وزير الثقافة المصري الأسبق فاروق حسني: نعيش فترة «تحاريق ثقافية» والإبداع لا حدود له

وزير الثقافة المصري الأسبق فاروق حسني: نعيش فترة «تحاريق ثقافية» والإبداع لا حدود له

الفنان فاروق حسني وزير الثقافة المصري الأسبق له تاريخ حافل بالإنجازات، وهو من مواليد مدينة الإسكندرية، تلك المدينة التي تعد من أهم المدن الساحرة على مستوى العالم، لتعدد ثقافاتها وأجناسها على نحو جعل من المدينة نموذجًا لحوار الثقافات والحضارات التي تجمع ما بين قيم الغرب والشرق في امتزاج ظل له تأثيره الملازم لمسيرة فاروق حسني الفنية والإبداعية والوظيفية.

 

درس في جامعة الإسكندرية بعد أن انجذب إلى الفن منذ بواكير صباه، وتخرج بقسم الديكور بكلية الفنون الجميلة في الجامعة نفسها عام 1964 بعد أن تأثر بكتابات طه حسين الذي كان أول رئيس لجامعة الإسكندرية، وآمن بالتنوع الثقافي الخلاق، ودعا إلى حوار الحضارات لعمق إيمانه بأن ثقافة مصر هي جزء من ثقافة البحر المتوسط. بدأ مسيرته مديرًا لقصر ثقافة الأنفوشي حتى سطع نجمه ليصبح مديرًا للمركز الثقافي المصري بباريس وانتقاله مديرًا للأكاديمية المصرية للفنون بروما، حتى تولى وزارة الثقافة عام 1986، وحين عين وزيرًا للثقافة خلفًا للدكتور أحمد هيكل كانت النقلة كبيرة ما بين الوزير الدرعمي القديم والفنان التجريدي الجديد، وكان رد الفعل الأول للمثقفين خاصة من يرون أنفسهم - خطأ أو صوابًا - أحق بالمنصب، هو الرفض الكامل لهذا الاختيار، وشنَّ بعض ممن صاروا بعد ذلك من المقربين للوزير حملة ضارية ضد الفنان الشاب، وقد قاد الحملة كل من الشاعر عبدالرحمن الشرقاوى والروائي ثروت أباظة رئيس اتحاد الكتاب وقتها. ومن ناحية أخرى اتجه عدد من المثقفين إلى تأييد الوزير الجديد، وهكذا انقسمت الجماعة الثقافية على نفسها كما لم يحدث من قبل، ليس على قضية قومية أو مصيرية وإنما على شخص وزير الثقافة.
وقد شهدت مصر منذ توليه وزارة الثقافة عام 1987 حيوية كبيرة في الحياة الثقافية والبنية الأساسية لمؤسسات الوزارة مع التوسع في مجالات ممارسة الفاعلية الإنتاجية، وإعادة تنظيم هياكل الوزارة وإعداد كوادرها، مما أثرى العمل الثقافي، وترك له حرية التفاعل في ظل سلطات وصلاحيات كاملة منحها الوزير لقيادات الوزارة وأجهزتها إلى جانب ما شهدته مصر من معارض فنية ومهرجانات دولية وخطط لترميم الآثار الفرعونية والإسلامية، وخطط أخرى لتشييد وإنشاء العديد من المتاحف الأثرية، ومن أهمها خطة تطوير مدينة الأقصر، ومتحف إخناتون في قنا ومتحف الحضارات بالقرب من الفسطاط في القاهرة القديمة، وأخيرًا المتحف المصري الجديد بمنطقة الأهرام، أكبر متحف في العالم، مما كان له الأثر في توجيه منظمة اليونيسكو الشكر إلى الحكومة المصرية عام 2008 لجهودها خاصة في تطوير الأقصر التي تعد واحدًا من أهم مواقع التراث العالمي.
حقًا... أقيم عدد كبير من المشروعات الثقافية في عهد فاروق حسني، كما تم البدء في عدد أكبر منها مثل تأسيس متاحف أحمد شوقي، ومحمود خليل، وطه حسن، وأم كلثوم، ومحمد عبدالوهاب، ومتحف الفن الإسلامي بعد تجديده، وجهاز التنسيق الحضاري ومشروع القاهرة الفاطمية وتطوير هضبة الهرم، وترميم معبد حتشبسوت وإقامة العديد من المتاحف، إضافة إلى إحياء العديد من المكتبات كالكتبخانة القديمة، ودار الكتب، ومكتبة مبارك ومكتبة القاهرة الكبرى.

مشروع تنويري
ولم تقتصر إنجازات الوزير الفنان على التراث والآثار والمعطيات التاريخية، بل شملت أيضًا الواقع الثقافي المصري، فكان المشروع التنويري الضخم للترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة، وفي مجال الفنون أنشأ فاروق حسني أول مهرجان مسرحي في مصر وهو مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي الذي أعاد الحياة للمسرح المصري، ودخل به عصرًا جديدًا بعد ركود الثمانينيات، كما نجحت سياساته في مجال الفنون التشكيلية في اكتشاف جيل جديد من المبدعين لفتوا أنظار العالم بعد فوز جناح مصر بجائزة الأسد الذهبي لأفضل جناح في بينالي فنيسيا الدولي لأول مرة عام 1995، لكن يظل الإنجاز الأكبر لفاروق حسني - في رأي الكثير من المفكرين - هو وقوفه في وجه دعاة الإرهاب الفكري، كما يقول الكاتب محمد سلماوي الأمين العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب الأسبق: «سيدخل فاروق حسني تاريخ الحياة الثقافية في مصر باعتباره أحد أهم وأنجح وزراء الثقافة الذين عرفتهم البلاد منذ بداية إنشاء وزارة الثقافة في أواسط القرن الماضي، لكن إنجازه الأعظم وغير المسبوق يكمن في المصالحة - التي كان فارسها - والتي حققها ما بين السلطة السياسية والمثقفين، وفي موقفه من قضية التنوير التي كان أجرأ أصواتها حتى الآن بين جموع المسؤولين الرسميين».
