السينما والفرح المأساوي

السينما والفرح المأساوي

السينما ليست سوى فرح ممتزج بالحزن، هناك حب وانتقام، دموع ودم، كراهية وصداقة، حياة وموت، جمال وبشاعة، لأن السينما هي عالم من التناقض، لا تصوّر الأشياء، ولكن تبني ذاتها من خلال الأشياء، ثم توجهها نحو الأفول في العدمية، هكذا يبدأ الانحلال لأي أفق مشترك من التأويل الفيلمي للفيلم، فمَن الذي يقوم بالتأويل الناقد أم المخرج؟ وكيف يمكن للبطل التراجيدي أن يمدنا بغموض القدر الذي يهددنا؟ وما معنى أن نكون مأخوذين بطبيعتنا في محاولة تفسير معنى هذا الغموض الذي نعيش فيه؟

 

«تشيّد عالم من الحياة اليومية على نحو منعزل مشرق هادئ لا يمكن وصفه، لكن يكون مصحوبًا بشعور غامض من الغربة»
(غادامير) 
يحق لنا وصف اللغة السينمائية بأنها أسطورية: «بمعنى أنها لا تتطلب أي إثبات من أي شيء آخر وراء ذاتها». ولذلك أن غموض الفيلم يوافق غموض الحياة الإنسانية في مجملها، وهاهنا تكمن قيمتها العظيمة، بمعنى أنه يوجهنا صوب التأمل الجمالي، باعتباره مدخلًا إلى مملكة الحقيقة، وكلما كان يتجه بعيدًا عن ذاته، كلما يتيح لنا أن نشاهد ماهية الفن الحقيقي، وما الغموض إلا صراعًا بين الحقيقة واللاحقيقة.
كم كان الشاعر هوزيود رائعًا في تضرعه الشهير لربات الفنون والتي أجابته قائلة: «إننا نعرف كيف نقول أشياء كاذبة وتبدو كما لو كانت صادقة، ولكننا نعرف أيضًا أن نكشف الحقيقة». الكذب والحقيقة معًا، وكثيرًا ما يكذب الشعراء، وبما أن السينمائيين أحفاد الشعراء يكذبون أيضًا، ويسعون إلى الحقيقة، فرحلتهم تكون من الحقيقة إلى اللاحقيقة، ونظرًا لتأثرهم بهوزيود الذي كان مفضلًا عند ربات الفنون، فإنهم يقتسمون معه هذه النعمة: «نحن نريد لك خيرًا، فلن ننبئك كذبًا - مثلما فعلنا مع هومير - رغم استطاعتنا فعل ذلك، وإنما سننبئك بالحقيقة»، فهل كان هوزيود محظوظًا؟ أم أنه نقد موجه إلى هوميروس؟
 بما أن السينما هي تراجيديًا قديمة تحكى بلغة تقنية حديثة، فإنها تجد نفسها غارقة في هذا التلاحم بين الأسطورة وربات الفنون، وليس عيبًا أن يظل هذا التلاحم قويًا إلى يومنا هذا كما أن الفلسفة ظلت مخلصة للفلسفة الإغريقية، تتزود ثمارها الناضجة من إمبراطورية سقراط، إنه إمبراطور الفلسفة حاضر بقوة في كل الأسئلة، وإلا سنكون علامة بلا تفسير، فالفن والفلسفة لا يلبيان مطالب اللحظة الراهنة فحسب، ولكن ينقلان الأثر القديم.
فما البهاء الأبوللوني للفن اليوناني كما اكتشفه «جوته»، و«نيتشه» و«هولدرين»، لأن مهمة الدراما هي ربط الحياة اللاواعية للوجود الإنساني بتحولات العالم، فأغنية الأبطال العائدين من الحرب توحي بامتزاج المهمة بالدراما، ولذلك فإن أسطورة الفن الدرامي والفن الملحمي مهما يبدوان بعيدين، فإنهما يقدمان الأساس للسينما الحديثة، التي أصبحت من أثينا، إلهة الحكمة، فإما أن يتخذ البطل القرار أو يكون القرار ملهمًا بواسطة أثينا - السينما - ولعل هوميروس يصوّر الآلهة التي تلهم بنفسها قرارات الناس.
 ربما تكون أزمة الوجود الإنساني كما نشاهدها في السينما هي ذاتها التي صورها «هوميروس» على امتداد صفحات عديدة من الأوديسية حيث تناول الصراع بين الآلهة والإنسان أو بين الآلهة أنفسهم، تحدث بلغة القدر الذي يصيب البشرية، لأنه هو الجوهر الذي يوحد الإنسانية، لأن الجوهر عند «هيجل» هو الروح التي تكون قادرة على أن توحدنا: تلك الحقيقة المنتشرة في كل إنسان بما هو إنسان، ولذلك فإن السينما كفن موجه للإنسان: «فروحها ما زالت تبحث عن أرض اليونان».
 لعل هذا الوميض من المعنى سريع الزوال، فوجود المعنى في السينما ليس هو معرفة المعنى، إنها تظل ذاهلة بين المرئي واللامرئي، بين الأسطورة والواقع، ولذلك تريد أن تقدم إلينا معنى يتحدث بطريقة مباشرة، عن إنسانيتنا وعلاقتها بالفن، ولا نستطيع أن نتعرف على أنفسنا إلا حين نكون فيها.
إذا كانت مهمة الفلسفة هي استخراج ماهية العقل من مظاهر الأشياء من خلال الواحد، فإن السينما تعتمد على اللغة الصامتة للصورة لتمزق القناع على وجه الحقيقة، ولذلك لا نستطيع أن نتساءل عن الاختلاف بين الصورة السينمائية واللوحة التشكيلية، لأن العلاقة بينهما أصبحت إشكالية، لا يمكن أن تحيا إلا في الضوء المنعكس مثل لغة «هوميروس» والشعراء التراجيديين، مادام أنها تبادرت للمحاكاة إلى ما بعد المحاكاة، إنها تجلي الجميل في صورة الغامض، ولعلها تسعى أن تقدم معنى الفن الذي يفضح مفهوم المحاكاة كما هي الحال مع الموسيقى لأنها الفن الذي يكشف فيه مفهوم المحاكاة عن أدنى درجات تألقه.
والحال أن إظهار حقيقة الفن تنطلق مما هو مضاد للفن، أي الفن التافه، الذي يسود في تلك الأعمال التجارية والتي لا يهمها سوى الربح المادي وإفساد الذوق العام، ولذلك يمكن تسميته بـ«إنجيل الفقراء» الذين يعيشون الاغتراب، أي اغتراب الوعي عن ذاته.

