التّجربة الشّعريّة الجديدة والتباسات التّسميّة

التّجربة الشّعريّة الجديدة والتباسات التّسميّة

شَهِدَ الشعر المغربي منذ مطلع الستينيات إلى وقتنا الراهن انعطافات مهمة توازيًا مع تطور الشعريات العربية، وفي ظل التَّحولات التي عرفها العالم العربي على كافة المستويات، وهو تحوُّلٌ ساهم في تطوير مفهوم الشعر، أدواره ووظائفه في الحياة.من هذه الزاوية، يرى الناقد المغربي نجيب العوفي: «أن المشهد الشعري المغربي شَهد في العقد الأخير من القرن المنصرم ازدهارًا شعريًا كميًّا لافتًا للانتباه وخليقًا بالاعتبار».

 

يرى الباحث أحمد زنيبر من جهته، أن القصيدة المعاصرة «شهدت تحولات مهمة، مست جوانب الشكل كما اخترقت مجالات المضمون. تحولات قادت القصيدة نحو عوالم جديدة راهنت على الحاضر والمستقبل، في آن، دون أن تفرط في مكتسبات الشعرية العربية القديمة، فالشاعر المعاصر، ظل منشغلًا بسؤال الإبداع باحثًا في ما يجدد الحياة ويفك ألغازها، بل ماضيًا قدمًا في سبيل تحرير الإنسان من كل جمود أو ركود». نستخلص من هذه الاستقصاءات، أن ثمة تحول في الشعرية المغربية، سواء على مستوى الشكل أو مستوى المضمون، والواضح، أن القصيدة المغربية لم تكن في منأى عن التحولات العميقة التي مَسَّتْ القصيدة العربية بشكلٍ عام، إن ما يُميِّزُ القصيدة العربية اليوم، هو جنوحها نحو التجريب، فهي تنمو وتتطور في واقع مليء بالمنعرجات الوعرة والرجات العاتية، وكان من المسلم به، في خضم هذه الانعطافات الكبرى، أن تندفع إلى الأمام، وترسم لها خطوات جديدة على درب المغامرة والإبداع والتجاوز، ويبدو أن أمر الحسم في الخطاب الشعري العربي وتقييمه، لا يزال مدار سجالٍ بين النقاد والمهتمين، لأن هذا الخطاب نفسه مازال يعيش في حمأة الصراعات، وعمق التحولات التي يعرفها منذ سنوات، والواقع، أن القصيدة العربية باتت تعرف اليوم، حالة من (الفوضى)، حتى باتت تتحرك وسط ركام هائل من الآفاق والمساءلات، لذلك يجري في الوقت الراهن حديث عن وجود أزمة، إلى درجة أن الكثير من الشعراء هجروا القصيدة، موجهين بوصلتهم نحو أجناس أدبية أخرى.
ومن الثابت، أنه مع ظهور ما بات يُعرف بـ«قصيدة النثر» في خمسينيات القرن الماضي وانتشارها في جغرافيات العالم العربي، حتَّى أَضْحَتْ «لسان الشعراء»، تُعبِّرُ عن طموحاتهم وآمالهم وتصوراتهم، مع هذا المعطي الشعري الجديد، طفت على السطح جملةً من التسميات لشعراءَ اختاروا الانضواء تحت إسارها، ومن هذه التسميات: «شعر الشباب»، «الشعرية الجديدة»، «التجربة الشعرية الجديدة»، وهي في واقع الأمر، تسميات، الهدف منها إضفاء الطابع الشبابي على هذا النوع من الشعر. يقول محمد عدناني في هذا الصدد: «أما (قصيدة الشباب)، فإنه مفهوم ملتبس التباسًا يسيء للتجربة، ويضيف إليها تناقضات أخرى، لأنه يجمع في تركيبته بين مفهومين متناقضين، أحدهما فني ولا زمني (القصيدة) والآخر يخضع لسلطة الزمان ولا يُحدد قيمة الشعر (الشباب)، واللافت للانتباه في هذا التعريف الذي قدَّمه عدناني، أنَّه يتساوق تمامًا مع ما عرفه المشهد الثقافي بالمغرب في فترتي الثمانينيات والتسعينيات أن عددًا من الصحف والمجلات، بدأت بإفراد صفحاتها لـ«الإبداع الصحفي»، وواكبته بقوةٍ، فأضحينا أمام ظاهرة شعرية جديرة بالاهتمام والمواكبة، وهكذا ظهرت «صفحة الشباب»، «على الطريق»، «ملحق العلم الثقافي»، «ملحق أنوال»، «ملحق الاتحاد الاشتراكي»، و«ملحق البيان الثقافي»، وغيرها من الملاحق والصفحات الإبداعية الخلاقة، منها ما يزال حاضرًا في الساحة الثقافية المغربية، ومنها من كان نصيبه الزوال، وبلا شك، فقد لعبت هذه المنابر والصفحات (الشبابية) ــ بالإضافة إلى بعض الحركات الشعرية التي لم يُكتب لها الاستمرارية ــ دورًا مهمًا في بروز جيل جديد من الشعراء والقصاصين والروائيين الذين باتوا اليوم، يحملون مشعل الثقافة المغربية. يَتَبَيَّنُ من هنا، أن أصل التسمية، ارتبط بمفهوم الزمن والجيلية، وليس بمفهوم الزمن الشعريّ، حيث إن أغلب المترددين على هذه الصفحات كان تقريبًا من جيل الشباب، علمًا بأن هذه التسمية، تبقى مجحفةً ومستفزةً، فكأنَما كتابة الشعر تتوقف عند مرحلة الشباب، وبعدها يدخل الشاعر في سباتٍ عميقٍ.  

