثانياً، كي لا يجعل من الإنسان العربي نسخة مشوهة ومترهلة من إنسان النظم الشمولية، التي قضت وأصبحت في ذمة التاريخ.

 

 

 

عبدالله تركماني