شعبية كبيرة
وبما أن شعبية السينما قد منحت للفن شعبية كبيرة لم تكن متوقعة، فإنها لا تقرأ، بل تعاش كوجود يستمتع به الناس، إنها مثل ذلك المعلم الذي يعلم الحب والحياة والموت، وبعبارة أخرى إنه يعلم الناس كيف يعيشون من خلال الفن، ولذلك لا ينبغي للسينمائي أن يبتعد عن هموم عصره والالتزام بالقضايا الكبرى للشعب، والدفاع عن حريته وكرامته، ولذلك يوجه أعماله نحو نقد الهيمنة والقمع، فالنضال بالفن أسمى من الاتجار به، السينمائي المثقف، والناقد المثقف إنهما نفس الشيء وجهان للفن الراقي الناطق استيطيقيا بمعاناة الشعب وطموحه نحو الديمقراطية، لأن هو من يقاوم الاستبداد، وليس مَن يروّج له، مقابل الدعم المالي، فحراسة الاستبداد أصبحت هي المهمة لبعض السينمائيين الخائفين الذين ينتجون الفن المزيف، وبمعنى أعمق التاريخ المزيف.
نحن مكبلون بالأصفاد، محطمون، خائفون مسلسلون إلى الأبد بصخرة الوجود، فماذا ننتظر؟ لم يعد الفن هو الفن، ولا الفلسفة هي الفلسفة، لقد كانت نظرية البروليتاريا ضد الرأسمالية، وكانت السينما فن تحرري يقف بجانب الشعب. والآن أضحت مجرد صناعة بلا قضية ولا تاريخ. والفلسفة تمنح الناس الكرامة عندما ينتمون إلى مجال الدياليكتيك.
فلم يكن لدى الناس ما يخسرونه سوى قيودهم، ولكن سيربحون الحرية والحياة الكريمة، شريطة أن يحققوا وعيهم الذاتي بمجرد ما يكتشفون التناقضات الكامنة في المجتمع الرأسمالي بواسطة الدياليكتيك، ولعل هذه هي رسالة الفلسفة، وهي ذاتها رسالة الفن، ولذلك نجد سارتر - مثلًا - يكتب الفلسفة من أجل التحريض على النضال، والسينما من أجل الحصول على المال، ويبشر بالحرية في ومن لا يوجد فيه الأمل.
بالنسبة لسارتر فإن المثقف لا ينبغي أن ييأس، لأنه محكوم عليه بالحرية، يمارس النقد كسؤال فلسفي وفني، من أجل الوصول إليها، والتمتع بألوانها، بيد أن المثقف المزيف الذي يصنعه الإعلام الرسمي، ليس سوى خبير في الكذب، عديم الضمير يسعى إلى توجيه الرأي العام نحو قناعات أيديولوجية تحبب الشعب بالسلطة القمعية، ولذلك يتقاضون أجورا عالية، فهؤلاء الأشخاص مشار إليهم بالجوهر.
هؤلاء ينتجون سينما الأسطورة الصامتة، والتي يهجرها الفن ويحتفل فيها العدم، ولذلك فإنها سينما العدمية بامتياز تكرر نفس المواضيع التافهة. 

عالم للسينما
وربما يكون هذا هو ما يثير الغثيان قبل السؤال التالي، فهل السينمائي بالاسم يمارس عمله بهدف إنتاج فن موضوعي استيطيقي، أو لا موضوعي ولا استيطيقي؟ وهل هناك إبداع سينمائي في الفيلم أم مجرد مشاهد مقرفة؟ وهل المحاكاة في الفيلم عبارة عن تقليد لما هو مألوف؟ وأين تبدو الحقيقة في الفيلم؟ وما الذي يحدث للسينما عندما تصبح تافهة؟ هل تصبح بعيدة عن القرابة بين الرؤية الفنية والإدراك الجمالي للسينما؟
ليس هناك عالم للسينما إلا من داخل السينما نفسها. ولعل الفيلم المصنوع بشكل فني جيد، هو نفسه الفيلم السينمائي وباعتباره جميلاً، فإنه يشير إلى السينما. ولقد تمثل هذا في تلك الأفلام العظيمة ■