مراكش أرض البهجة والعمارة الساحرة

مراكش أرض البهجة والعمارة الساحرة

مراكش الحمراء، مدينة النخيل والسبعة رجال، مراكش البهجة، ألقاب عديدة لتلك المدينة الساحرة، الواقعة في جنوب وسط المغرب، والتي يرجع تاريخ تأسيسها لألف عام مضت، تجمع بين التقاليد والحداثة، وعلى الرغم من أنها ليست عاصمة المملكة المغربية إلا أنها أكثر مدنها شهرة، حيث استطاعت المحافظة على هويتها الثقافية من حيث مبانيها التي تتفرد بهندسة معمارية تمزج عدة ثقافات وجدرانها الحمراء التي أكسبتها اسمها الأسطوري، وأزقتها وأسواقها بألوانها وروائحها المختلفة، وفنانيها المتنقلين وعربات الخيول، فوضوية المدينة وأجواؤها الشاعرية جعلتها من أكثر المدن عالميًا غرابة وسحرًا، تجذب ملايين الزوار سنويًا من جميع أنحاء العالم.

 

وصلت إلى مراكش مساءً عن طريق مطار المنارة الدولي، وبعد إجراءات الوصول الروتينية وشراء شريحة هاتف، خرجت من المطار لأخذ تاكسي للذهاب إلى الفندق في المدينة القديمة، الذي كان عبارة عن «رياض»، وهي مبانٍ قديمة كان يسكنها تجار وأعيان المدينة تحولت إلى فنادق بعد ترميمها، وتتكون في الغالب من طابقين وغرف مطلة على فناء داخلي تتوسطه نافورة وبركة مياه وحديقة داخلية مصغرة مزروعة ببعض الأشجار، أشبه بقصر صغير يتميز بخلوه من النوافذ المطلة على الشارع، وذلك للحماية من أجواء المغرب الحارة صيفًا، وكذلك لتوفير نوع من الخصوصية لسكانه. 
وصلت الرياض الذي يقع داخل أزقة ومبانٍ متشابهة، جدرانها صماء بلا نوافذ، الهدوء يعم المكان، عامل الاستقبال يهمس بصوت خفيف، حيث إن الوقت كان متأخرًا والنزلاء نيام، أرشدني إلى غرفتي وانصرف. تجربة السكن في الرياض تجربة جديدة ولكن لم تناسبني إطلاقًا! فبعد دقائق من دخولي للغرفة وبينما كنت أتحدث في الهاتف طرق باب الغرفة، وإذا بعجوز فرنسية يبدو أنها في السبعين من العمر تقيم بالغرفة المجاورة لي طلبت مني التزام الهدوء عند الحديث في الهاتف! قررت في اليوم التالي الانتقال إلى فندق حديث في حي «جليز»، الذي يقع في شارع محمد الخامس والذي يعتبر من الأحياء الحديثة في مراكش، ويقع فيه العديد من المطاعم الأجنبية العالمية والمحلات والأسواق والعلامات التجارية الفارهة، فالسكن في مكان هادئ وغرفة لا تحتوي على تلفاز أو فندق لا يحتوي على خدمات غرف والتسلل إلى غرفتي ليلًا مثل اللص أمر لا يناسبني بالمرة! ولكن قد يكون المكان الأمثل للباحثين عن الهدوء والاسترخاء والتمتع بالأجواء المغربية الأصلية.  
 
ساحة جامع الفنا... روح مراكش 
تمتزج بمراكش الحضارة العربية الأندلسية والصحراء وغرب إفريقيا، التي يرجع تاريخ تأسيسها إلى عام 1062م على يد أبي بكر بن عمر اللمتوني زعيم وابن عم السلطان المرابطي يوسف بن تشافين، الذي نمت بعهده وأصبحت عاصمة لدولته كمركز ثقافي وديني وتجاري في المغرب، حيث بني العديد من المدارس والمساجد التي حملت طابعًا أندلسيًا ومبانٍ مختلفة شيدت من الحجر الرملي الأحمر الذي أكسب مراكش اسمها الأسطوري «المدينة الحمراء». 