أما الحديث عن الفنان فاروق حسني فما هو إلا شاعر رقيق استبدل الكلمة باللون، والتفعيلة بالهارموني، والاستعارة بالتجريد، حتى قال عنه المدير الفني لدار دافنشي «بييرو ميتداريس دي كامبو»: إذا أمعنت النظر في أعمال الفنان فاروق حسني الرائعة تجد أنها تتطلب منك قدرًا كبيرًا من التجرد، ومن ثم التغلغل إلى عالمه، حيث تختبئ بين الخطوط والألوان رسالة تصل إلى آفاق تسمو فوق الجمال لتخبرنا بحكايات عن أشياء بعيدة». وعلق فيليب دي مونتييبلو مدير متحف المتروبول في نيوريوك على أسلوبه قائلاً: «إن أعماله تعكس رؤيته الدولية للتيارات الفنية الحديثة، ولكن رسومه تمتزج بعبق بلاده كما يظهر من خلال استخدامه للأضواء والألوان». 

فن بلا قيود
فاروق حسني - إذن قبل كل شيء - فنان مثقف يعرف فن عصره، وهو فطري في الوقت نفسه ويوظف هذا كأداة يحقق من خلالها خصوصية أسلوبه في التعبير الذي يشكل أداة لنشر ثقافة وطنه، وهو يفعل هذا دون أن يتبع الطريق السهل للتوصيف بل على العكس يقدم مفهومًا لفن بلا قيود، لا يتهيب الانطلاق.
عرضت أعمال فاروق حسني في أكبر المتاحف والجاليريهات العالمية داخل الولايات المتحدة الأمريكية في متاحف (المتروبوليتان) في نيويورك و«هيوستن»، ومتحف «ناشيونال جيوجرافيك» في واشنطن، وفي اللوفر بباريس والقومي في فيينا و«فيتوريانو» بإيطاليا ومتحف طوكيو باليابان، كما قدم معارض بدبي وشارك في «أرت أبوظبي» وعرضت أعماله في جدة والبحرين والكويت. 
فاروق حسني كان فنانًا في الأصل يعبر عن نفسه وفنه بالفرشاة، ولكن حين صار وزيرًا كان يدرك مسبقًا أن الرسم الذي يجيده رافد من روافد الثقافة، وأن هذا لا بد أن يكون واضحًا في عمله، وأن العمل على كل تلك الروافد معًا، وفي مسارات متوازية، هو الذي يميز وزيرًا عن آخر... ثم إنه هو الذي يبقى.
«العربي» التقت الفنان فاروق حسني وزير الثقافة المصري الأسبق، وفي ما يلي نص الحوار:
● بداية... ما العوامل التي شكلت وعيك في مجال الفن التشكيلي، وما تأثير البيئة السكندرية عليك، خاصة أنك ابن حي بحري بمنطقة الأنفوشي؟
- صورة مدينة الإسكندرية في الماضي تختلف عن صورتها في الوقت الراهن، فهي مدينة «كوزموبوليتانية» أي لها سحر ومذاق خاص، فهي ذات تاريخ كبير جدًا، وتجمع مختلف الثقافات والفنون وتتعايش معها في انسجام وتسامح، فتوجد بها بوتقة من المصريين والأجانب سواء كانوا إيطاليين أو فرنسيين أو يونانيين، فهناك كم من الحضارات تكوَّن على أرض الإسكندرية، فانطبع كل ذلك على الموسيقى والفن والفلكور الخاص بالمدينة، بالإضافة إلى روعة معالمها الأثرية خاصة قلعة قايتباي التي كنتُ أذهب وأجلس خلفها وأتأمل في البحر بصخبه وجماله، حتى تعلقتُ به ولونه ورائحته وتعامله مع طيور النورس التي تطير بشكل موسيقي كأنها سيمفونية البحر والنورس وعشقت استقلال المراكب الشراعية للاستمتاع برؤية جمال الطبيعة، وكذلك فهي مدينة ساحلية بطول البحر ولها سمات مميزة انعكست على شعبها.
 كل ذلك أثر في تكويني وأنا طفل صغير، حيث كنا نعيش في حي الأنفوشي بحري، وكان أمامنا البحر والمركب، ومن هنا عشقت المناظر الجميلة الموجودة بتلك المدينة الساحرة وتغيير المناخ فترى هناك يومًا عاصفًا جدًا وآخر مشمسًا للغاية، كذلك يظهر البعض بغضبه بشدة ومرة أخرى تراه هادئًا منبسطًا، وكل ذلك ساعد في تكوين مخزون فني أثرى حياتي الفنية فيما بعد، فقد كنت أرى في الإسكندرية ملتقى للأجناس والثقافات، ومن هذا المزيج الفريد تكونت أفكاري لأستكشف الثقافات المختلفة وتتشكل روحي من موسيقى باخ وهاندل وبرامز وأوبرا فاجنر وسيمفونيات بيتهوفن، ولأمتزج بكتابات الفلاسفة هيجل وجوتة ونيتشة.
