ظلُّ الذَّات في ديوان «بين الخرافة والصَّهيل»

ظلُّ الذَّات في ديوان «بين الخرافة والصَّهيل»

ينتمي ديوان «بين الخرافة والصَّهيل» إلى شعر الفصحى المعاصر، للشَّاعرة المصريَّة عبير يوسف، ويتـكـوَّن من إحدى وعشرين قصيدةً، عناوينها: «مازلْتُ تلك الَّتي كانت منذ قليلٍ - موسيقى لم يقـترفها أحدٌ - رأسٌ كأنَّه أنا - متوحِّـدٌ بـ «لا» - عندما يصبح اللَّاشيء شيئًا مذكورًا - ومضاتٌ - قصيدةٌ مبتورة الأطراف - الصَّوت العائد من مصافحة الرِّيح - سأقـترف النَّهر- خيوط العنكبوت - حينما يمرُّ الماء سريعًا - صمتٌ وشيكٌ - مع سبق الإصرار والتَّرصُّد - أفتح للرُّؤى صفحاتي - ما بين الطَّمي والماء - ساعاتٌ بلا وقتٍ - هو كما أراد تمامًا - إلَّا قليلًا - احتراقٌ - علامة تعجُّبٍ قصوى - رسائلُ منِّي إليَّ: عشرة مقاطعَ شعريَّةٍ»، ومعظمها جملٌ مقـتطَعةٌ من أعطاف القصائد، فهي منتـقاةٌ من مفردات المعجم المتـداوَل، وتـنماز بسلاسة الأسلوب وانـقـياد الدِّلالة.

 

وتـتَّخذ الشَّاعرة من الماء رمزًا للحياة، في قصيدتها «حينما يمرُّ الماء سريعًا» (ص 41-43)، كما في قوله تعالى: «وَجَعَـلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَـلَا يُؤْمِنُونَ» (سورة الأنبياء: الآية 30)، وقـد استعرضَتِ المفردات الكبرى للحياة، مثـل: (الرُّوح - النَّفس - القلب - اليد - الطَّائر- الجناح - الماء - المطر- النَّدى - التُّربة - الطَّريق - الشَّاطئ - الرِّياح - العطر)، ويمكن تـقسيمها إلى حقولٍ دلاليَّةٍ، كحقل الإنسان وأعضائه وحقل الحيوان والطَّير وحقل الطَّبيعة وتجلِّياتها؛ لبيان الجانب الموضوعيِّ فيها، وبعد تطواف الشَّاعرة على هذه المفردات نراها تختـتم رحلتها بسؤالٍ استـنكاريٍّ عن مرور الحياة سريعةً كعادتها، وتظلَّ الذَّات الشَّاعرة قابعةً في المجهول المتَّسع باتِّساع الكون، فتـقول: «فَـكَـيْـفَ يَمُـرُّ سَرِيعًا؟!/ وَيَحِيكُ لَنَا الْارْتِـقَاءُ بِهِ/ أَمَلًا لَا يَـتَحَـقَّـقُ بِشَـكْـلٍ مُسْـتَمِرٍّ/ حِينَ يَمُـرُّ سَرِيعًا/ أَتَـلْـقَانِي/ كَمَنْ قَابَـلَ الْحَيَاةَ لِتَـوِّهِ/ بِوَجْهٍ يَـبْـتَسِمُ/ وَهُـوَ يَجْتَرِحُ الْأَنَا/ مِنْ شَـفَا حُفْـرَةٍ سَحِيقَةٍ/ بِحَجْمِ كَوْنٍ يَـتَّسِعُ؟!».
ورغم ضجيج العالَم من حولها، فإنَّ الشَّاعرة تجد ذاتها دونما توهُّمٍ، فتـقول: «تَـتَعَـدَّدُ الْأَصْوَاتُ مِنْ حَوْلِي/ فَـأَسْمَعُـنِي بِوُضُوحٍ/ اشْتَـقْـتُ لِـتِـلْـكَ الْـوُجُوهِ/ الَّتِي لَمْ أَرَهَا أَبَـدًا»، بل إنَّها ترى في وجودها مناط تميُّـزٍ، فتـقول: «مَازَالَ اسْمِي يَـتَـوَسَّطُ/ أَدَاتَيِ التَّعَجُّبِ وَالْاسْـتِـفْهَامِ»، كجملةٍ شعريَّةٍ تصلح أن تـشكِّـل حسن خاتمةٍ للقصيدة. كذلك في قصيدة «رأسٌ كأنَّه أنا» (ص 13-14)، حيث تـقول: «كَـيْـفَ يَـتَهَجَّى الصُّدَاعُ رَأْسِيَ الْمُـتْـعَـبَ/ الْخَالِي تَمَامًا مِنَ السَّـكِينَةِ/ الْـبَاحِثَ دَوْمًا عَنْ مُـتَّــكَـإٍ لِسُؤَالٍ بِلَا جَوَابٍ/ وَمِسَاحَةٍ يَـتَسَاقَطُ مِنْهَا الْعَالَمُ/ كَمَطَرٍ يَـبْحَثُ عَنِ انْـفِـرَاجَةٍ؟!/ يَالَـكَ مِنْ رَأْسٍ كَـأَنَّهُ أَنَا!».
