النخبة العربية المثقفة بين الأمس واليوم

النخبة العربية المثقفة  بين الأمس واليوم

يبرز دور المثقف في المجتمع من خلال ما يتركه من أثر إيجابي في تغيير الوعي الفردي والجماعي لدى أفراده، سواء من خلال ما يساهم به من فكر وأدب وعلم وإبداع، أم من خلال ما يثيره من أسئلة مشروعة حول مواقف وأفكار تتداعى من هنا وهناك. هذا الدور منوط به بالدرجة الأولى لأنه يمثل بشكل أو بآخر ذلك المنقذ من الأمية والجهل بالشيء والواقع، فكل مثقف لا يمكنه أن يحقق هذا الشرط إن كان في غنًى عن هذا الدور الكبير الذي يمنحه المكانة اللائقة به داخل مجتمعه؛ وإلا كان وجوده كعدمه. فدوره الكبير في توعية الناس وفهم الواقع ومحاولة قراءته بشكل يوحي بقدرته على تحليل الأحداث والوقائع وإنتاج المعرفة واكتشاف صور التفكير الاجتماعية السائدة وتصحيح الخاطئ منها، هو أساس وجوده وحضوره كفرد فاعل في مجتمعه ومحترم بشكل كبير وقوي.

 

إن الإنتاج الثقافي في حاجة إلى نخبة مثقفة قادرة على إبداع سبل وأساليب مختلفة ومبدعة تهدف إلى التغيير، تغيير الواقع المعاش والذي يمثل عرقلة لإصلاح الوعي المجتمعي وتشكيله من جديد وفق نظرة متجددة لا تعيد إنتاج السائد ثقافيًا والمألوف اجتماعيًا. ولعل ما نعيشه اليوم من انتكاسات وانكسارات متعددة على مستوى الموقف والوجود والحضور الفعلي عالميًا يظهر مدى فشل منظومتنا الثقافية والاجتماعية في خلق نخبة قادرة على إحداث التغيير وتشكيل الوعي لفهم العالم وأقطابه وأشكال تفكير شعوبه المتنوعة.
إن اندفاع المثقف العربي اليوم إلى تبني مواقف سياسية وأيديولوجية غير محسوبة العواقب لا يمكنها أن تحقق الهدف الأساس الذي يرتبط بمدى تحقيق التغيير الفردي داخل المجتمع، ولا تحقيق الغاية الكبرى المتمثلة في خلق أثر حقيقي لدى الآخر في عالمنا الذي تتشكل فيه الأحداث وفق سياسة محددة المعالم ووفق الواقع الذي لا يرتفع. فأن يتسرع المثقف العربي اليوم في تبني موقف معين دون أن يضع في حسبانه مدى نجاعته في تحقيق هذا التغيير ومدى تطابقه مع الواقع ومع ما تُبنى عليه المواقف الصادمة في أغلبها، فهو أمر يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن مثقفنا العربي أصبح مزاجيًا أكثر من كونه مثقفًا متأنيًا واعيًا بأهمية الوقائع والأحداث العالمية. ونحن هنا لا نرغب في محاسبته بقدر ما نهدف إلى إحداث رجة فكرية لديه حتى يدرك مسؤوليته العظيمة الملقاة على عاتقه.
ويرى المفكر عبدالحسين شعبان أن السلطة التي مُنِحت للمثقف حرمة، مثلما لمعرفته حرمة ومكانة، وهي حرمة أو مكانة لدى صاحبها أولًا، ومن لا يحترم وسيلته الإبداعية لا يحترم حرمته وسلطته، وبالتالي فإن نكوص المثقف وتراجعه عن سلطته، أي تنازله عنها يعني عدم احترام ثقافته، وبالتالي معرفته وسلطته الخاصة. ولا يمكن تعزيز سلطة المثقف وتحريره مما يمنعه عن الإبداع، يكمن في إشاعة الحريات العامة والخاصة، ولاسيما حرية الفكر والإبداع واحترام حقوق الإنسان في أرقى تجلياتها. ومهما تعددت إمكانيات المثقف العربي في العقود السابقة ووسائلها في المواجهة والصراع مع القوى المحارِبة للتطور والوعي الثقافي فإنه وُوجِه بالتحجيم من أجل إضعافه والتقليل من شأنه في المجتمع، وبالتالي التقليل مما يقدمه من إبداع علمي وفكري وفني وأدبي.
 