● عشت فترة كبيرة في مدينة النور (باريس) في مرحلة الشباب كرئيس للمركز الثقافي المصري، فما تأثير الثقافة الفرنسية عليك؟
- في الحقيقة تعلمت الفرنسية منذ كنت طفلًا، فاطلعت على التاريخ والأدب الفرنسي منذ صغري، فقد كنت أتعلم بالفرنسية، ولذا كان سهلًا أن أتناول كل هذا، ثم تعرفت على شخصيات فرنسية عديدة في شبابي، وعندما سافرت إلى فرنسا كنتُ مؤهلاً لاستقبال الحضارة الفرنسية والتي أحببت كل شيء فيها، مثل القيم الجمالية والفنية والأدبية والفكرية، لأن فرنسا بها كبار الفلاسفة والأدباء والكتاب والشعراء والمفكرين، إضافة إلى أنها تضم العديد من المتاحف الكبرى الرائعة، مثل متحف اللوفر، ومتحف الأورانجيري، ومتحف الفن الحديث، ولديها الأوبرا، ولذلك كانت فرنسا بالنسبة لي مدخلًا للحياة بثقافتها وفلسفتها وإبداعاتها وكيانها الموحي، ونحن نعرف أن باريس عاصمة الثقافة والفنون، وإلى جانب ذلك هي أيضًا مدينة «الصعلكة»، وكل ذلك أثَّر كثيرًا في نفسي، فقد عشتُ فيها حياة الشباب وعيشة «الصعلكة» وعيشة الرفاهية في الوقت نفسه.
● أطلق عليك في روما «فاروق حسني... كنز الأفكار» خلال رئاستك للأكاديمية المصرية للفنون، ماذا يعني لك هذا اللقب؟
- هذا اللقب وضعني أمام مرآة، فكانت أفكاري حاضري طوال الوقت، وكلها أفكار من أجل الناس والمجتمع والظروف.
● صرّحت من قبل بأنك وصلت لمنصب وزير الثقافة بالمصادفة، فما قصة ذلك؟ 
- جمعتني صداقة كبيرة بالدكتور عاطف صدقي رئيس وزراء مصر - رحمه الله - حيث التقيته لأول مرة في باريس بعدما تم تعيينه مستشارًا ثقافيًا لمصر بفرنسا، وكنتُ قد سبقته إليها مديرًا للمركز الثقافي المصري هناك، وحدث تعاون كبير بيننا ووجدت فيه مسؤولاً دؤوبًا وشريفًا، حيث أنجز لمصر الكثير، وعقب عودته لمصر وتوليه رئاسة الوزراء تباعدت اتصالاتنا حتى فوجئت بمكالمة في الأسبوع الأول من أكتوبر 1987، حيث طلب مني العودة إلى مصر في أسرع وقت، ولم يخطر ببالي أنه يرشحني وزيرًا للثقافة، لأن الوزارة لم تكن من أحلامي، وكان الأمر مفاجئًا ومزعجًا لي، بل كان صادمًا واعتذرت له إلا أنه أصرَّ، وظللنا نتجادل معًا لمدة ثلاث ساعات حتى أبديت موافقتي بعد أن قال لي إنني سأؤدي مهمة للوطن، وأحقق رؤيتي لمصر كبلد ذي ثقافة وتاريخ عريق، إلا أنني في قرارة نفسي تملكني قدر من الاكتئاب لأن قبولي الوزارة سلبني من موقع كنت أحبه وأجد نفسي فيه.
● تعرضت خلال توليك منصب وزير الثقافة إلى أزمات عدة، لكنك استطعت الخروج منها بثقة وثبات فما السر؟
- ببساطة شديدة عندما تقود عربة فأعتقد أنك معرض للمخاطر، لكن لوكانت هذه العربة تقف في مكانها فمن أين تأتي المخاطر، أي أن تكون هناك حالة من الفعل وعلينا أن نحسب كم أزمة حدثت، وهذه الأزمات ما نتائجها؟ فرغم خطورة الأزمات التي تعرضتُ لها إلا أن العواصف هدأت وظلت العربة تتحرك.

ولدت لأكون فنانًا
● أكثر ما يهدد المثقف أن يشتغل بالعمل الإداري ويترك مهمته الحقيقية في نشر الوعي الثقافي، هل ترى أن العمل الوزاري كان عائقًا لانطلاق جموح الفنان لديك؟
- إطلاقًا... فقد كنت حرًّا بشكل كبير في الأداء الفني، فلم يبعدني العمل الوزاري يومًا ما عن فني، بل كان حافزًا لي وبمنزلة تحدٍّ أمام نفسي، وكنت أخاف أن يأكل العمل الإداري إبداعي الفني مني، فكنت يقظًا دائمًا لذلك، ولا أريد أن تعلو الإدارة على الفن، وأستعمل الفن في الإدارة، ولا أستعمل الإدارة في الفن، فقد ولدت لأكون فنانًا، ولم أنقطع عن الرسم وإقامة المعارض طيلة حياتي، فكل ما حققته أثناء تولي وزارة الثقافة في أي إبداع موجود في الأدب والفن والموسيقى أو المكتبات وقصور الثقافة، وكلها معاقل ثقافية كانت إبداعات نابعة من الجانب الفني لدي وطموحاتي، فكنت أشعر بالمسؤولية الكبيرة حيال مستقبل مصر الثقافي.
● ماذا عن رؤيتك للمشهد الثقافي بشكل عام على المستوى المصري والعربي، وكيف تقرأ مستقبل الثقافة المصرية خاصة في ظل الموجة الشرسة من التمويلات الخارجية التي تحاول تحجيم دور مصر الثقافي؟
- لا يستطيع أحد تحجيم دور أي دولة، وليس مصر فقط، لكن الانحسار الإبداعي هو الذي يجعل دولاً أخرى تتجرأ على مصر، فلدينا انحسار إبداعي، ففي بداية القرن العشرين كانت هناك قممٌ كبرى في الأدب والفلسفة والفن وفي المجالات كافة، فكان لدينا زخم أدبي كبير، يجعل المجتمع يشعر أن هناك شيئًا بلونه ويعطي له إحساسًا كبيرًا، فقد كانت الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات والستينيات إلى السبعينيات فترات بها علامات مضيئة وأسماء لامعة لا زالت تُذكر إلى الآن، فالذي يعطي للثقافة هو الإنسان وليس الجماد، فنحن نعيش فترة «تحاريق ثقافية» خلال هذه المرحلة، وهي بمثابة جفاف النهر حتى الانحسار، فلم يعد يوجد الكاتب المرموق والشاعر والفنان الكبير، وبالتأكيد هناك عدة أسباب أنتجت هذه الحالة أبرزها مستوى جودة التعليم.