وتحاول الشَّاعرةُ التَّرفُّعَ عن الواقع المعيش، والتَّحليق بعيدًا عن ثـقـل المادَّة إلى ما هو معنويٌّ وما يضرب بسهمٍ إلى خفَّة الرُّوح، في قصيدة «ومضاتٌ» (ص 22-27)، حيث تـقول: «قَالَ لِي طَـيْـفُـكَ: أُحِبُّـكِ/ مِئَاتٍ بَـلْ آلَافَ الْمَـرَّاتِ/ وَلَازِلْتُ أَتَـظَاهَـرُ بِالصَّمَمِ/ فَلَا آمُـلُ أَبَـدًا سَمَاعَهَا»، وتـقول: «أُنَادِيكَ بِرُوحِي/ وَدَائِمًا مَا تَـرُدُّ الـنِّـدَاءَ/ فَإِذَا نَطَقَ بِاسْمِكَ لِسَانِي/ لَا تُجِـيـبُ!».
ممَّا دفع بالشَّاعرة إلى البحث عن تـشكيل الغرائبيَّة وفلسفة الاستحالة، فتـقول: «قِصَّـتُـنَا غَرِيـبَةٌ/ بَـدَأَتْ حِينَ الْغُـرُوبِ/ وَنَسَجْـنَا بِشُعَاعِ الشَّمْسِ/ تَـفَاصِيلَهَا!»، وتـقول: «عِـنْـدَمَا تَخْـنُـقُ حُرُوفِي بِـيَـدَيْـكَ/ لَا تَجِدُ مَلَاذًا سِوَى قَـلْـبِـكَ/ لِتَخْـتَـبِئَ فِـيهِ!»، وتـقول: «لَا تَـدَعِ الصَّمْتَ يَـتَحَدَّثُ/ بَـدَلًا عَـنْـكَ/ فَهُـوَ يُخْبِرُنِي بِأَسْرَارِكَ الْخَـفِـيَّةِ!».

صور شعرية
وتبعث الشَّاعرةُ الحياةَ في بيئتها الصَّامتة، فتصنع صورها الشِّعريَّة الَّتي تميِّـز تجربتها، في قصيدة «الصَّوت العائد من مصافحة الرِّيح» (ص 30-31)، حيث تـقول: «الصَّـوْتُ الْعَائِـدُ/ مِنْ مُصَافَحَةِ الرِّيحِ/ يُـقْـرِئُـكَ السَّلَامَ/ أَتَّــكِئُ عَـلَى صَـوْتِي/ ذَاتَ حَـنِـيـنٍ/ فَـنَـبَـتَ لِـلصَّوْتِ/ جَنَاحَانِ»، وتـقول: «الْحَائِطُ الَّذِي اسْـتَـنَـدَ عَـلَـيْهِ الضَّوْءُ/ بِظِلَالِهِ الْأَسِيرَةِ/ نَوْمُهُ الْغَافِي عَـلَى كَـتِـفِ الْأَوْرَاقِ/ وَالرِّيَاحُ تُـقَهْـقِهُ!». كذلك في قصيدة «سأقـترف النَّهر» (ص 32-35)، حيث تـقول: «فَعَـلَـيْـكُمْ بِالْانْـتِـظَارِ/ لِتُـكْمِلَ اللَّوْحَةُ/ تِلَاوَةَ أَلْـوَانِهَا/ بَعْـدَمَا تَـبَعْـثَـرَ الْأَزْرَقُ/ مَا بَـيْـنَ الْأَوْرَاقِ»، وتـقول: «وَسَتَـأْتِي الطَّـيُورُ/ بِأَحَاجِي مُغَايِـرَةٍ/ لِأَعْـشَاشٍ مَا فَـقَـدَتْ صِغَارَهَا/ مَا نَهَـرَهَا الدِّفْءُ/ وَمَا قَـيَّـدَ الشِّـتَاءُ/ حَـنِـيـنَهَا لِـلْـبَـقَاءِ».
وتُؤَنْسِنُ الشَّاعرة مفردات عالَمها، وتجسِّـد المعنويَّ منه، في قصيدة «مازلْتُ تلك الَّتي كانت منذ قليلٍ» (ص 9-11)، حيث تـقول: «كَطَـقْـسٍ صَبَاحِيٍّ/ أُمَـشِّطُ أَحْرُفِي/ بِأَنْغَامٍ ذَابِلَةٍ/ وَذْكْرَيَاتٍ عَـنِـيدَةٍ»، وتـقول: «مَازِلْتُ أَدِينُ لِلْأَشْجَارِ/ بِاعْـتِـذَارَاتٍ عَـدِيدَةٍ»، وتـقول: «عُـصْفُورِي ذَاكَ الَّذِي/ كَـفَّـنْـتُهُ بِدُمُوعِي/ كَانَ يَعْرِفُـنِي أَكْـثَـرَ»، وتـقول: «مَازِلْتُ أَجِدُ لِلْـكَـذِبِ سِيقَانًا/ لَا تَصِلُ لِأَبْعَـدَ مِمَّا يَصِلُ إِلَـيْهِ النَّـظَـرُ»، وتـقول: «مَازِلْتُ أَحْتَسِي أَيَّامِي/ بِشَغَـفٍ/ وَبِلَا تَـرَدُّدٍ»، مع كثرة استخدام الفعل النَّاقص (مازال)؛ للدِّلالة على استمراريَّة أَنْسَـنَةِ الأشياء والتباس المحسوس بالمعقول.