مثقف الأمس... مناضل شرس
لقد ساهم مثقف الأمس بشكل كبير في إرساء الوعي المجتمعي بمدى فاعلية النضال الثقافي والسياسي والاجتماعي وفق أيديولوجية محددة الأفكار والمعالم وأساليب الرأي التي راجت في تلك الحقبة؛ ونخص بالذكر هنا مثقف النهضة وما بعد النهضة الذي استطاع أن يكرس نوعًا من التفكير الثقافي والتعبير النقدي لمواقف وسلوكيات وأفكار سادت في زمن الصراعات والانكسارات على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي. هذا المثقف المناضل الذي كرس نفسه صوتًا جهوريًا مدافعًا عن الشعوب المستضعفة والمقهورة لم يألُ جهدًا فكريًا أو إبداعيًا في أن يجعل نفسه صوتًا لمن لا صوت لهم ومنبرًا لمن أغلِقت في وجوههم جميع المنابر، للتعبير عن معاناتهم وإحباطاتهم ومخاوفهم من المستقبل؛ فكان بذلك الصوت القوي والرادع للكثير من الأنظمة المستبدة الفاسدة في وطننا العربي كله.
تمكن مثقفو الأمس كما حددناهم مسبقًا من مواجهة القوى المستبدة الداخلية، بل هناك من تجرأ منهم بقوة على مواجهة الغرب وثقافته الإقصائية الاستعمارية التي تمكنت من إيجاد موطئ قدم لها داخل بلداننا العربية واستحكمت بقوة بوساطة العديد من نخبنا العربية المثقفة التي استطاع الغرب اختراقها بوسائله الإغرائية المعهودة. وإن دلّ هذا على شيء فإنما يدل على قيمة بلداننا في نظر الغرب منذ قرون؛ ولذلك نجده (أي الغرب) يحاول دائمًا التوغل في ثقافتنا ومحاولة اختراقها وضربها من الداخل وتشويهها بكل الطرق والأساليب الشيطانية، بل يدفع إلى فرض لغته وثقافته على أرض الواقع وفق استراتيجية محكمة. وما يحز في النفس هو انخراط البعض من مثقفينا في هذا الاختراق الخطير. كل هذا تمّ في مراحل تاريخية في نهاية القرن التاسع عشر والقرن العشرين، لكن الأجمل أنه وجد من يقف ضد مخططه الخطير هذا من نخبنا المثقفة التي واجهته بكل ما تملك ونجحت إلى حد بعيد في الحد منه أو على الأقل تأجيله.
وفي هذا الإطار، يمكننا تأمل الأفكار التي طرحها العديد من هؤلاء المثقفين العرب السابقين الذين تبنوا تصورات كبرى ومتقدمة لتطوير الثقافة العربية والتعليم وأساليب التفكير واستراتيجيات الإبداع الثقافي والأدبي والفكري والعلمي من خلال تبني نظريات عربية تراثية ومحاولة تلقيحها بما جاء في النظريات الغربية بما يتلاءم مع خصوصياتنا الثقافية والاجتماعية والتاريخية. لقد قامت أطروحاته وتصوراته النقدية والفكرية على مبادئ وأسس علمية محددة تبنت أسلوب الهجوم الفكري والمواجهة في إطار صراع فكري مع قوى ثقافية وسياسية أخرى مخالفة له في الرأي والموقف، ومع أفكار دخيلة على المجتمع العربي المحافظ على قيم وتقاليد سادت لقرون خلت يصعب تجاهلها أو التخلي عنها لصالح قيم غربية غريبة لا تمت بصلة إلى ما تشبعت به الثقافة العربية وحافظت عليه منذ بداية الإسلام وبروز الدولة العربية الموحدة. 
ومع توالي العقود والسنين، برزت في أفق الثقافة العربية، قوى فكرية وعلمية ذات نزعات مختلفة متعددة التصورات الفكرية والعلمية، قدمت حلولًا أخرى كانت في أغلبها مربكة ومفسرة لقضايا عربية مطروحة قامت أساسًا على فكرة التغيير والإصلاح؛ بل قامت على مبادئ امتلاك الحقيقة ونقد الواقع والسائد ومحاربة المألوف والثقافة المؤسسة على القيم التراثية والتاريخية التي دامت لقرون كثيرة محافظة على القليل من وجودها وحضورها القوي أمام باقي الثقافات الأخرى. هذه القوى الفكرية الجديدة انطلقت من مسلمات غريبة عن الثقافة العربية، في إطار شامل متكتل ينبني على الهجوم على التقاليد والتراث وضعف الثقافة العربية والإسلامية في مواجهة المد الفكري والعلمي الغربي الذي يكنس كل شيء أمامه ويدمر كل مقاومة وصمود في طريقه لا يترك شيئًا ولا أحدًا إلا دمره.