● ما تقييمك لدور قصور الثقافة الآن خاصة أن هناك من يرى أنها أصبحت مباني عتيقة بعيدًا عن التواصل مع الناس في قرى ونجوع المحافظات وكيف يمكن إعادة دورها الفاعل؟
- الإنسان وليس الحجر، ولا بد أن نعرف أن المباني الجبارة أيًّا كان حجمها يحركها الإنسان، بداخله وتفكيره، ورؤيته، فإذا كانت لا توجد أفكار ولا رؤية، فلن تكون هناك قصور ثقافة، فكما نرى أن الإنسان هو مجموعة من الخلايا فإن قصور الثقافة هي أيضًا كالخلايا التي تتكون منها منظومة الثقافة في أي دولة، وهي تدخل ضمن العمل العام الذي يعتمد على شخص واحد هو المحرك الرئيسي أو المحرك الثقافي، ولذلك أرى أن إحياء قصور الثقافة يعتمد على ما نسميه اختيار «المحرك الثقافي» وهو له سمات، فهو طوال الوقت يخترع ثقافة للناس ويشعرهم بوجودهم، لأنه يعي معنى الثقافة وإدارتها، وهو الذي من الممكن أن نطلق عليه المثقِّف (بكسر القاف)، ويستطيع اختيار ما يتم تقديمه، فلديه طاقة تحريك يحرك بها ويثقف غيره، ولديه طاقة لتحفيز العملية الثقافية، أو البرمجة للثقافة، لكن للأسف البيروقراطية في الوظائف تعوق ذلك.
● البعض يرى أنَّ جيل الستينيات آخر مَن اهتم بالهمِّ الاجتماعي والهمِّ السياسي ومصير الوطن فهل الجيل الحالي لا يهتم بذلك في رأيك؟
- كما قلت إن القيادات الثقافية هي المبدعة، وهي كبار الكتاب والفنانين والمؤثرين، ووجودهم في المجتمع يجعل هناك حالة يتعاطاها أي شخص، لأنها حالة عامة سواء في الفكر أو الفن والأدب، فقد كنا ننتظر المعارك الثقافية الكبرى على صفحات الجرائد والمجلات والتليفزيون، حتى نرى كيف تتعامل هذه «الأدمغة» مع بعضها البعض، وهذا كله يحدث نوعًا من الحراك الثقافي في المجتمع، وكانت هذه المعارك هي المحفز الأساسي للشباب، في هذا التوقيت، لكن للأسف غاب عنا كل ذلك اليوم.

العمل الثقافي مغامرة
● لك تصريح دائم بأن العمل الثقافي «مغامرة» فماذا تعني، وماذا تقصد بلفظة «الثقافة مُعدية»؟
- نعم... بالفعل العمل الثقافي مغامرة، لأن الإبداع ليس له حدود والثقافة هي مجمل الإبداعات، وبالتالي حتى تكون هناك إبداعات جديدة لا بد من المغامرة، فعندما توليتُ منصب وزير الثقافة بدأت أضع أسسًا للفكر الثقافي، وأهمها تحديث الرؤي الثقافية، فقد وجدتُ أن ثقافة الستينيات ما زالت مهيمنة على الأدب والسينما والمسرح، فبدأت أدفع بأشياء جديدة، لذلك بدأت بتقديم المسرح التجريبي، ولم يكن حال الموسيقى أفضل من المسرح، فقدمنا الرقص الحديث وأيضًا الفن التشكيلي قد تأخر جدًا فقدمنا سمبوزيوم النحت في أسوان، وكل هذه أمور لم يكن المجتمع اعتاد عليها بعد رفض، فعندما تقيم كل هذا وتقنع به المجتمع ويقبله بعد رفض فهذه مغامرة، إذن بالتالي المثقِّف (بكسر القاف) غير المثقَّف (بفتح القاف)، فالمثقِّف لا بد أن يكون لديه إمكانيات نفسية كيانية مؤئرة لتقدم هذه الإبداعات، أما لفظ الثقافة مُعدية، فليس هناك شك أن هناك إبداعًا، والإبداع مؤثِّر رضينا أم لم نرض، وهو ما أحدث حالة من الزخم الثقافي، وكل هذا سهل الانتشار والانتقال، فالثقافة لم تعد مقصورة على الكتاب، لكنها أصبحت بمنزلة الفعل الثقافي القوي المؤثر، وهناك دول في المنطقة العربية تعمل بشكل كبير فى هذا الإطار مثل الكويت والسعودية والبحرين والإمارات وسورية ولبنان، وأصبحت هناك أوبرا ومتاحف عديدة وقاعات للفن التشكيلي والعديد من الفعاليات الثقافية التي تنتقل من دولة إلى أخرى، ولذلك عندما يكون هناك إبداع مثقف ومدرك، فلا بد أن يكون لدينا أساس العدوى، وهم المثقفون حتى يؤثروا في المجتمع.
