مجلّة «شعر» اللبنانية بين العددين الأوّل والأخير

مجلّة «شعر» اللبنانية بين العددين الأوّل والأخير

 في ربيع 2010، وخلال الاحتفاء ببيروت عاصمة عالمية للكتاب، أعادت دار نلسن للنشر اللبنانية إصدار العدد الأوّل من مجلّة «شعر»، في عدد تذكاري، بعد مرور ثلاثٍ وخمسين سنة على صدوره، شتاء 1957. وفي صيف 2023، أعادت إصدار العدد الأخير من المجلّة، في عدد تذكاري، في محاولة منها لإكمال ما بدأه السلف، بعد مرور ثلاثٍ وخمسين سنة على صدوره، خريف 1970. والمفارق، في هذا السياق، هو أنّ المدّة الزمنية الفاصلة بين العددين الأوّل والأخير، بصيغتهما الأصلية، مطابقة لتلك الفاصلة بين العددين، بصيغتهما التذكارية، وهي ثلاث عشرة سنة. ولعلّ هذا التطابق بين المدّتين هو إحدى المصادفات القَدَرية التي كثيرًا ما نُصادفها في الحياة دون أن نملك تفسيرًا لها. على أنّه لا بدّ من الإشارة إلى أنّ مجموع الأعداد التي صدرت من المجلّة، بين شتاء 1957 وخريف 1970، بلغ أربعةً وأربعين عددًا، وقد صدرت على فترتين منفصلتين، تمتدّ الأولى بين 1957 و1964، وتمتدّ الثانية بين 1967 و1970، ما يعني أنّها توقّفت عن الصدور، ثلاث سنوات، بين 1964 و1967. 

 

 من هذه الشرفة التاريخية الإحصائية، نطلّ على العددين الأوّل والأخير من المجلّة، ونعقد مقارنة سريعة بينهما، في الشكل على الأقلّ، ونلقي الضوء على مسيرتها، بدءًا من التأسيس، مرورًا بالدور الذي لعبته في تاريخ الشعرية العربية، وانتهاءً بالأثر الذي تركته على الشعر العربي. 

العدد الأوّل 
يشير العدد الأوّل إلى أنّ رئيس التحرير هو يوسف الخال، والمدير المسؤول هو كمال الغريب، وأنّ «اختيار القصائد لا يخضع لأيّ مذهب فنّي ينتمي إليه القائمون على تحرير المجلّة، فالمقياس الوحيد ارتفاع الأثر الأدبي إلى مستوى لائق»، وهو ما تعكسه القصائد المنشورة بالفعل. 
على أنّ هذا الاستدراك المبكّر لجهة نفي المذهبية الفنّية عن المجلّــــة لم يحل دون ارتباط اسمها بالحداثة الشعرية لاحقًا، من حيث الشكل على الأقلّ. ويشتمل العدد على: تقديم لأرشيبولد مكليش. 
ثلاث عشرة قصيدة، تنتمي سبعٌ منها إلى قصيدة التفعيلة، وثلاثٌ إلى القصيدة العمـــودية، واثنتـــان إلى القصيـــدة المكتوبة بالنثر، وواحدة إلى اللغة المحكية، مسرحية شعرية، ثلاث دراسات نظرية ونقدية، ثلاث ترجمات شعرية، وأخبار ثقافية مختلفة.

العدد الثاني
بينما يشير العدد الأخير إلى أنّ يوسف الخال هو المدير المسؤول، وإلى أنّ التحرير منيط ٌ بهيئة جماعية، تتألف من: يوسف الخال، فؤاد رفقة، أنسي الحاج، شوقي أبي شقرا، عصام محفوظ، ورياض نجيب الريّس. ويخلو العدد من أية إشارة إلى آلية اختيار القصائد. ويشتمل على: ست عشرة قصيدة، تنتمي عشرٌ منها إلى قصيدة النثر، وستٌ إلى قصيدة التفعيلة، ثلاث دراسات نظرية ونقدية، ثلاث ترجمات نثرية، ثلاث رسائل من مراسلي المجلّة، أخبار ثقافية مختلفة، وباب لكتب حديثة الصدور. 