وقد عرفت مراكش بهذا الاسم منذ العصور الوسطى حتى بداية القرن العشرين، حيث كان المغرب بأكمله يعرف بمملكة مراكش، ولايزال المغرب يعرف بهذا الاسم ليومنا هذا في اللغة الفارسية ولغة الأوردو. أما عن معنى الاسم فيقال إن كلمة «اموراكوش» تعني أرض الله باللغة الأمازيغية. 
بدأت رحلتي في مراكش بزيارة ساحة جامع الفنا، الساحة الأكثر ازدحامًا في إفريقيا والمكان الأكثر شهرة في المغرب، والتي تأسست في عام 1070م في عهد الدولة المرابطية بالقرن الخامس الهجري، حيث كانت مركزًا للتسوق، كما استخدمها الملوك كساحة لوقوف جيوشهم ولاستعداد قواتهم قبل الانطلاق لمعارك توحيد المدن المجاورة وحروب الاستقلال، ويقال إن أصل تسميتها نسبة إلى كلمة الفناء بمعنى الدمار أو الخراب، وذلك لاكتشاف أنقاض قصر الحجر المرابطي الذي اكتشفت أنقاضه تحت جامع الكتبية القريب من الساحة، حيث يؤكد الكثير من الباحثين، وفقًا لروايات تاريخية، على وجود جامع مدمر وسط هذه الساحة، وقد أدرجت الساحة في قائمة اليونيسكو للتراث العالمي في عام 2001م. هذا المكان الذي ظل محافظًا على طابعه التقليدي ولم يغزه التمدن ولم يؤثر على روحه الأصلية، مازال يمارس سحره على زواره، فالدكاكين والأزقة كما هي منذ تأسيس المدينة، حيث لا وجود للبنايات الزجاجية العالية الحديثة البشعة، كما تضم الساحة مجموعة من أكشاك بيع العصائر مصطفة في الوسط، وسوق مراكش القديم الذي يكتظ بالمحلات والباعة والبشر، وهو أكبر سوق شعبي في المغرب حيث يحتوي على العديد من السلع المختلفة، كما يوظف نسبة كبيرة من الحرفيين الذين يعتمدون على بيع منتجاتهم بشكل أساسي على السياح الذين يزورون المدينة بالملايين سنويًا. 

مزيج غريب وعجيب
التجول في الساحة متعة من نوع آخر، فهي مكتظة بالرجال والنساء المحليين يجوبون الساحة مرتدين الجلابة والبغلة المغربية الملونة، والسياح الأجانب بكاميراتهم، وسائقو الدراجات يجوبون الطرقات والأزقة بطريقة متداخلة وعشوائية، أصوات الباعة عالية، بائعو الخضار والفواكه والتوابل التي تم تشكيلها بشكل مخروطي، أكوام من الألوان والروائح، أصوات الموسيقيين الشعبيين تصدح في المكان، عازفو فن «الغناوة» النابض بالحياة يرقصون ويحركون رؤوسهم بطريقة دائرية، مرتدين طرابيش مطرزة بالقواقع البحرية، روائح الأطعمة والتوابل والزيتون والأحصنة تملأ المكان! محلات مختلفة تعرض البضائع، سجاجيد وجلود معلقة على الجدران، دجاج في أقفاص خشبية، حلاقو الشعر في وسط الساحة، نساء يوشمن الحنة على أيدي السياح، رواة القصص الشعبية، ومروضو أفاعي الكوبرا السوداء يجعلونها تتراقص على أنغام المزمار كأنه مشهد من فيلم هندي قديم، بجانب آكلي النار! مزيج غريب وعجيب وكأنك دخلت في مشهد من مشاهد فيلم علاء الدين! جميعها جعلت الساحة كمسرح ترفيهي مفتوح ضخم يزخم بالعديد من الأنشطة التي لا تجدها إلا في مراكش، ولكن يجب توخي الحذر وتجنب بعض الباعة الجشعين، وكذلك مروضي الأفاعي والقرود لأن صورة تذكارية مع قرد أجرب يعاني من اكتئاب حاد قد تكلفك 50 دولارًا! كذلك العازفون الذين يتحولون من طقوس الغناوة لطقوس دعاء وتسبيح، فيفاجئك العازف برفع يده ويقوم بالدعاء لك ولوالديك وصولًا لجدك السابع! ويطلب منك بعدها مبلغًا من المال حتى وإن قمت بإعطائه بعض الدراهم فسيطلب المزيد والمزيد، فالأفضل تجنب الاقتراب منهم ومن دعاء عازف الغناوة قدس الله سرّه. كما تحيط بالساحة مجموعة متنوعة من المطاعم التي تقدم الوجبات المغربية اللذيذة كالحريرة والطاجن والكسكس والبطبوط وشاي الأتاي مع الاستمتاع بمنظر يطل على الساحة من الأعلى، ومشاهدة الغروب حيث تدب الحياة في الساحة.   