● من المعلوم أن التاريخ والآثار هما عشق الفنان فاروق حسني الأول... فما السر وراء ذلك؟
- أنا مولع بتاريخ الفراعنة، بالذات منذ صغري، وعندما سافرت إلى فرنسا كنت أزور المتاحف هناك والمسارح، وأكرر زيارتي لها، فقد زرتُ متحف اللوفر أكثر من 105 مرات، وقد وجدت كمًا كبيرًا جدًا من المصريات، وعندما دخلت اللوفر كان به مدرسة لتعليم المصريات، فكانت لدي أفكار كثيرة كنتُ أريد تثبيتها في ذهني، فالتحقت بهذه المدرسة لمدة 3 سنوات، جودت خلالها أشياء، وقبل أن أذهب إلى فرنسا كنت أثناء دراستي في الكلية أذهب في رحلات إلى الأقصر وأسوان، وكنت مبهورًا بهذه الآثار العظيمة والجداريات الرائعة التي تشعرك بأنك (قزم) أمام العملاق الذي صنع هذه الفنون، فكنت مبهورًا بهذه الحضارة وكنتُ أبحث عنها وأرى الأدب القديم وتاريخ الحياة اليومية وحياة الملوك والبسطاء من الناس الشعبية، وكل ذلك أثَّر فيَّ كثيرًا، ولذلك عندما توليتُ ملف وزارة الثقافة كان معها الآثار، فكنتُ أدير الأمور بشكل يسير جدًا، لأنني كنت أعلم الكثير عنها، وأتعامل معها عن علم وقوة وإدراك وتصميم، وابتدأتُ في الآثار الفرعونية والقبطية والإسلامية على أساس أن هذا كله تاريخ مادي للدولة المصرية لا بد من الحفاظ عليه، ولذلك أرفض بشدة فصل الآثار عن الثقافة، فمن يرى ذلك يجهل قيمة الآثار، فهي جزء من الثقافة، فقد كنتُ أهتم بإقامة المتاحف وقمنا بترميم الكثير من المواقع الأثرية، وكنا نأخذ نسبة 20 في المئة من دخل الوزارة لصندوق التنمية الثقافية، وكان أكبر دخل للوزارة من الآثار.
● المتحف الكبير، ومتحف الحضارة، والقاهرة التاريخية ثلاثة مشروعات تشكِّل كيان مصر الأساسي أمام العالم كله ثقافيًا وفنيًا وتاريخًيا، فماذا تمثل هذه المشروعات فى رأيك؟
- بالنسبة للمتحف الكبير، فقد كان أحد أحلامي التي ظلت تؤرقني لفترة طويلة، وأعتبره أحد الرهانات الثقافية العالمية، وكذلك يجب أن يكون رهان مصر الاقتصادي، لأنه سوف يحقق عائدات مادية وثقافية مهمة، وقد واتتني الفكرة في لقاء مع مدير معهد العالم العربي خلال زيارتي لباريس، وقد كان معنا صديق ثالث معماري كبير، ووقتها سألني عن مصير الآثار المخزَّنة في متحف التحرير، وكرد فعل عن سؤاله أجبتُ بشكل تلقائي أننا نخطط إلى إنشاء أكبر متحف في العالم، ولم تكن الفكرة قد اختمرت في رأسي، حتى أنني لم أكن اخترت المكان، ووجدت هذا الرجل يتحمس بشكل كبير، وأخبرني أنه على استعداد لأن يخبر رئيس الوزراء الإيطالي وقتها لأحصل منه على تمويل للمشروع، وأخبرتُ صديقي بأنه سيكون بالقرب من الأهرامات، وعندما زارني بالقاهرة ذهبنا وقمنا باختيار قطعة الأرض القريبة من الأهرامات دون أية تفاصيل، وقد قام هو برفع المقاسات وعاد لي بعد عشرة أيام بالتخطيط الكروكي للأرض، وكان قد تحدث بالفعل إلى رئيس الوزراء الإيطالي بخصوص المشروع، والمتحف الكبير كانت له متطلبات ضخمة تمت على مرحلتين، بدأناهما من الصفر، فأنهينا مركز الترميم والمخازن والممر الواصل بين المرحلتين واستغرق من الوقت 8 سنوات، وقبلها استغرقت دراسة الجدوى المتحفية في إيطاليا 4 سنوات وتكلفت مبالغ ضخمة جدًا، وشكلت لجنة محايدة من الجمعية المعمارية الدولية وأثريين من عندنا ومتاحف اللوفر وتورينو حتى تم الاختيار ثم مرحلة التصميم، وهنا طرحنا المناقصة على الإنترنت، وكتبت إن أعظم مكان في العالم يحتاج إلى أعظم معماري في العالم، وتقدم لنا 1557 مكتبًا استشاريًا واستغرقت ما يقرب من عام.
أما متحف الحضارة فهو متحف تربوي وفني وتعليمي، وكان من المقرر إقامته في أرض الجزيرة بعد أن تم تخصيص الأرض لبناء الأوبرا تقرر إقامته في موقع خلف الأوبرا لكنني اعترضتُ بشدة، لأن هذا المكان لم يكن مناسبًا له، ولم يكن المكان في ذهني حتى دعاني وزير الداخلية وقتها على إفطار في منطقة عين الصيرة، وهناك رأيت بانوراما في قلب القاهرة القديمة وبحيرة كبيرة وأن هذه البحيرة للاستشفاء، ورأيت أن هذا المكان هو أفضل موقع لمتحف الحضارة وخاطبت المحافظ وقتها ورحَّب بالفكرة، وتم تخصيص 25 فدانًا كبداية وبدأنا تشييد مبنى المتحف حتى تركت عملي بالوزارة، ومتحف الحضارة يجمع آثار الحضارة الإنسانية كلها منذ ترك الإنسان آثاره على الأرض. 
