عندما تتحول الثقافة إلى سلعة
الصناعات الإبداعية تعبير جديد، لم يتم تداوله إلا في بداية الألفية الثانية كأحد مصادر الاقتصاد، وهو يحمل في داخله نوعًا من التناقض، فالإبداع هو هبة طبيعية يختص بها الله بعضًا من عبيده، فمنهم مَن يتألق في مجال التعبير بالكلمات أو الرسم بالألوان، أو حتى العزف على الأوتار، وغير ذلك من الإبداعات البشرية، لا أحد يتحكم في موهبته، يستطيع فقط أن ينميها ويحافظ عليها ولكن بذرتها يجب أن تكون بداخله أولًا، حتى الذين لا يؤمنون يدركون أن بذرة الموهبة هي هبة إلهية لا يمكنهم التحكم فيها، يولد بها المرء وهو لا يدري قيمتها.
مع تطور الحياة ووجود الظروف المواتية يستطيع الإنسان اكتشافها، وفي هذه الحالة لا يستفيد منها فقط، ولكن يفيد الآخرين، من أجل إمتاعهم وشحذ أفكارهم، فكيف يمكن أن تتحول هذه الموهبة الفردية إلى سلعة أو بالأحرى إلى صناعة؟ ولكن مع تطوّر عمليات الإنتاج الثقافي لم يعد الفن فرديًا، لقد توسّعت آليات السوق واستطاعت أن تحتوي هذه الإبداعات، بل وأن تخلق نوعًا من المنافسة بين المبدعين، لا من أجل الكمال الفني فقط، ولكن من أجل الربح أيضًا، لقد انخرطت الصناعة الثقافية بكل إنتاجاتها من كتب وأفلام وموسيقى وحتى من شواهد العمارة والبنيان في خضم الاقتصاد الإبداعي، الذي يدر دخلًا يقدر بمليارات الدولارات سنويًا في العديد من الدول الغربية والقليل القليل في الدول العربية، بل إن الاقتصاد الثقافي يتصدّر المرتبة الأولى في التجارة الدولية متفوقًا بذلك على تجارة السلاح والنفط والغذاء والدواء وسائر السلع التقليدية.
ولكن ما هي تلك السلع الثقافية على وجه التحديد؟
في تقرير لمنظمة اليونسكو تم تقسيم الصناعات الإبداعية إلى 4 مجموعات هي، التراث، والفنون، ووسائل الإعلام، والإبداعات الوظيفية، على النحو التالي:
1- مجموعة التراث: وتتكون من مجموعتين: أولاهما أشكال التعبير الثقافي التقليدية، كالفنون الشعبية، والحرف اليدوية، والمهرجانات، والاحتفالات. وثانيتهما المواقع الثقافية، كالمواقع الأثرية، والمتاحف، والمكتبات، والمعارض.
2- مجموعة الفنون: كالصناعات الإبداعية القائمة على الفن والثقافة، وتنقسم إلى الفنون البصرية، كالرسم، والنحت، والتصوير الفوتوغرافي، والتحف. والفنون المسرحية، وتشمل الموسيقى، والمسرح، والأوبرا، والسيرك.
3- وسائل الإعلام: المجموعة الأولى هي النشر والوسائط المطبوعة كالكتب، والصحافة، وغيرها من المطبوعات. أما الثانية فهي الوسائل السمعية والبصرية كالأفلام، والتلفزيون، والإذاعة.
4- الإبداعات الوظيفية: وهي الصناعات الموجهة نحو خلق السلع والخدمات، وتحددها أذواق المستهلكين، وتنقسم إلى ثلاث مجموعات: هي التصميم، كالرسم، والأزياء، والمجوهرات، ولعب الأطفال. والثانية وسائل الإعلام الجديدة، كالبرمجيات، وألعاب الفيديو، والمحتوى الإبداعي الرقمي. والمجموعة الفرعية الثالثة هي الخدمات الإبداعية، وتضم الخدمات المعمارية، والإعلان، والخدمات الثقافية والترفيهية، وفي بعض الأحيان الأبحاث الإبداعية.