محاولة الانفكاك
وترى الشَّاعرة عدم ائتلاف مفردات العالَم من حولها، فتـقول: «أَشْيَاءُ مُـتَـنَافِرَةٌ/ تَـتَجَمَّعُ رُوَيْـدًا/ لِتَصْـنَعَ شَيْـئًا مِنْ مَرَايَا»، وعدم الائتلاف دفع بالعالَم إلى عدم الصِّدق، فتـقول: «مَازِلْتُ أَتَـلَـقَّى الْمُجَامَلَةَ بِقَـبُولٍ حَسَنٍ/ وَأَنَا أُرَدِّدُ غَـيْـرَ ذَلِكَ/ مَازِلْتُ أُرَدِّدُ مَا لَا أَعْـنِـيهِ/ بِأَبْجَدِيَّاتِ الْـكَـذِبِ الْمُـزَخْرَفِ/ بِلَوْنِ قَـوْسِ قُـزَحٍ»، وتقيم حوارًا من شأنه أن ينفث روح الحياة في هذا العالَم الزَّائف، فتـقول: «مَازِلْتُ أُحَاوِرُ أَشْـيَائِي/ فَـتَـدِبُّ فِـيهِمُ الْحَيَاةُ».
وتحاول الشَّاعرة محاولةً جيِّدةً للتَّجريد، بأن تعمد إلى الانفكاك عن ذاتها الشَّاعرة ومخاطبتها بوصفها ذاتًا أخرى، فتـقول: «مَازِلْتُ أَعْـبُـرُ حُرُوفِي/ لِأَصِلَ لِنَـفْـسِي تِـلْـكَ الَّتِي/ أَجْهَـلُ تَـفَاصِيلَهَا الدَّقِـيقَةَ/ مَازِلْتُ أَقْـبَـلُ نَـفْـسِي عَـلَى عِلَّاتِهَا/ وَأَتَـظَاهَـرُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُـؤَرِّقُـنِي»، وتـقول: «مَازِلْتُ تِـلْـكَ الْمَرْأَةَ/ الْمَسْـكُونَةَ بِالْأَسْـئِـلَةِ/ وَالدَّهْـشَةِ/ وَالرَّغْـبَةِ الْأَكِيدَةِ/ فِي التَّـوَحُّدِ بِالْحَرْفِ»، وتـقول: «مَازِلْتُ تِـلْـكَ الَّتِي/ كَانَتْ مُـنْـذُ قَـلِـيـلٍ/ تَسْـأَلُ الطَّرِيقَ/ أَيُّ نَجْمَةٍ تُصَاحِبُ؟/ كَـيْلَا تَصِلَ سَرِيعًا!».
وتـكـرَّر الشَّاعرةُ التَّجريدَ في قصيدة «احتراقٌ» (ص 64-67)، حيث تـقول: «قَـلَـمٌ يَمَـلُّ الْانْـتِـظَارَ/ شَيْءٌ مَا/ يَـدْفَعُـنِي لِاخْـتِـرَاقِ/ غِشَاءٍ رَقِـيقٍ/ يَـفْصِلُ مَا بَـيْـنِي وَبَـيْـنِي»، إذ لا يُعطف الشَّيء على نفسه أو الشَّخص على ذاته. كما تجلَّى التَّجريد في عـدَّة مقاطعَ متـفـرِّقةٍ من قصيدة «رسائلُ منِّي إليَّ» (ص 73-77)، والَّذي بدا من عنوانها ابتداءً، وتـقول في استهلالتها مستـنكِرةً: «لَا أَعْـرِفُ لِمَاذَا يُـرَاسِلُنِي ظِلِّي؟!/ وَلَا أَعْـرِفُ كَـيْـفَ يَسْـتَـقْـبِلُ سَاعِي الْـبَرِيدِ صَمْتَ رَسَائِـلِي؟!»، ثـمَّ تـقول في طيَّاتها: «لِأَنَّـكَ مِنِّي فَـتِـلْـكَ رِسَالَـتِي إِلَيَّ/ إِلَـيْـكَ... سَـأَلَـتْـنِي يَـوْمًا أَنْ أَبْعَـثَ لَـكَ بِي... سَـأَبْـتَسِمُ هَـذِهِ الْمَـرَّةَ لِي/ لَـكَ... أَيْنَ مِنِّي ظِلَالِي لِأَتَّحِدَ بِهَا فَالْأَرْقَامُ تَـتَلَاشَى رُوَيْـدًا؟!».