أما بالنسبة لمشروع القاهرة التاريخية، فقد عرفت القاهرة الإسلامية من «باب العزب» وهو حي كبير من القاهرة الفاطمية بجوار قلعة الجبل (قلعة صلاح الدين) عرفته بالصدفة، ورأيت مكانًا أثريًّا مهجورًا وحالته يرثى لها، فقمت بعمل اللازم لرفع المساحة هندسيًا ثم وضع تصور للفعل الثقافي والفني، ودراسة جدوى، وللأسف لم يهتم به إلى الآن، لكن كان هذا مدخلي للحضارة الإسلامية، فمشروع القاهرة الإسلامية كان به عمل عملي، وهذا في حد ذاته شيء عظيم وجميل.

ارتباط ثقافي وثيق
● كيف ترى الارتباط الثقافي بين مصر ودولة الكويت، وما تقييمك لمجلة العربي كمجلة ثقافية عربية؟
- هناك ارتباط ثقافي وثيق بين الكويت ومصر، فدولة الكويت من الدول الرائدة في الثقافة بالمنطقة العربية كاملة، فلديها نشاط ثقافي ضخم نشعر به جميعًا كمثقفين وفنانين عرب، ولديها أوبرا فخمة، كما أنها توسعتْ في إقامة العديد من قاعات الفن التشكيلي المبهرة، حتى أنني شاركت مؤخرًا بأحد معارضي هناك ولاقى قبولاً كبيرًا. 
أما مجلة العربي فهي مدرسة قيمة كلنا نشأنا عليها، وكنا نرى موضوعاتها القيمة جدًا، والتي تشعرك أنك أمام عالم أو مجتمع يدرك معنى الثقافة وهويتها، وبها من الموضوعات والآراء والمقالات والكتاب، ومن العقول التي تعرض أفكارها بها، فهي من المجلات النادرة القيمة جدًا والتي أرجو لها الاستمرار بالشكل الذي يليق بها.

معركة دولية
● خضت معركة شهيرة للترشح لمنصب الأمين العام لمنظمة «اليونيسكو»... ماذا عن قصتها؟
- كانت معركة دولية سياسية بامتياز عام 2007، فقد اكتشفت أن ثورات «الربيع» التي كان مُخططًا لها هي السبب في تغيير موقف بعض الدول ووقوفها ضدي حتى لا أفوز بالمنصب، فكيف سيتولى المنصب عربي مصري، وهم يريدون تقسيم الوطن العربي، ولذلك عمل اللوبي الصهيوني بأقصى جهد، ولكن كان يدعمني بشدة الرئيس الفرنسي وقتها نيكولا ساركوزي الذي قال حرفيًا: «أنا أدعمك... فرنسا كلها وراك»، لكن كان اليهود والصهيونية العالمية ضدي تمامًا، فمنذ أن قال (فيديريكو ماريو) الأمين العام السابق لمنظمة اليونيسكو إن مصر لابد أن تقوم بترشيحي للمنصب الدولي والذي نافستني فيه النمساوية بينيتيا فيريرو، والبلغارية إيرينا بوكوفا، إلا والآلة الصهيونية بدأت العمل ضدي والهجوم، حتى تم الحشد ضدي، وتم سحب بعض الأصوات لصالح المرشحة البلغارية، وأدركت أن هناك مؤامرة كبيرة لإسقاطي وعدم فوزي بالمنصب، لكنني اكتسبت خوض التجربة وكنت أدرك نهايتها وأرى نتائجها قبل الخوض فيها، وكنت ضد التطبيع وأول من أطلق لفظ «التطبيع الثقافي» وبالطبع اليهود وقفوا ضدي، ودول كبرى مثل أمريكا وألمانيا واليابان.
● شهدت الحركة الأدبية في مصر طفرة بعد تأسيس المركز القومي للترجمة إيمانًا بمد جسور التواصل مع الآخر تأسيسًا على محاولات عميد الأدب العربي د. طه حسين للنهوض بحركة الترجمة وأهميتها في الاطلاع على الثقافات الأجنبية فما الدافع لتأسيس هذا المركز؟
- في الحقيقة استفزني أن يصل الحد الأدنى للترجمة إلى 20 ألف كتاب سنويًّا في دول مثل إيطاليا وإسبانيا بل وحتى إسرائيل، بينما تكاد تندثر في مصر، وكان الهدف أن يقود المركز حركة الترجمة ويسرع من وتيرتها وينفتح بشكل أكبر على اللغات الحية، وأن يتحول في مرحلة لاحقة إلى مشروع استثماري يعتمد في تمويله على إيراداته من بيع الكتب ويطرق مجالات تجلب له دخلاً مناسبًا، مثل أداء خدمات الترجمة لجهات محلية وعالمية وعمل برامج تدريبية وورش ودورات خاصة للترجمة مقابل أجر يتيح له أداء رسالته المهمة، وخصص له خمسة ملايين جنيه، واختار له مبنى مستقلاً بدار الأوبرا، كما دعمته السيدة سوزان مبارك بمبلغ 12 مليون جنيه، وقد نجح المركز الذي تولى تأسيسه وقتها د. جابر عصفور الذي كان صاحب فكرة إنشائه نجاحًا كبيرًا وترجم وقتها نحو ستة آلاف كتاب، وهو رقم غير مسبوق، بالإضافة إلى انفتاحه بشكل كبير على أكثر من ثلاثين لغة، ونجح في إيجاد توازن بين تقديم أمهات الكتب العالمية ورموزها مثل الإلياذة لهوميروس وأعمال شكسبير ولوركا وتربانتس إلى جانب الأعمال الأدبية المعاصرة التي استضافت القاهرة بعض رموزها مثل جوست سيمايرز، جاك دريدا، وأومبرتو إكو ثم ترجمته للموسوعات والمعاجم العلمية وإصداره لترجمات نوعية تواكب الأحداث المهمة مثل العولمة وحوار الحضارات.