على مقربة من الساحة يقع جامع الكتبية وهو من أبرز المعالم الإسلامية في المغرب، والذي اشتق اسمه من كلمة «الكتبيين»، وهو سوق لبيع الكتب يقال إنه كان في نفس موقع المسجد الحالي ويعود تاريخ تأسيسه إلى عام 1147م، حيث تم بناؤه من قبل الخليفة عبدالمؤمن بن علي الكومي على أنقاض قصر الحجر المرابطي، الذي يقع على مساحة 5300 متر مربع، ويعتبر من الجوامع المميزة بتصميمها ويتكون من 17 جناحًا موجهة نحو القبلة و11 قبة مزينة بالنقوش، كما يضم الجامع صومعة تطل شامخة على ساحة جامع الفنا بارتفاع 77 مترًا مبنية من الحجر الجيري على الطراز المعماري الأندلسي، ويمكن مشاهدتها من كل مكان في وسط مراكش تقريبًا، والتي تخضع لقانون يحظر بناء أي مبانٍ شاهقة أعلى من المئذنة، تصطف أمامها عربات «الكوتشي» الخضراء التي تجرها الخيول، وهي وسيلة نقل قديمة يعود تاريخها في مراكش إلى القرن التاسع عشر قدمت مع الجاليات الأجنبية التي استقرت في المدينة كالتجار البريطانيين، خاصة الذين كانوا يستخدمونها في تنقلاتهم إلى أن أصبحت بعد ذلك وسيلة لتنقل السياح في المدينة.

عمارة المغرب الفريدة
تزخر مراكش بوجود مجموعة من الجوامع والقصور التي تتميز بهندسة معمارية فريدة، منها قصر البديع الذي بُني من قبل السلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي، بعد انتصاره على البرتغاليين في معركة وادي المخازن عام 1578م، وتم بناؤه من مواد مستوردة من عدة بلدان، منها إيطاليا، حيث تم استيراد الرخام الإيطالي عالي الجودة والذي كان تتم مقايضته مقابل السكر المغربي وكان يكسو القصر، ولكن بعد سقوط سلالة السعيديين وصعود سلالة العلويين تم هدم القصر وتجريده من محتوياته ومن قطع الرخام في عام 1707م من قبل السلطان العلوي مولاي إسماعيل والذي أعاد استخدامها في مبانٍ أخرى ولبناء قصره في مكناس، أما اليوم فالقصر يعد مزارًا سياحيًا ثقافيًا، كما يقام فيه مهرجان مراكش للفنون الشعبية. 
ومن القصور التاريخية المهمة في المغرب قصر الباهية الذي يعود بناؤه إلى الدولة العلوية في عهد السلطان عبدالعزيز من قبل الوزير أحمد بن موسى مسير شؤون الدولة آنذاك، حيث جلب أمهر الصناع والحرفيين للقيام بأعمال البناء لمدة ست سنوات متتالية والذي أشرف على بنائه المهندس محمد بن المكي المسيوي، الذي تلقى فنون صناعة الخشب بمكناس وفنون النقش على الجبس في فاس، والذي يضم عدة أقسام وملحقات بالإضافة إلى متنزه وحديقة يتوسطها صهريج معروف باسم «اكدال با حماد»، حيث كان القصر يحتوي على مبانٍ مخصصة للوزير ولنسائه وللجواري بتصميم مميز، أروقة واسعة تعلوها أسقف خشبية مصنوعة من خشب الأرز مزخرفة بألوان زاهية، تم استخلاصها من مواد طبيعية، مثل الحنة والزعفران وقشر الرمان، وأبواب الغرف وتصاميمها المختلفة على الطراز العربي والأندلسي والأمازيغي، والحوائط المكسوة بالزليج المغربي، كما يتميز تصميم القصر بعدم وجود نوافذ تطل على الخارج إنما على الباحة الداخلية للقصر، على الحدائق ونوافير المياه، وتردد على القصر العديد من الشخصيات النافذة، حيث استقر به المدني الكلاوي أخ باشا مراكش التهامي الكلاوي كما أصبح مقرًا للمقيم العام الفرنسي الذي أضاف له المدفئات ومكيفات الهواء.