فهم جديد
من منظورٍ آخر، يذهبُ الشاعر الناقد عبداللطيف وراري إلى وَسْمِهَا بـ«التجربة الشعرية الجديدة»، «وذلك بسبب ما خلفته من جماليات كتابيّة مغايرة عكست فهمًا جديدًا لآليات تدبر الكيان الشعريّ. مما يمكن للمهتم أن يتتبعه ويتقرَّاه في دواوين شعرائها، التي شرعت في الظهور منذ أواخر التسعينيات، ونُشرت على نفقتهم الخاصة بسبب غياب الدعم، والعماء الذي ووجهوا به، أو إطار سلسلة (الكتاب الأول) التي أطلقتها، ابتداءً من مطلع الألفية الجديدة، وزارة الثقافة».
ويضيف الوراري «إلى ذلك، نتحفَّظُ على صيغة «أدب الشباب» التي أطلقت عليهم، مثلما تحفَّظ عليها كثيرون غيرنا، ولا نستطيع اليوم أن نفهم العلاقة بين الأدب والشباب إلا داخل ما تعنيه من قوة الجذب التي تشدُّ كليهما إلى المجهول. لكن الذي يحصل في ثقافتنا ومجالها العام بما هو مجال لصراعٍ رمزيّ ضارٍ، هو أن يُراد بمصطلح «أدب الشباب» مقابلًا لـ«أدب النخبة»، حيث الأول أقلُّ شأنًا من الثانية». فقد سقنا هذين المثالين الطويلين، للدلالة على مدى الإجحاف الذي مُورسَ على هذه الفئة من الشعراء، وكأنَّ (حرَّاس الغابة)، وقعوا في استحلاء هذه التَّسمية، بل جعلوها مطيّة للانتقاص من قدرة هؤلاء الشعراء المُجددين على الابتكار والإبداع، وكما تَحَفَّظَ عليها عدناني والوراري وآخرون، نُعلن تحفُّظَنا عليها، لأنَّها تُكرِّسُ نوعًا من (التفاوت الطبقيّ الشعريّ) إن جازت هذه الاستعارة، بل نَسِمُها بالتَّجربة الشعرية الخلاقة والجديرة بالنقد والتتبع والمقاربة.