لكنَّ الشَّاعرة تستـفيق؛ من مخاطبة الذَّات طوال القصيدة، إلى مخاطبة الملهِم في نهايتها، إذ يغلب عليها سرد المراسلة، فتـقول: «سَـأَكْـتُبُ لَكَ مَا يُـشْبِهُ الْحُرُوفَ/ وَلِأَنَّـكَ تَـقْـرَأُ مَا لَا يُـكْـتَبُ سَـأَكْـتَـفِي بِالْـقَـلِـيـلِ/ مُـتَـرَدِّدَةً أَنَا فِي الْكِتَابَةِ قَـلِـيلًا الْـيَـوْمَ/ رُبَّمَا لِأَنَّـنِي أَتَخَيَّـلُـكَ تَـبْـتَسِمُ لِكُـلِّ حَرْفٍ/ تَـرَكْـتُهُ أَسِيرًا لِلصَّمْتِ دُونَ حِرَاكٍ/ وَأَنْتَ بِعَصًا سِحْرِيَّةٍ تَمْـنَحُهُ شَهِـيقًا... وَأَنَا وَسَطَ كُـلِّ تِـلْـكَ الْـبَعْـثَـرَةِ/ أُحَاوِلُ اسْـتِـكْمَالَ لَوْحَـتِي الَّتِي تَحْمِلُ/ بِالطَّـبْعِ تَـوْقِـيعَـكَ/ أُحَرِّرُ أَبْجَدِيَّـتِي مِنْكَ قَـلِـيلًا/ كَـيْلَا تَـتَحَوَّلَ كُـلُّ الْحُرُوفِ إِلَـيْـكَ/ تِـلْـكَ تَـنْـقُـشُ اسْمَـكَ بِمَلَامِحِي/ وَتِـلْـكَ تَهْـمِسُ بِحُرُوفِ صَمْـتِـكَ/ وَهَـذَا صَدَى نَبْضِكَ الَّذِي تُـرَدِّدُهُ الرِّيَاحُ/ وَهَـذَا عِطْرِيَ الَّذِي اسْـتَخْـلَصْـتُهُ مِنْـكَ/ وَتِـلْـكَ خُطَى أَنَامِلِي الَّتِي تَحْـفُـرُ أَنْتَ... لَا تَـبْـتَسِمْ مُجَـدَّدًا بِرَبِّـكَ لَا تَـفْعَـلْ/ فَـلَـقَـدْ صَافَحَتِ ابْـتِسَامَتُـكَ دُمُوعِيَ الْآنَ... إِلَـيْـكَ مُجَـدَّدًا وَأَبَـدًا/ رَسَائِـلُـكَ الَّتِي لَمْ تَصِلْـنِي/ تِـلْـكَ الَّتِي لَمْ تُـكْـتَبْ بَعْـدُ/ تَخُطُّهَا أَنَامِلِي تِـبَاعًا/ تَـكْـتَـنِزُهَا أَدْرَاجِيَ الْمُمْـتَـلِـئَةُ بِكَ/ حَدَّ الْعُـزُوفِ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ آخَرَ».
ولقد عَـبَّـرَتِ الشَّاعرة عن فلسفة الحياة بتصاريفها المتغـيِّرة، فشبَّهَـتْ مرور الزَّمن في الحياة بـ «الخيوط»، في قصيدة «خيوط العنكبوت» (ص 36-40):
كـ«خيوط مغزل الجدَّة» الَّذي يدور كدوران الزَّمن، حيث تـقول: «خُيُوطٌ مَازَالَتْ تَـبْحَثُ/ عَنْ أَنَامِلِ جَـدَّتِي/ وَهِي تَخِيطُ لِي مِنَ الْغَـدِ/ أَثْـوَابًا بِلَا عَـدٍّ/ وَمَعَ رَحِيـلِهَا/ لَمْ يَـبْـقَ سِوَى/ حِكَايَاتٌ لَا تُـتْـقِـنُ السَّرْدَ».
و«خطوط راحة اليد» الَّتي تعـبِّر عن تـقادُم الزَّمن، حيث تـقول: «خُيُوطٌ كَـأَنَّهَا الْعُـمْـرُ/ تَـمُـرُّ مِنْ حَوْلِي/ دُونَ أَنْ تَمْـنَحَنِي شَرَفَ الْمُحَاوَلَةِ/ خُيُوطٌ كَمِرْآةِ خُطُوطِ يَـدِي/ وَهِيَ تُـبَادِرُ بِالْمُـقَاوَمَةِ».