وبعد جولة في قصر الباهية اقترح علي سائق التاكسي زيارة مدرسة ابن يوسف التي كانت قد أعيد افتتاحها للتو أمام السياح في شهر أبريل من عام 2022، بعد إغلاق دام خمس سنوات للترميم وإعادة تأهيل المبنى بإشراف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في إطار برنامج إعادة ترميم وتأهيل المزارات السياحية في مدينة مراكش القديمة.
 وصلت إلى المدرسة حيث كان المدخل المؤدي لها بين أزقة مدينة مراكش القديمة، وتعد المدرسة التي تقع في قلب المدينة القديمة من أروع المباني ذات الهندسة المعمارية الباذخة في المغرب والتي يرجع تاريخ بنائها إلى سنة 1346م فترة حكم المرينيين، وقد جاءت تسمية المدرسة على اسم جامع ابن يوسف وهو السلطان المرابطي علي بن يوسف تاشفين المجاور للمدرسة والذي كان المسجد الرئيسي للمدينة. 
والمدرسة التاريخية تقع على مساحة 1680 مترًا مربعًا وظلت لسنوات طويلة مقصدًا للعلم والعلماء، حيث كان يقصدها الطلاب من جميع أنحاء المغرب، ولكن لم يكن الطلبة يتلقون دروسهم فيها إنما بمسجد ابن يوسف المجاور لها، حيث كانت المدرسة بمنزلة حي جامعي بالمفهوم المتعارف عليه اليوم لسكن الطلبة الذين كانوا يقيمون ويراجعون دروسهم فيها، وتعد المكان الأمثل للتعرف على الثقافة المغربية بمختلف أبعادها، حيث فنون العمارة المغاربية والهندسة المعمارية الباذخة، فالتجول بالمدرسة ومشاهدة تصميمها وفنائها الذي يزيّنه حوض مائي بنفاثتي مياه، والمشي بين أروقة وأجنحة المدرسة ومشاهدة الزخارف البديعة على جدرانها والكتابات القرآنية والأبيات الشعرية الملهمة، كان من بينها «متع جفونك في الحُسن البديع ترى سرًا عجبًا» مقولات وزخارف تذهل الزوار واستعمال الزليج بألوانه المتنوعة وأشكاله الهندسية وتقنياته المختلفة، وهو فن يعتمد على لصق حبات الفسيفساء برسومات هندسية بديعة، والذي يكسو جدران المدرسة والأعمدة والأرضيات والممرات المرصعة بالرخام الإيطالي، ولوحات الجبس المنقوش التي تزين واجهات الفناء وقاعة الصلاة، ومن المواد المستخدمة في بناء وتزيين المدرسة خشب أشجار الأرز، الذي تم جلبه من جبال الأطلس كما يتميز تصميم المدرسة الفريد بوجود فتحات في سقوف الممرات للتهوية والإنارة.