وتعد الصناعات الثقافية والإبداعية الأسرع نموًا في العالم، لأنها تعتمد على مورد فريد ومتجدد هو الإبداع البشري، وهي السبب الرئيس لإنتاج القوى الناعمة لبلد ما وتعتمد من حيث المبدأ على توافر رأس مال بشري مُبدع قادر على التطوير والتحديث والابتكار، وتنتج سلعًا وخدمات رمزية حافلة بالأفكار والرؤى والفن، فاقتصاد اليوم في جوهره اقتصاد إبداعي يشهد نموًا مستمرًا ويلعب دورًا حاسمًا في مستقبل الثقافة، وتلعب دورًا مهمًا في تحديث الاقتصاد العالمي، حيث تمثل 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وتوفر فرص عمل لنحو 29.5 مليون شخص. كما أنها تساهم في تعزيز الابتكار والنمو الاقتصادي، وخلق فرص العمل، وتحسين جودة الحياة
الإبداعية في الدول العربية
كان اهتمام الدول العربية بالصناعات الإبداعية ضعيفًا، رغم تاريخها الطويل وتراثها الغني المتنوع، ولكن تحويل الثقافة إلى منتج يتداوله الجميع كان في حاجة إلى استراتيجية طويلة المدى تتشارك فيها الحكومات مع الأفراد، ورغم ذلك فقد شهدت دول الخليج محاولة لتنمية هذه الصناعات، فقد وضعت الإمارات خطة مستقبلية لتصبح مركزًا ثقافيًّا إقليميًا وشجعت صناعة المتاحف، والفعاليات الثقافية، ومعارض الفنون، والمهرجانات السينمائية، مثل مهرجان دبي السينمائي الدولي، إضافة إلى تدشين المدن المتخصصة، مثل مدينة دبي للإعلام التي تدار وفق آليات المناطق الحرة، وكذلك الأمر في السعودية، عندما تم إطلاق مشروع مدينة القدية؛ باعتباره أكبر مدينة ثقافية ورياضية وترفيهية، كما تم وضع مشروع لإنشاء أكبر متحف إسلامي في العالم، ولكن الكويت كان لها السبق على مستوى الخليج، فمنذ الخمسينيات وقد أطلقت مجلة العربي بطباعة عالية الجودة وتباع بأسعار رخيصة، وقد اجتذبت أقلام كبار الكتّاب والرسامين العرب واستطاعت أن تدخل كل بيت عربي، ولكنها كانت مجرد بداية لمشروعها الثقافي الأكبر، فقد أنشأت الكويت قبل الجميع المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الذي يصدر سلاسل من المجلات المتخصصة التي استقطبت الكتاب والعلماء والمترجمين العرب، وهيأ المجال لتبادل الأفكار والتجارب، كما قام برعاية النشاط الثقافي والمسرحي وإقامة المهرجانات الفنية والأدبية.
وبشكل عام تُولِي دولُ الخليج اهتمامًا كبيرًا بالصناعات الإبداعية القائمة على المعرفة والابتكار، وتوجيه طاقات الشباب نحو الأفكار الجديدة. ومن المنتظر مع انتهاء دول الخليج من تنفيذ كثير من مشاريعها ومبادراتها الإبداعية، أن يُساهم ذلك في دعم مكانتها الثقافية.
وتبقى تجربة مصر هي الرائدة رغم ما أصابها من وَهَن، فطالما التفّ العرب حول المنتجات الثقافية المصرية من كتب وأفلام وموسيقى، وكان هذا جزءًا من قواها الناعمة، وقد تسببت العديد من الظروف السياسية والاجتماعية لفقدان مصر جزءًا من هذه القوة، وهناك ضرورة لعودة دورها القيادي وتحويل مصر إلى مجتمع معرفي مبدع يرتكز على تميزها النسبي في مجال القوى الناعمة المعتمدة على السلع والخدمات الإبداعية والثقافية، بهدف تعظيم معدلات إنتاجها وزيادة حجم صادراتها إلى محيطها العربي والشرق أوسطي، في ظل رؤية متكاملة تسعى إلى دعم جهود التنمية المستدامة، ولكن هذا لا يمنع أن هناك تجربة عربية لابد من الإشارة إليها وجعلها نموذجًا في الاستخدام الجيد للتنمية الثقافية، وذلك من خلال مهرجان أصيلة.