النخبة المثقفة المعاصرة
 لقد استفادت هذه النخبة من الوعي الثقافي العربي الجديد والذي تطور مع مرور الوقت، واستطاع أن يخلق لنفسه حيزًا فكريًا وثقافيًا داخل المجتمعات العربية، بل برزت كبديل حضاري قادر على تقديم الإجابات على العديد من الأسئلة الفكرية والعلمية والفلسفية المطروحة؛ إضافة إلى ادعاءاته اليومية بقدرته على معالجة كل المشاكل الحقيقية التي يعيشها المجتمع العربي قاطبة وفق نظرة متجددة منفتحة على الآخر بشكل إيجابي والقطع مع كل ما هو تراثي لا يقدم تفسيرًا واقعيًا لأسئلة الحاضر. 
فحلُّ الإشكاليات الفكرية المطروحة من وجهة نظر هذه النخبة المعاصرة يكمن في خلق صدام داخلي بين مختلف الفئات الفكرية التقليدية والاتجاهات المعاصرة، وبينها وبين الآخر وفق منهجية علمية وفكرية محددة سلفًا واستبعاد المعتقدات والأيديولوجيات وطرحها جانبًا أثناء النقاش والحوار. ويكمن هدفها من كل هذا، في جعل ثقافتنا العربية ثقافة كونية تتمركز في تفاعلها وانفتاحها العالمي؛ وهذا لن يحصل إلا من خلال تجاوزها لكل ما هو تقليدي وعبورها النفق الذي رسمته النخبة المثقفة السابقة في عصور عرفت فيها صراعات وتصدعات على مستوى التفكير والإبداع. 
تشكلت تصورات النخبة المثقفة المعاصرة حول القضايا الوطنية والقومية التي عرفتها مراحل أساسية في التاريخ من خلال وقوفها على العديد من التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية، حيث استطاعت أن تقرأ هذه القضايا وفق قناعات وأيديولوجيات واضحة المعالم ومحددة الغايات والأهداف. بل لقد تمكنت هذه النخبة من إبداع أشكال مختلفة من المعالجات والتحديدات التي واجهت الكثير من المصاعب والصراعات؛ وفي هذا الصدد تطور الفكر العربي في إطار من التفكير المتنور والتجديدي الذي حدد آفاق الحوار والنقاش الحقيقي لكل قضية عربية على حدة. ولقد برزت في الأفق بعض النخب المثقفة من الباحثين وأهل الأدب والفكر، وبالرغم من حضورهم الفكري والعلمي والثقافي فإنهم لم يستطيعوا الانسجام داخل مجتمعاتهم بخلاف النخبة المثقفة السابقة، بل لم يستطيعوا إيجاد مكانة حقيقية داخلها بفضل ضعف تأثيرهم الحقيقي والإيجابي في الأفراد نظرًا لفشلهم بدرجة أو بأخرى في خلق دينامية ثقافية ومعرفية بين أفراد المجتمع الذين تعرضوا إلى الاستلاب الثقافي الغربي وصاروا ضحايا لتطور تكنولوجي استهلكوا منه السلبي عوض الإيجابي.

تحولات متسارعة
لقد عرفت الثقافة الإنسانية عمومًا تحولات متسارعة منذ العقود الأخيرة، على الأقل ثلاثة عقود، حيث هجرة العقول وسفرها الثقافي والفكري عبر ربوع العالم، في علاقته بالآخر أينما كان. كل هذا من أجل بناء منظور ثقافي مختلف عن السائد والمألوف عربيًا، ومن أجل تكريس حرية الفرد بالدرجة الأولى. إن النزعة التي ينطلق منها المثقف العربي المعاصر، هي نزعة إنسانية تقوم على خلفيات تاريخية واجتماعية وثقافية وتصورات غير جاهزة مبنية على تفكير نهضوي ووعي متعدد. فلا ينبغي أن يكون هناك تعسف معرفي من حيث التصورات الفكرية النمطية تجاه قضايانا العربية، أو تكون هناك سذاجة ثقافية تتمثل في انطباعات فكرية مجردة عن كل تفكير منطقي وعلمي يستمد إبداعيته وعلميته من خلال النظرة الانفتاحية للعالم والآخر.
ولتحقيق كل هذا الذي تحدثنا عنه سابقًا، ينبغي تحصين الوعي الفردي والجماعي معًا، وتحصينه بقوة الفكر والثقافة السليمة لمقاومة الصدمات ومواجهتها ومحاربة الصور النمطية التي تقف سدًّا مانعًا أمام التفكير المتنور والمتطور وفق تطور الإنسان وفكره ونمط تفكيره تجاه العالم والآخر. وبذلك ينهض الفكر العربي بوظيفة أساسية ومهمة في بناء الثقافة العربية الحقيقية وإعادة الاعتبار إليها وحمايتها من الاختراق بشكل أو بآخر كما وقع في فترات تاريخية من تاريخ الأمة مازالت آثارها السلبية تسيطر عليها إلى يومنا هذا. فالتعايش بين الشعوب والثقافات العالمية يمنح دفعة قوية لخلق دينامية إنسانية لتجاوز الصراعات والصدامات الحضارية والثقافية وانتهاك الأمن والسلم العالمييْن؛ وبموازاة ذلك ينبغي بذل كل الجهود الثقافية الدبلوماسية لبناء جسر ثقافي متين يقوم على الالتزام والتضامن الإنساني ■