وقوعات ووقائع 
 بالمقارنة بين هذه الوقوعات، تطالعنا الوقائع الآتية:
أ- خُلوُّ العدد الأوّل من بيان تأسيسي يحدّد أسباب تأسيس المجلّة والأهداف المتوخّى تحقيقها.
ب- تَحوُّلُ يوسف الخال من رئيس تحرير في العدد الأوّل إلى مدير مسؤول في العدد الأخير.
ج- تَغيُّرُ صيغة التحرير من الفردية في العدد الأوّل إلى الجماعية في العدد الأخير. 
د- اختلافُ المشاركين في العدد الأخير كلّيًّا عنهم في العدد الأوّل باستثناء يوسف الخال الذي شارك في الأوّل بقصيدة وفي الأخير بتقديم. 
هـ - اختلافُ النصوص المترجَمة في العددين من نصوص شعرية في الأوّل إلى مسرحية وروائية في الأخير.
و- اشتمالُ العدد الأخير على ثلاث رسائل لمراسلين حول العالم وخلوّ الأوّل منها.
ز- اشتمالُ العدد الأخير على باب للكتب الصادرة حديثًا وخلوّ الأوّل منه.
ح- غلبة قصيدة التفعيلة على قصائد الأوّل في مقابل غلبة قصيدة النثر على قصائد الأخير. 
 هذه الوقائع الشكلية وغيرها إنّما تعكس حجم التطوّرات التي شهدتها المجلّة بين عدديها الأوّل والأخير، فثمّة مياه كثيرة جرت تحت الجسر. وإذا كان من الصعوبة بمكان إدراك حجم المياه التي جرت تحت جسر المجلّة، فإنّه من نافل القول إنّها أحدثت ما يشبه الزلزال في تاريخ الشعرية العربية، في النصف الثاني من القرن العشرين، ما تزال تردّداته موجودةً حتى اليوم. وهذا ما يفسّره الهجوم الصاعق الذي تعرّض له العدد الأوّل من المجلّة، غداة صدوره، من جميع الجهات، حيث «كان المهاجمون كُثُرًا أو متنوّعين: مزيجًا غريبًا من الأشخاص: متشاعرين، شعراء، متحزّبين، متعهّدي وطنيات وأيديولوجيات، متسكّعين حول شرفات ينحصر طموحهم كلّه في أن يُقال عنهم إنّهم قذفوا الشتائم في اتجاهها»، على حدّ إشارة أدونيس في سيرته الشعرية/ الثقافية «ها أنت أيّها الوقت» (ص 41). 

ظروف موضوعية وذاتية
على أنّ تأسيس المجلّة لم يأتِ من فراغ بل جاء استجابة لحاجة وتطلّعات داخلية، من جهة، وتأثُّرًا بتجارب خارجية غربية، من جهة ثانية. وغنيٌّ عن التعبير أنّ الباعث الأوّل يرتبط بالظروف الموضوعية للتأسيس بينما يتعلّق الثاني بالظروف الذاتية للمؤسّس. أمّا الأولى الموضوعية فيحدّدها يوسف الخال في مقابلة مع مجلّة «المجلّة»، في عددها السنوي 1957/1958، بـطريقة إيجابية، تتمثّل في «أنّ هنالك في لبنان وفي العالم العربي بوادر نهضة شعرية، وأنّ هذه النهضة في أمسّ الحاجة إلى ما يعزّزها ويوجّهها ويلمّ شتاتها في حركة شعرية تتمثّل في مجلّة تُعنى بقضايا الشعر». ويحدّدها أدونيس، بطريقة سلبية، بوجود نقص أو حاجة إلى التجديد، في مناخ شعري عربي «أشبه بحوض ضخم يطفح بماء يتدفّق من ثلاثة محاور هي: الموروث الذي يُدرَّس بطريقة تقليدية، الشعر المكمِّل لشعر النهضة، والشعر الحرّ المثقل بالأيديولوجيا» (ها أنت أيها الوقت، ص 39). وأمّا الثانية الذاتية فتتمثّل في عودة المؤسّس يوسف الخال إلى لبنان، في العام 1955، بعد سبع سنوات من الإقامة في الولايات المتحدة الأمريكية، اطّلع خلالها على التجارب الشعرية الحديثة في العالم، وتعالق مع بعض المجدّدين في هذا الحقل المعرفي، وأراد أن يربط التجارب الشعرية العربية بحركة الشعر العالمي. 
وهكذا، تضافرت ظروف موضوعية وذاتية في عملية التأسيس، وكانت المجلّة.