تجربة رائدة
على شاطئ المحيط يوجد مطعم صغير، يجلس روّاده من محبي المأكولات البحرية وهم يسمعون هدير الأمواج، وتملأ جدرانه بصور العديد من الزبائن الذين يرتادونه، كما يحرص صاحب المطعم على تقديم سجل ضخم يوقعون فيه، وهذا هو المدهش، فالصور والتوقيعات تضم أسماء مجموعة من أشهر الممثلين العالميين والكتّاب ونجوم كرة القدم، كيف جاء نجوم العالم إلى هذا المطعم الصغير؟ كيف تخطى معظمهم البحر الفاصل عن أوربا حتى يحلوا بهذه المدينة الصغيرة على حافة المحيط الأطلسي والواقعة في شمال المغرب؟ إنها الشهادة الأكبر على جدوى الاستثمار الذي لم يكتف بأن يكون رجلاً مسؤولاً في الدولة، حيث شغل منصب وزير للثقافة ثم وزير للخارجية، ولكن إنجازه الأكبر كان في تحويل قريته الصغيرة إلى أيقونة ثقافية، أصبحت فضاءً مفتوحًا لكل أنواع الفنون عندما أنشأ مهرجان أصيلة الذي بلغ من العمر عامه الثالث والأربعين، وتحولت شوارع القرية إلى مسرح مفتوح تصدح فيه الموسيقى وتقام فيه الاستعراضات وإيقاعات الخطوات الراقصة، وأصبحت الجدران لوحات واسعة تستقبل كل إبداعات الفنانين، وعامًا بعد عام تحولت جدران القرية إلى متحف تشكيلي مفتوح يتغذى بالشمس ويقاوم المطر، وأنشئت فيها القاعات للندوات وإلقاء الشعر وعروض الأزياء وأهدتها السعودية مكتبة ضخمة تضم أمهات الكتب، وأقيمت فيها الورش التي تضم كل المواهب في الرسم والكتابة، وعقدت فيها المسابقة الأدبية ومشاريع إنتاج الأفلام، وأصبح مهرجان أصيلة وموسمها الثقافي ملتقى للمبدعين والمفكرين العرب والأفارقة والغربيين، وتحولت القرية إلى مزار عالمي يأتي إليه الزوار والسائحون والمشاركون من كل أنحاء العالم، والبعض منهم اشتروا بيوتًا واستقروا فيها، وعرفت اليخوت وبقية وسائل المواصلات البحرية طريقها إليها طوال العام، فأصبحت المدينة التي بناها الأندلسيون بعد إخراجهم من الأندلس مدينة للفنون، ونموذجًا عربيًا نادرًا للصناعات الإبداعية.
مستقبل الصناعات الإبداعية
من المتوقع أن تستمر الصناعات الإبداعية في النمو والازدهار في المستقبل، وذلك بسبب مجموعة من العوامل، منها:
• الزيادة في الطلب على السلع والخدمات الإبداعية: تستمر الصناعات الإبداعية في النمو، وذلك بسبب زيادة الطلب على السلع والخدمات الإبداعية، مثل الأفلام والموسيقى والألعاب والبرامج التلفزيونية.
• انتشار التكنولوجيا الرقمية: يساهم انتشار التكنولوجيا الرقمية في زيادة الوصول إلى السلع والخدمات الإبداعية، مما يساهم في زيادة الطلب عليها.
النمو الاقتصادي: يساهم النمو الاقتصادي في زيادة الدخل الفردي، مما يؤدي إلى زيادة الطلب على السلع والخدمات الإبداعية.
تواجه الصناعات الإبداعية أيضًا مجموعة من التحديات، منها:
التنافسية العالمية: تواجه الصناعات الإبداعية منافسة عالمية شديدة، مما يتطلب منها تطوير قدراتها التنافسية.
حقوق الملكية الفكرية: تواجه الصناعات الإبداعية تحديات في حماية حقوق الملكية الفكرية، مما يؤثر على قدرتها على تحقيق الربح.
التغيرات التكنولوجية: تواجه الصناعات الإبداعية تحديات في مواكبة التغيرات التكنولوجية السريعة، مما قد يؤثر على قدرتها على البقاء في السوق.
خاتمة
إن البلدان العربية قادرة على تجهيز نفسها برؤية متفتحة لدفع التنمية الخاصة بها، وبقدرات استراتيجية وسياسية وفكرية، وذلك من أجل فتح آفاق جديدة أمامها. إن مثل هذه الديناميكية تتطلب انتهاج سياسة فعالة لتثمين رأس المال البشري ترتكز على منظومات تعليمية ذات جودة عالية، كما تتطلب إجراء إصلاحات اقتصادية عميقة بهدف تحسين إنتاجية العمل، وتكون مرتبطة بتأمين قانوني وافٍ، وهذا من أجل جذب التدفقات الاستثمارية الخارجية المباشرة وتوجيهها لتحسين قاعدة البنى التحتية للتنمية ■