● بعد حادث احتراق دار الأوبرا الخديوية 1971 والذي كان بمثابة كارثة حلت بالثقافة المصرية كانت لكم بصمة قوية في إنشاء وافتتاح دار الأوبرا الجديدة فماذا عن قصة ذلك؟
- بقدر ولع المصريين بالفنون منذ قديم الأزل بقدر صدمتهم باحتراق دار الأوبرا الخديوية 1971، وكان الرئيس «السادات» في بداية عهده قد وعد بإقامة دار جديدة بنفس المكان، وأكد ذلك الكاتب محمد حسنين هيكل في كتابه «خريف الغضب» بأن السادات قد عرض عليه والأديب توفيق الحكيم ماكيت الأوبرا الجديد، ثم فوجئ الجميع بإقامة جراج متعدد الطوابق يرتفع مكانها، وبعد عام واحد من توليتي منصب وزير الثقافة كان افتتاح الأوبرا الجديدة أو المركز الثقافي القومي الذي تمت إقامته في الجزء الجنوبي من جزيرة الزمالك، واستقر العمل ثلاث سنوات، وكان قد وضع حجر الأساس في مارس 1985 قبل مجيئي إلى الوزارة، وفي مارس 1988 تسلمت الوزارة المبنى الذي تم تمويله بمنحة يابانية من هيئة التعاون اليابانية العالمية «JICA» وتكفلت بإقامته على الطراز الإسلامي، وحضر افتتاحها الرئيس مبارك والأمير توموهيتو أوف ميكاسا الشقيق الأصغر لإمبراطور اليابان، وشارك اليابانيون بعرض «الكابوكي» وهو العرض الذي أذهل المصريين، وضمت الأوبرا وقتها ثلاثة مسارح (الكبير والصغير والمكشوف) لتصبح في غضون سنوات مركز إشعاع ثقافي وفني بعد أن تمت إقامة قصر الفنون والمكتبة الموسيقية ومركز الإبداع الفني ومتحف الفن المصري الحديث والمجلس الأعلى للثقافة، ومسرح وسينما الهناجر، المركز القومي للترجمة، قطاع الإنتاج الثقافي، لتعد مفخرة لمصر والعرب، وهي تحتضن كافة ألوان الفنون والثقافة في مكان واحد.

انحياز للأجيال الشابة
● كان إطلاق بينالي الشباب 1989 وبينالي القاهرة 1996 خطوة كبيرة تؤكد انحيازك للأجيال الشابة من الفنانين لإطلاق مواهبهم واستيعاب أعمالهم الفنية فما قصة ذلك؟
- هذا حق شباب الفنانين، فصالون الشباب هو الصالون الذي احتضن شباب المبدعين ممَّن هم أقل من 35 سنة من مدن وقرى مصر كافة، وأتاح لهم الفرصة للتجريب والابتكار لإخراج طاقاتهم الإبداعية وليساهموا بشكل فعال في تطور الحركة التشكيلية، وقد استطاع صالون الشباب أن يدفع بمئات المواهب على مدى دوراته التي جعلته أحد ملامح الحركة التشكيلية في مصر، وأصبح بينالي القاهرة معبرًا عن أنواع الفن التشكيلي كافة؛ من نحت وتصوير وجرافيك وفوتوغرافيا ومجسمات وأعمال مركبة وفيديو، كما تم إطلاق ترينالي مصر الدولي في العام نفسه لفن الجرافيك لأهمية هذا الفن المعاصر. 
● قمت بتحويل متحفك الشخصي إلى مؤسسة ثقافية، متى بدأت الفكرة الأولى لانطلاق هذه المؤسسة، وما أهم أهدافها وما آليات العمل الثقافي بها؟
- بدأت فكرة المؤسسة منذ سنوات وكنتُ في الوزارة وقتها، فقد قمت ببناء منزل على النيل وكان محببًا جدًا لكل من يزوره، فقلت في نفسي لا بد أن يصبح للشعب، خاصة بعد وفاتي، مؤسسة للثقافة والعلوم، وبعد قيام الثورة (25 يناير) وحدوث فوضى في مصر عقب أحداث يناير قمت ببيع هذا البيت وتحويل الاستديو الخاص بي إلى متحف لأستكمل فلسفتي ونفس الإيقاع كمؤسسة ثقافية، وكان في ذهني أن أقدم كل ما لدي من لوحات ومقتنيات وكتب للدولة حتى تبلورت الفكرة في المؤسسة، وعمرها الآن 5 سنوات وهي مدة كفيلة لإظهار النجاح من الفشل، وكان هدفي منها هو تقديم مزيد من الزخم الثقافي والفكري والفني ومساعدة الشباب على الإبداع والتبادل المعرفي والفكري، أما المتحف فهو يؤرخ لحركة الفن التشكيلي المصري والعربي ويجسد لمحة عن مدارس الفن التشكيلي وملحق به حديقة متحفية، لتكون نواة لمعارض فنية طوال العام.
● تصاعدت تيارات الراديكالية والإسلاموفوبيا والشعبوية والنخبوية... من وجهة نظرك ما الذي يحتاجه العمل الثقافي في العالم العربي لمواجهة هذه التيارات؟
- العمل الثقافي يحتاج أولًا إلى أعمال صادقة وقوية، فالصدق يصل إلى أي فرد، فكل عمل صادق وقوي تستقبله كل العقول صغيرة أو كبيرة، لكن لن نستطيع منع هذه التيارات لأننا ليس لدينا المثقفون الكبار الذين كانوا يتصدون لمثل هذه التيارات ويواجهونها. 