هاجس البحث
من جهته، ربط الشاعر والناقد عبدالهادي روضي شعر «الحساسية الجديدة» بـ«قصيدة النثر». يقول في هذا الاتجاه: «والمؤكد، أن تلهف الحساسية الجديدة في شعريتنا العربية الراهنة قصيدة النثر، جَسَّدَ في العمق استمرارية حضور هاجس البحث لدى الشعراء العرب عن ماهية متجددة للشعر خارج متحقق القصيدة العربية بمختلف تجاربها النّصية، لا أقل ولا أكثر، وهو متحقق استنفد طاقاته وفتوحاته الشعرية الكونية، إن كانت له فعليًا فتوحات شعرية كونية، ما دام شعراؤه عجزوا عن مسايرة أسئلة المرحلة وتحولاتها»، ومن الواضح، أن عبدالهادي روضي، لم يُخفِ حماسته لقصيدة النثر، بل يُوجِّهُ نقدًا لاذعًا للشعرية العربية المعيارية، ويعتبرها «قد سيَّجت متخيَّل الشاعر العربي وشروط ممارسته الشعرية، وحدَّت من مسالك المعنى وفاعلية المتخيَّل، وجعلت من الذاكرة سياجًا يكبح غيمَ روحه المتدفقة انزياحًا، والتواقة للا مألوف واللا متحقق على مستويات أسس وعناصر الممارسة الشعرية»، كما أنه يرفض بشكل قاطع وصايا الخليل الإيقاعية، يقول:
(لي
اشتعال الرؤى
والخروج عن المعيار
والذي لا يشتهيه المصابون
بفقدان الإيقاع
بدفق التوحد يتلبسني المحو).
إن روضي يبني موقفه على قناعات راسخة، بقدرة هذه الحساسية الشعرية الجديدة على خوض مستحيلها في أفق تحقيق الوعد الشعري، لكن، ألا يبدو حصر هذه الحساسية في كتَّاب «قصيدة النثر» إقصاءً لحساسيات شعرية أخرى، تكتب خارج مدار قصيدة النثر؟ قد نتفهَّمُ أن قصيدة النثر أتاحت للشاعر العربي، فسحةً متراحبة للبوح الشفيف، لكن، مع ذلك، فهناك نصوص نثرية لا ترقى إلى مستوى الشعر، كما أن هناك قصائد في الشعرين: العمودي والتّفعيليّ لا ترقى أيضًا إلى مصاف النصوص العظيمة والجديرة بهذه التسميّة. ما يهمُّنا، أن روضي ينتصر كليًا لهذه التسميّة، واتِّصالها الذائب بفتوحات قصيدة النثر. إننا إزاء جملةٍ من الالتباسات على صعيد المفهوم، سواء أكانت «حساسية جديدة» أو «القصيدة الشبابية» أو «التجربة الشعرية الجديدة» أو أيَّ تسميّة أخرى.     