و«خيوط نسج العنكبوت» الَّتي تعـبِّر بها عن تـشابُـك أحداث الماضي والحاضر والمستـقبل، حيث تـقول: «خُيُوطٌ تُـنَادِيـنِي تَسْـتَـوْقِـفُـنِي كُـلَّمَا هَمَمْـتُ بِالرَّحِيلِ/ لِـتَسْـتَـرْضِيـنِي/ خُيُوطٌ مِنَ الْأَعْمَاقِ تُـلَاقِـيـنِي/ الذِّكْـرَيَاتُ لَا تَـمُـرُّ/ وَالْأَرْصِفَةُ مَا عَادَتْ تَـنْـتَـظِرُ/ وَالْـقِطَارَاتُ فَـقَـدَتْ شَرْعِـيَّةَ السَّـفَـرِ/ وَقُـفَّازَاتٌ خَـلَعَـتْهَا الْأَنْهَارُ/ بِالْـقُـرْبِ مِنْ نَافِـذَتِي/ وَوَلَّـتْ/ وَبُـكَائِـيَّاتٌ لَمْ أَعُـدْ أَدْرِي حَـقًّا/ لِمَنْ تَـنْـتَـمِي؟!/ الْخُيُوطُ تَـتَـشَابَكُ/ وَالْأَنْـفَاسُ تَـتَعَـثَّـرُ/ بِمُـفْـتَـرَقِ الطَّرِيقِ».

سردية شعرية
وتـتضافر مراحل الزَّمان ومفردات المكان في رسم سرديَّةٍ شعريَّةٍ لرمزيَّة الحياة، في قصيدة «ما بين الطَّمي والماء» (ص 53-55)، فـتستهلُّ الشَّاعرةُ الحكيَ قائلةً: «حِينَمَا كَانَتْ فِي الْخَامِسَةِ/ وَحِينَ الْخَامِسَةِ صَبَاحًا/ كَانَ مَـوْعِـدُهَا الْـيَـوْمِيُّ»، وتحكي: «وَبِمِعْـطَفٍ ثَـقِـيلٍ/ كَانَتْ تُخْـفِي هُمُومَ طُـفُـولَةٍ كَانَتْ/ وَعَرَائِسُ قُـطْـنِـيَّةٌ تَـفْـتَـقِـدُ الدِّفْءَ»، وتشارك الطَّبيعة في صنع الحدث، فتـقول: «وَكَمَا يَـفْعَـلُ دَائِمًا الصَّـبَاحُ/ يُوقِـظُ الطُّـيُـورَ مِنْ أَعْـشَاشِهَا/ لِتَحْتَـفِي بِقُـدُومِهِ/ وَالنَّـدَى مِنْ مَعِـيَّةِ بَـتَلَاتِ الزَّهْرِ/ وَالتَّـمْـرَ مِنْ أَعْـنَانِ النَّخْلَاتِ الْـبَاسِقَةِ/ فَـتَـتَسَاقَـطُ رُطَـبًا/ وَالنَّهْـرُ يَجْرِي زُلَالًا/ فَـتَـرْتَوِي أَرَاضٍ هَجَرَهَا الرَّحِيقُ».
وتـنوِّع الشَّاعرة مشاهد هذه القصيدة على مستوياتٍ مختـلفةٍ، مثـل:
تـنوُّع الزَّمان، قائلةً: «وَالشِّـتَاءُ يُـدَمِّـرُ الْمَـرَاسِيَ الْعَـنِـيدَةَ/ لِـتَـنْـطَـلِـقَ قَـبْـلَ الشُّرُوقِ بِقَـلِـيلٍ... كَانَ وُلُوجُ الْـفَجْرِ وَشِيكًا/ وَالْـبَـشَرُ يَـتَـدَافَعُونَ/ بِدَاخِلِ عَرَبَاتِ الْـقِـطَارِ... كَأَنَّهُـمْ عَـلَى مَـوْعِـدٍ مَعَ سَاعَةٍ لَا تَـتَـأَخَّرُ... وَذَاتَ يَـوْمٍ بَعِـيـدٍ/ اكْـتَـسَبَ الصَّـبَاحُ لَـوْنًا سَوْدَاوِيًّا».
وتـنوُّع المكان، قائلةً: «لِلطَّرِيقِ الَّذِي مَازَالَ يَحْـتَضِنُ الظَّلَامَ/ لِـتَـلْحَقَ بِـقِـطَارٍ لَا قَـلْبَ لَهُ... لِـتُـنْـقِـذَ عَـرُوسَتَهَا الْمِسْـكِـيـنَةَ/ مِنْ عُـمْـقِ النَّهْـرِ/ فَمَا عَادَتْ هَـذِه أَوْ تِـلْـكَ/ فَـقَـدْ جَرَفَهَا التَّــيَّارُ بَعِـيـدًا... وَغَاصَتْ بِالطَّمْيِ الْأَقْـدَامُ/ فَعَجَزَتْ عَنِ التَّــقَـدُّمِ/ أَوْ حَـتَّى الصُّرَاخِ/ وَمَـرَّ الْـقِـطَارُ بِطَرِيقِ الْعَـوْدَةِ».