● التشاؤل... ربما سيطر على العقلية العربية في الآونة الأخيرة عقب انتشار الحروب والثورات والنزاعات التي تقودها جماعات وتنظيمات تكفيرية... كيف ترى ذلك؟
- طوال عمري وأنا متفائل، لكن هناك أوقاتًا تجعل الإنسان متشائمًا، فالتشاؤم عكس التفاؤل، لكن الاثنين لا بد أن يتواجدا معًا حتى تكون هناك حركة وإيقاع في الحياة، لكن التشاؤل تعني أن الصفتين متواجدتان بتواؤم على قدم المساواة، فلم تكن هناك حركة أو تقدم، لذا أرى أن الإحساس بالتفاؤل يعطي أفكارًا براقة، أما التشاؤم فهو يقتل أي فكرة، أما بالنسبة للعالم العربي، فأرى أن هناك حالة ثبات، هناك دول تحاول أن تصنع شيئًا، فأنا أرى أن الكويت من أولى الدول العربية اهتمامًا بالثقافة، وقدمت المسرح وتركت إرثًا عظيمًا، ولذلك أعتبرها المحطة الثانية بالنسبة لمصر، أما بقية العالم العربي الآن فهو يحاول أن يصنع شيئًا مثل الإمارات والسعودية، فهناك ملامح للدولة لا تتأتى إلا بالثقافة والفنون، العمارة والمسرح والأدب، ولذلك أرى أن هناك دولاً عربية كبيرة تحاول أن تتقدم الصفوف.

الثقافة «بعافية»
● ما تقييمك للاستثمار في الثقافة والفنون في ظل تراجع صناعة الثقافة في البلدان العربية وخفض الدعم المقدم لها؟
- هناك دول كثيرة لديها زخم مادي كبير جدًا، وبالتالي تغدق أموالاً كثيرة على الثقافة، فهناك ثقافة يومية لا تبقى، وهناك ثقافة عميقة تستمر وقتًا طويلاً، إلا أنه الآن أصبح في مصر والعالم العربي هناك ثقافة استهلاكية وليست عميقة فالمفترض أن تهتم الدولة جدًا بالثقافة ورافدها، ولذلك أرى أن الثقافة في العالم العربي بعافية.
● القبح ضد الجمال... ترى ما أسباب القبح في الوقت الراهن وما تقييمك لانتشار ظاهرة أغاني المهرجانات والكتب الهابطة في معارض الكتاب؟
- الجهل... هو أساس القبح، فالمعرفة تختلف عن التعليم، فنحن تنقصنا المعرفة إلى جانب التعليم، فهي تتخطى التعليم، لأنها تصنع اختيارات الشخص، فقد كانت مهمة وزارة الثقافة أن توجه الأطفال والشباب، وهذا ليس موجودًا الآن.
● سافرت إلى العديد من الدول الأوربية والغربية... في نظرك ما مدى حضور المرأة في المشهد الثقافي والإنتاج الفكري من وجهة نظرك؟
- هناك فارق كبير بالطبع، لكن هناك كاتبات وشاعرات في العالم العربي مبهرات ومستواهن أصبح دوليًا وليس محليًا، فالنساء اليوم اختلفن عن الماضي، وأصبح لهن وجود بأعمالهن.
● بين الحين والآخر نسمع عن الدعوات إلى تجديد الثقافة العربية... فما رأيك؟
- كلمة تجديد الثقافة كلمة خاطئة، لأن الثقافة كلمة لا تحتاج إلى تجديد، فهي حالة إبداع، والإبداع لابد من قوة دفع له.
● ارتبطت بعلمين من أعلام الفن والتلاوة؛ الموسيقار محمدعبدالوهاب، والشيخ محمد رفعت فما سر ارتباطك بهما وماذا عن تصريحك بأنه علمك فن الإبانة؟
- الموسيقار محمد عبدالوهاب كان شخصية متفردة يجسد حالة متكاملة من الإبداع ليس في موهبته الموسيقية فقط، بل في ذكائه أيضًا، سمعته أول مرة وأنا طفل وهو يغني «الليل لما خلى»، ووجدتني أرددها دون فهم معناها، كانت موسيقاه جريئة وجديدة ومتطورة، وحفظت فيما بعد كل أغنياته: الجندول، كليوباترا، همسة حائرة، الحبيب المجهول، وغيرها، وكان عبدالوهاب مطلعًا على الموسيقي الغربية وتأثر بها بلا شك، فعبدالوهاب قاد التطوير الثاني في موسيقانا الشرقية بعد سيد درويش، وبعدما توليت الوزارة جمعتني بعبدالوهاب صداقة وحدث بيننا نوع من تلاقي الأفكار، وكثيرًا ما كانت تجمعنا أحاديث تليفونية بعد منتصف الليل، وحين عرضت أرملته السيدة نهلة القدسي التبرع بمقتنياته لإقامة متحف له تحمست بشدة واخترت مكان المتحف بمعهد الموسيقى العربية، وأمدتنا بكل تسجيلاته ومقتنياته. أما الشيخ محمد رفعت فأحب صوته جدًا، فهو خاص ومتفرد جدًا وتعلمت على صوته فن الإبانة في اللفظ القرآني ودقة وحلاوة التلاوة.
● أخيرًا... ما الرسائل التي يوجهها الفنان فاروق حسني لجموع المثقفين في مصر والبلدان العربية بشكل عام؟
- أنتم جيوش التنوير، أرجو أن تكونوا مستعدين لأن الحروب القادمة كلها حروب ثقافية وحروب الوعي، ففي رأيي أن التلاحم بين بعضهم البعض ستكون له نتائج مبهرة، فأرجو أن يكون هناك تفاعل بين بعضهم البعض، فالتفاعل ينتج شيئًا عظيمًا ■