منافذ أخرى
من زاوية أخرى، يرى صلاح بوسريف أن الحديث عن «الشعر» و«القصيدة»، أصبح في حكم المتجاوز، ويقترح بديلاً آخر هو «الكتابة». يقول بهذا الخصوص: «أتحدث هنا عن الكتابة، عن النص الشعري الذي نزع نحو ممارسة الكتابة، مزاولتها خطيًا. أصبحت من الدوال المُبَنْيِنَة للنص. ما يعني أن شفاهية النص الشعريّ التي لازمت «الشعر الحر»، ومازالت حاضرة في كثير مما يُكتب اليوم من شعر، وهي من خواص القصيدة، كما جاءتنا من ماضي الشعر، شرعت في التَّقلص ولم تعد هي الصيغة التعبيرية المُهَيْمنَة على الكتابة»، ما يهمُّنا من هذه الاستقصاءات حول هذه التَّجربة الشعرية، وفي تسمياتها ومفاهيمها المختلفة والمتعدِّدَة، أنَّها فَتَحَتْ منافذ أخرى في «الأراضي الشعرية الجديدة»، وبدأت تخوض اختراقاتها واختلاقاتها انطلاقًا من أكوانها الدلالية كـ«مؤشرٍ دال على تحول جوهريّ في صلب الممارسة الشعرية العربية، تلك التي ما فتئت تستجيب لمطامح الشعراء المأخوذين باستمرار إلى اكتشاف سراديب القصيدة اللامرئية في تفاعل ما يحدث في جغرافيات شعرية موازية في أوربا وأمريكا والغرب، وجغرافيات أخرى ليست بالضرورة عربية»، ولعلَّ هذه التَّجربة الشعرية الجديدة المُتبرعمة من شجرة الشعر المغربي، لا تسيء إلى الشعر بتاتًا كما يتم الترويج لذلك على نطاقٍ واسعٍ، وإنَّما، تذهب به نحو عوالم الدهشة والمتخيَّل، فهي تجربة مُطَوَّبَة بالإبداع والاختلاف والمغايرة، رغم ما طالها من التباسٍ واستشكال في «التسميّة» وسوءٍ في التَّقدير وحُجُبِ النقد ووصايا (حرَّاس الغابة).
وخلاصة القول، أن «المشهد الشعري المغربي المعاصر يطرح أسئلة جديدة تمسُّ إشكالات الكتابة ومستويات الإبداع والتجريب في مجموعة من المجاميع الشعرية على مستوى البناء اللغوي والإيقاعي والدلالي»، فما يَهمُّنا من الشعر، على اختلاف مرجعيات خطابه وقوالب بِنائه، هو ما يقوم به من اختراقات وإبداع ومغايرةٍ وتجريبٍ، لأن الحديث عن التَّسميّة (تجربة، حساسية، حركة، كتابة، شباب...). والانشغال بها، يَحْجبُ رؤانا وأبصارنا عن فهم حقيقة ما يجري في نهر الشعر، فهو مسكون بهاجس الديمومة والامتداد، ومنتسب وناطق بهويّة الثقافة العربية، ومن ثم، لا ينبغي أن نقف في الشعر عند المفاهيم والأهواء، بل يجب النظر إليه كـ«أحد الأشكال التعبيرية التي أمكنها، بصور متفاوتة، أن تختزل الذات والعالم في كلمات، تستعيد الماضي وتلامس اليومي وتشارف الآتي والمستقبل. 
وبقدر ما يمنحه الشعر من أفق للتفكير والتعبير بقدر ما يحرص هذا الشاعر أو ذاك على نقل لحظات مكابداته ومعاناته من جهة، ورسم أشكال تفاعلاته وانفعالاته بالذات والآخر، من جهة ثانية، وما الشعر سوى معبر لهذا الطموح الفني والإنساني»، ولا شك أن في هذه التجربة الكثير من الدفق الشعري، وهو ما يقتضي مجابهتها بالسؤال والاستقصاء والمقاربة، بعيدًا عن (مفهوم الجيل الشعريّ)، لأنه يبقى قاصرًا عن فهم وتأويل إشكالاتها وتحققاتها الجمالية الممكنة والمتاحة، فالمهم أن هذه التَّجربة، رغم ما نُسِجَ حولها وما قِيلَ فيها، فإنها تظل «محكومة بقلق البحث عن لغة تتجاوز سقف الجيل السابق، ومحاولة بذلك أن تكسر الطوق وتخرج إلى رحاب أوسع» كما أكد على ذلك الناقد محمد لطفي اليوسفي، فالكتابة الشعرية لا بد أن تظلَّ خارج هذه الالتباسات المفهومية، ووحده الوعد الشعريّ كفيلٌ بأن يرسم معالم هذه التَّجربة، ويُقرِّبَها من اهتمامات القرَّاء وانشغالاتهم، إضافةً إلى حاجتها الملحة إلى قراءات استغوارية قادرة على استكناه جمالياتها ومغامراتها ■