وتـنوُّع الأشخاص، قائلةً: «وَهِيَ تَـتَعَـثَّـرُ بِسَـنَوَاتِهَا الْخَمْسِ/ بَـيْـنَ أَقْـدَامِهِمْ... وَبَـكَتْ ذَاتُ الْخَامِسَةِ رَبِـيعًا/ كَذَلِكَ عَرَائِسُهَا الْـقُـطْـنِـيَّةُ/ حَـدَّ إِغْرَاقِ الرُّوحِ... لِـتَـتْـرُكَ دِفْءَ أُسْرَتِهَا الْحَالِمَةِ... حَيْثُ اكْـتَسَتِ النِّسَاءُ/ بِأَثْـوَابِ الْحِدَادِ/ فَـلَـقَـدْ ذَهَـبَتْ طِفْـلَـتُهُـمُ الصَّغِـيرَةُ... كَانَتْ الْوُجُوهُ تَـتَـشَابَهُ وَتَخْـتَـلِفُ/ وَلَا يَجْمَعُهُـمْ إِلَّا الْمَـقَاعِـدُ الْـبَارِدَةُ/ وَالذِّكْرَيَاتُ الَّتِي لَا تَـأْتِي دَائِمًا».

موقف مشرف
وتحاول الشَّاعرة إثبات أنَّ الرَّفض في هذا العالَم الزَّائف يُعَـدُّ موقـفًا مشرِّفًا، في قصيدة «متوحِّدٌ بـ (لا)» (ص 15-17)، حيث تعنونها بأداة النَّـفي (لا)، وتبني جملها على المتضادَّات، فتـقول: «وَالْإِتْـيَانُ بِمَا لَا تَـنْوِي تَحْدِيدًا/ وَالْإِغْـدَاقُ عَـلَـيْهِ بِمَا لَا تَمْـلِكُ فِعْلًا/ وَالسِّـبَاحَةُ فِـيمَا بَـيْـنَ (مَعَ) أَوْ (ضِدَّ)/ بِـ(لَا).. (لَا) الَّتِي لَا تَعْرِفُ الْمُـوَارَبَةَ/ سِوَى اسْـتِجْلَاءِ الْـقَادِمِ بِشَيْءٍ غَـيْرِ الْـفُـتُورِ/ مَا بَـيْـنَ الْاقْـتِرَابِ وَالنُّـفُورِ».
كما نلمس تيمة الصَّمت في هذه التَّجربة الشِّعريَّة، ولعلَّه يمثِّـل موقـفًا آخَرَ لدى الشَّاعرة، بدءًا من عنوان إحدى قصائدها «صمتٌ وشيكٌ»، وصنعَـتِ الغرائبيَّة بأن أنطقَـتْهُ في قصيدة «ومضاتٌ»، قائلةً: «لَا تَـدَعِ الصَّمْتَ يَـتَحَدَّثُ/ بَـدَلًا عَـنْـكَ/ فَهُـوَ يُخْبِرُنِي بِأَسْرَارِكَ الْخَـفِـيَّةِ!»، ومن الغرائبيَّة أيضًا أنَّ ساعي البريد يقرأ صمت الرَّسائل في قصيدة «رسائلُ منِّي إليَّ»، قائلةً: «وَلَا أَعْـرِفُ كَـيْـفَ يَسْـتَـقْـبِلُ سَاعِي الْـبَرِيدِ صَمْتَ رَسَائِـلِي؟!»، وفي القصيدة ذاتها تخاطب الشَّاعرة ملهِـمَها، وتجعل الصَّمت مكافـئًا للحَرْف في الإفهام، قائلةً: «سَـأَكْـتُبُ لَكَ مَا يُـشْبِهُ الْحُرُوفَ/ وَلِأَنَّـكَ تَـقْـرَأُ مَا لَا يُـكْـتَبُ سَـأَكْـتَـفِي بِالْـقَـلِـيـلِ/ مُـتَـرَدِّدَةً أَنَا فِي الْكِتَابَةِ قَـلِـيلًا الْـيَـوْمَ/ رُبَّمَا لِأَنَّـنِي أَتَخَيَّـلُـكَ تَـبْـتَسِمُ لِكُـلِّ حَرْفٍ/ تَـرَكْـتُهُ أَسِيرًا لِلصَّمْتِ دُونَ حِرَاكٍ»، وبعدها: «أُحَاوِلُ اسْـتِـكْمَالَ لَوْحَـتِي الَّتِي تَحْمِلُ/ بِالطَّـبْعِ تَـوْقِـيعَـكَ/ أُحَرِّرُ أَبْجَدِيَّـتِي مِنْكَ قَـلِـيلًا/ كَـيْلَا تَـتَحَوَّلَ كُـلُّ الْحُرُوفِ إِلَـيْـكَ/ تِـلْـكَ تَـنْـقُـشُ اسْمَـكَ بِمَلَامِحِي/ وَتِـلْـكَ تَهْـمِسُ بِحُرُوفِ صَمْـتِـكَ».