أهداف المجلّة
انطلاقًا من هذه الظروف، يحدّد الخال الغاية من التأسيس، في مقابلته مع مجلّة «المجلّة»، المذكورة أعلاه، بـ«تعزيز نهضة الشعر العربي وتعميقه وتهيئة أسباب رقيّه إلى مستوى عالمي». وهو ما يعيد تحديده، في حديث إلى جريدة النهار اللبنانية، الصادرة في 20 نوفمبر 1958، بـ«إفساح المجال أمام التجارب الشعرية الجديدة وتشجيعها وتوجيهها، واحتضان حركة الشعر الحديث في العالم العربي، وتعزيزها بنقل نماذج مترجَمة عن الشعر في العالم». وبذلك، يصدّر الخال في تأسيس المجلّة عن ثلاثة هواجس مختلفة، ومتكاملة في آن؛ فردي يتعلّق بتشجيع التجارب الشعرية الجديدة، قومي يتّصل باحتضان حركة الشعر العربي الحديث وتعزيز نهضته، عالمي يرتبط بالارتقاء به إلى مستوى عالمي من خلال الترجمة. 
على أنّ أدونيس الذي يعتبر نفسه أحد المؤسّسين الأوائل للمجلّة، بعد يوسف الخال، يرى أنّ الهدف من تأسيسها يتعدّى مسألة التجديد في الشعر، بما هي خروج على النسق التفعيلي الخليلي، إلى التجديد في الرؤية إلى العالم، ذلك أنّ التجديد الذي تسعى إليه المجلّة، من وجهة نظره، هو «تجديد في النظرة، وأنّه مرتبط بموقف جديد، شامل وجذري، من الإنسان والوجود، يعمّقه الاطلاع والتفاعل، وتهذّبه الحياة والخبرة». فهل تراه يُحمّلها أكثر ممّا تحتمل؟ (ها أنت أيها الوقت، ص 44). وهو ما يجاريه فيه الباحث جاك أماتاييس السالسي حين يرى أنّ المجلّة «استهدفت في الحقيقة تحرير العقل من عبودية الماضي وتفجير طاقاته في الخلق والإبداع»، وأنّ «من أهم أهدافها على الصعيد الثقافي دعوتها إلى التفاعل مع الثقافات الأخرى، والمساهمة في التراث الإنساني الواحد والإضافة إليه» (صدى الكلمة، ص 10). فهل استطاعت «شعر» تحقيق هذه الأهداف؟

دور المجلّة
 لعل الإجابة عن مثل هذا السؤال تحتاج إلى بحث طويل يتعدّى مساحة هذه العجالة، غير أنّ ما يمكن الإشارة إليه هو أنّ المجلّة استطاعت، خلال سنوات صدورها العشر وأعدادها الأربعة والأربعين، أن تخلخل الكثير من المواضعات الشعرية، وأن تفرض إعادة النظر في كثير من المسلّمات النقدية. 
وقد عرفت، خلال المرحلة الأولى من صدورها، نجاحات وإخفاقات معيّنة. أمّا النجاحات فيحدّدها الباحث كمال خير بك في أطروحته «حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر» بـ«بفورة من النشاطات المتحمّسة، وبانطلاقة ظافرة للقصيدة الجديدة، وبالاهتمام الذي لقيته في جميع الأوساط، وبالإسهام المباشر أو غير المباشر لشعراء كبار، خصوصًا من العراق والأردن كنازك الملائكة، وبدر شاكر السيّاب، وفدوى طوقان» (ص 71). وأمّا الإخفاقات فيحدّدها بـ«معالجة الشعر عند مستوى العموميات والاستحضارات السريعة، غالبًا، أو المتردّدة. الاختلاط وانعدام التماسك اللذين كانا يسودان كتابات أعضاء التجمّع، والتي كانت تتركّز إمّا على طبيعة الحركة ومعطياتها الأساسية، وإمّا على مداها وأبعادها التطبيقية» (ص 70). على أنّ هذه الإخفاقات لا تحجب الأنظار عن الدور الكبير الذي لعبته المجلّة، في مرحلتيها الأولى والثانية، في حركة الشعر الحديث، وهو ما تشير إليه الباحثة خالدة السعيد، في كتابها «يوتوبيا المدينة المثقّفة» بالقول: «إنّ مجلّة «شعر» وسجالاتها قد أسهمت إلى حدٍّ كبير في تحرير الشعر من أسر التاريخ وقانون الجماعة، ومن نمطيّة النظرة الدينية الفقهية، أي من سُلطة المُعمّم والماضي، مُقدَّسًا كان أو تاريخيًّا. كما أسهمت إسهامًا واضحًا في دفعه في اتجاه الفكر الفلسفي والحدوس وتحريض اللاوعي وتَراسُل الملكات» (ص 130). 
 من هنا، يُشكّل إصدار العددين التذكاريين الذي قامت به دار نلسن اللبنانية للنشر، بفارق ثلاث عشرة سنة بينهما، خطوة في الاتجاه الصحيح، تُعيد التذكير بأهمية المجلّة ودورها في تاريخ الشعر العربي الحديث. وحبّذا لو تتولّى جهةٌ معيّنة، رسمية أو خاصّة، إعادة إصدار الأعداد الأخرى تباعًا، بحيث تصبح متاحة للقرّاء، لا سيّما شريحة الشباب منهم، فيتعرّفون إلى حقبة مهمّة من تاريخنا الشعري، علّهم ينطلقون منها، في محاولاتهم التجديدية، قبل أن يفكّروا في الخروج عليها ■