كذلك تجد الشَّاعرة في البوح والمصارَحة إثمًا وجريمةً؛ لذا تكثر من استعمال الاستـفهام الإنكاريِّ، في قصيدة «مع سبق الإصرار والتَّرصُّد» (ص 46-50)، فإمَّا الإمعان في التَّجريد بممارسة البوح مع النَّـفس، حيث تـقول: «صَارَحْتُ وَحْدَتِي/ أَنَّنِي أَهْـذِي/ فَـرَدَّتْ سَاخِرَةً: وَمَا الْجَدِيدُ؟!»، وتـقول: «صَارَحْتُ عَـيْـنِي/ أَنَّنِي سَـئِـمْتُ مَـذَاقَ الدَّمْعِ/ وَنَـكْهَـتَهُ/ فَـقَالَتْ: سَـيِّـدَتِي لَمْ تَـتَـذَوَّقِي غَـيْرَهُ/ مُـنْـذُ أَمَـدٍ بَعِـيـدٍ»، وتـقول: «صَارَحْتُ قَـلْبِي/ أَنَّنِي بِدُونِهِ أَصُـدُّ/ طَاقَاتِ الرِّيَاحِ/ وَأُصَارِعُ الزَّوَابِعَ/ فَـقَالَ: هَـلْ تَـتَمَـنَّـيْـنَ رَحِيلِي؟!/ فَضَمَمْـتُهُ بِدُمُوعِي/ الَّتِي اخْتَـلَطَتْ بِـدِمَائِهِ»، وتـقول: «صَارَحْتُ أَنَامِلِي/ أَنَّنِي أَجْهَـلُ أَحْيَانًا/ وَقْعَ خُطَاهَا/ فَـقَالَتْ: هَـذَا أَفْضَلُ لَـكِ وَلِي»، وتـقول: «صَارَحْتُ نَـفْـسِي/ أَنَّنِي مَغْـرُورَةٌ لِحَدٍّ مَا/ وَأَنْظُرُ لِلنَّاسِ مِنْ أُفُـقٍ أَوْسَعَ/ وَلِـنَـفْـسِي الضَّـيِّـقَةِ الْمَسَامِّ/ بِسُحُبٍ مُمْطِرَةٍ»، وتـقول: «صَارَحْتُ عَـقْـلِي/ أَنَّنِي أُهِـينُهُ أَحْيَانًا/ وَأُودِعُهُ بِهُــوَّةٍ سَحِيقَةٍ/ فَالْعَـقْـلُ أَصْبَحَ حِمْلًا ثَـقِـيلًا/ عَـلَى الْأَكْتَافِ وَالْأَعْـنَاقِ/ بَلْ وَالْأَفْـئِدَةِ».
أو التَّماهي مع البيئة، بممارسة البوح مع مفرداتها، حيث تـقول: «صَارَحْتُ أَصْدِقَائِي/ أَنَّنِي غَرِيـبَةٌ بَعْضَ الشَّيْءِ/ مُـنْعَـزِلَةٌ إِلَى حَدٍّ مَا/ كَـئِـيـبَةٌ أَحْيَانًا/ مُـتَـزَمِّـتَةٌ أَحْيَانًا أُخْرَى/ أَفْـتَـقِـدُ الْـوُدَّ مَعَ الْغُـرَبَاءِ/ قَالُوا لِي: لِمَاذَا تُـلْهِـبِـينَ بِالسَّوْطِ ظَهْـرَكِ؟!/ فَـشَعَـرْتُ بِهِ عَـلَى جَسَدِي يَـتَـرَنَّحُ»، وتـقول: «صَارَحْتُ الْمَطَرَ أَنَّنِي أَعْـشَـقُهُ/ وَأُدْمِنُ رَائِحَتَهُ/ وَرَقْصَتَهُ/ وَإِنْسَانِـيَّـتَهُ»، وتـقول: «صَارَحْتُ الشَّمْسَ بِعِـشْـقِي لَهَا/ حِينَ الشُّرُوقِ/ فَخَجِلَتْ وَوَلَّتْ غَارِبَةً/ فَـكَانَ غُرُوبُهَا أَجْمَلَ»، وتـقول: «صَارَحْتُ الْـقَمَرَ أَنَّنِي أَعْـشَـقُهُ/ مَـلِـكًا بِأَوْجِ عَـظَمَـتِهِ/ بَـيْـنَمَا يَـنْـشَطِرُ لِـنُجُومٍ مُـتَـوَهِّجَةٍ».
خاصَّةً البوح مع بيئة الكتابة، وكأنَّ الشَّاعرة لا تـتـنصَّل من جريمة البوح، وإنَّما توقِّع على اعترافاتها بارتكابها، حيث تـقول: «صَارَحْتُ قَـلَمِي/ أَنَّنِي أَعْـشَـقُهُ/ فَابْـتَسَمَ لِي قَائِلًا: هَـلْ وَجَدْتِ صِدْقًا بِغَـيْرِي؟!»، وتـقول: «صَارَحْتُ أَوْرَاقِي/ أَنَّنِي مِنْ شَذَاهَا/ فَـقَالَتْ: عَـلَى الرَّحْبِ وَالسَّعَةِ/ وَلَـكِنْ كَـفَى نَحِـيـبًا/ فَـدُمُوعُـكِ تُـلْهِبُ أَنْسِجَـتِي»، وتـقول: «صَارَحْتُ حُرُوفِي/ أَنَّنِي أَكْـذِبُ كَـثِـيرًا/ وَأُمَارِسُ الْجُنُونَ بِحُـرِّيَّةٍ/ وَمِصْـدَاقِـيَّةٍ/ وَشَـفَافِـيَّةٍ/ فَـتَعَالَتْ ضَحِكَاتُهَا/ مُمْـتَـزِجَةً بِدُمُوعِهَا الْغَـزِيرَةِ»، وتـقول: «صَارَحْتُ أَدَوَاتِ الْاسْـتِـفْهَامِ/ أَنَّنِي أَرْتَـكِبُ ذَنْـبًا عَـظِيمًا/ عِـنْـدَمَا تَعْـتَـدِلُ هَامَـتِي/ بَـيْـنَمَا هَامَـتُهَا لَا تَـلْوِي عَـلَى شَيْءٍ».

مصارحة الألم
وبعدما فَصَّلَتِ الشَّاعرةُ القولَ في منعطفات البوح، لم تـنسَ مصارحة (الألم)، الَّذي يكون الباعث على البوح تارةً، والمعبِّر عن تجلِّيات البوح تارةً أخرى، فتـقول: «صَارَحْتُ آلَامِي/ أَنَّنِي أُشْـفِـقُ عَـلَـيْهَا/ حِينَمَا أَتَـنَاسَى كَـيْـفَ أُدَاوِيهَا؟!»، كما ختمَتِ القصيدة بالاعتراف صراحةً بفعل المصارحة، قائلةً: «أُصَارِحُكُمْ بِأَنَّنِي/ أُبَعْـثِـرُ حُرُوفِي/ كَـشَظَايَا أَلَمٍ/ وَبَـقَايَا وَجَعٍ/ وَأَنِـيـنِ ذِكْـرَي/ أُصَارِحُكُمْ بِأَنَّنِي/ الْمُـوَقِّعُ أَدْنَاهُ/ قَـدِ ارْتَـكَـبْتُ غِـوَايَةَ الْـبَـوْحِ/ عَرَضًا/ وَلَكِنْ مَعَ سَـبْـقِ الْإِصْرَارِ وَالتَّـرَصُّـدِ!».
وكأنَّ الشَّاعرة بتكرار الفعل (صَارَحَ)، المسنَد إلى ضمير الرَّفع المتَّصل (تُ/ الفاعل)، تحقِّـق ما عُـرف في البلاغة بـ«استيفاء الأقسام»؛ حيث فَصَّـلَتِ القول فيمن توجَّهَـتْ إليهم بالمصارحة، ولا تريد أن تستـثـني منهم أحدًا أو شيئًا، فذكرَتْ: «وحدتي- عيني- قلبي- أناملي - نفسي - عـقلي - أصدقائي - المطر- الشَّمس - القمر - قلمي - أوراقي - حروفي - أدوات الاستـفهام - آلامي»، ويمكن تـقسيمها إلى حقولٍ دلاليَّةٍ، والوقوف على توظيفها وفـقًا لسياقاتها المعرفـيَّة، خاصَّةً الحقل الَّذي ضمَّ مفردات الذَّات، فخاطبَتِ الشَّاعرةُ النَّـفسَ إجمالًا، وخاطبَـتْهَا تـفصيلًا في العقل والقلب والعين والأنامل، وتوجَّهَـتْ بخطابها لكلٍّ منها على حدةٍ، بوصفها ظلًّا للذَّات. وأخيرًا... يمكن أن نجمل دور الذَّات في ثلاثة مواقـفَ، هي: الرَّفض والصَّمت والمصارحة.
وتـتـناصُّ الشَّاعرة مع القرآن الكريم؛ تارةً بالمركَّب الوصفيِّ (قبولٍ حسنٍ)، كما في قوله تعالى: «فَـتَـقَـبَّـلَهَا رَبُّهَا بِقَـبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْـبَـتَهَا نَـبَاتًا حَسَـنًا» (سورة آل عمران: الآية 37)، فتـقول: «مَازِلْتُ أَتَـلَـقَّى الْمُجَامَلَةَ بِقَـبُولٍ حَسَنٍ»، ضمن قصيدتها «مازلْتُ تلك الَّتي كانت منذ قليلٍ». وتارةً بالمركَّب الإضافيِّ (شفا حفرةٍ)، كما في قوله تعالى: «وَكُـنْـتُـمْ عَـلَى شَفَا حُفْـرَةٍ مِنَ النَّارِ فَـأَنْقَـذَكُمْ مِنْهَا» (سورة آل عمران: الآية 103)، فتـقول: «وَهُـوَ يَجْتَرِحُ الْأَنَا مِنْ شَـفَا حُفْـرَةٍ سَحِيقَةٍ»، ضمن قصيدتها «حينما يمرُّ الماء سريعًا» ■