حدائق سرية خلف الأسوار 
عرفت مدينة مراكش بمدينة النخيل ولا عجب من وراء تلك التسمية، فالمدينة التي تعرف بوفرة نخيلها وبساتينها وحدائقها السرية التي تقبع داخل رياضاتها وسكناتها لقب يناسب تلك الأجواء، قصور المدينة القديمة وما تخفيه من حدائق تبرز الهندسة المعمارية المغاربية وجمالية فن الحدائق، ومن الحدائق المشهورة في المدينة حديقة ماجوريل التي عرفت عنها من خلال فيلم inventing anna الذي عرض على منصة نيتفلكس، وعلى الرغم من اللقطات القصيرة التي تم تصويرها في المكان إلا أنها كانت بمنزلة ترويج سياحي وقع تأثيره عليّ بسرعة، وما أن وصلت إلى مراكش حتى بحثت عن موقعها على الفور! وتعد الحديقة من أهم أماكن الجذب السياحي في المغرب، حيث تستقبل مئات السياح يوميًا وتحتوي على أنواع مختلفة من النباتات النادرة والصباريات، ويعود تصميم هذه الحديقة السحرية إلى المهندس والرسام الفرنسي (جاك ماجوريل) الذي صممها على طراز الفنون الأندلسية والفرنسية في عام 1924م، واستخدمها في البداية كمختبر نباتي حيث زرع فيها 135 نوعًا من النباتات الغريبة التي جلب عيناتها من قارات العالم الخمس، وبناء منزل على الطراز المغربي مع برج من الطوب، كما قام بتوسيع البناء ليشمل فيلا بالقرب من المنزل الأول، استخدم الطابق الأول منها كورشة عمل، أما الطابق الثاني فاستخدمه كمرسم وتم تحويل تلك البيوت إلى متاحف يمكن لزوار الحديقة دخولها. ظلت الحديقة لسنوات بحالة من الإهمال إلى أن قام مصمم الأزياء الفرنسي العالمي (إيف سان لوران) بشرائها وإعادة إحيائها مرة أخرى في عام 1980م، حيث قام بترميمها وإدخال أنواع جديدة من النباتات حتى وصل عددها إلى 300 نوع، منها أنواع نادرة من الصبار والنخيل وأشجار جوز الهند والموز والخيزران والزنابق والعديد من الزهور والنباتات التي تم استيرادها من دول العالم وأقام فيها مع شريكه حيث استلهم العديد من تصاميمه في هذا المكان الساحر. 
الحديقة أشبه بلوحة فنية سريالية، مبانٍ وكراسٍ وممرات من الأشجار المشذب بعناية فائقة وأحواض نباتات بألوان زاهية فاقعة بدرجات اللون الأزرق والأخضر والأصفر، ألوان مبهجة جريئة تسر الناظرين، نباتات غريبة وصباريات عملاقة يصل ارتفاع بعضها لأمتار، وبرك المياه تطفو على سطحها الزنابق الفاتنة، تصميم الحديقة ومبانيها يدلان على أن مصممها فنان ذو حس مرهف بامتياز! 
وبعد زيارة حديقة ماجوريل كان لابد من زيارة حديقة فريدة أخرى ألا وهي الحديقة السرية بحي (المواسين) بالمدينة القديمة، التي يعود تاريخ بنائها إلى عهد السلطان السعدي مولاي عبدالله الذي حكم خلال 1557-1574 قبل أن يتم إعادة تشييدها في أواسط القرن الواحد والعشرين من قبل أحد القادة الكبار بمنطقة أطلس لتصبح بعدها من الوجهات المفضلة للعديد من الشخصيات السياسية البارزة بالمغرب، والحديقة التي تقع خلف أسوار عالية على مساحة تقدر بـ4 آلاف متر مربع، والمستمد تصميم بنائها من الطابع المعماري الإسلامي الأندلسي، مكونة من جزأين، يتخذ كل منهما شكل رياض محاط بجدران عالية بلا نوافذ تتوسطه حديقة تتخللها أربع ممرات تلتقي عند نافورة من الرخام. وتتكون الحديقة السرية من مركبين مختلفين عن بعضهما البعض بشكل كبير، حيث إن كل واحد منهما يعتبر رياضًا قائمًا بذاته، فكلمة رياض في المغرب تشير إلى أي منزل سكني يوجد في مركزه بستان على عكس الدار، حيث إن هذه الأخيرة عبارة عن مسكن بأبعاد عادية تسمى بوسط الدار أو الساحة الوسطى، ولا تسمح بتواجد الأشجار، بينما في الرياض نجد أسوارًا عالية بلا نوافذ ليأخذ بين أحضانه حجمًا مستطيلًا حول بستان واسع مقسم إلى أربعة أحواض، يتقاطع فيها ممران مرتفعان، وتوجد في وسطه نافورة أو كما هي الحال في الحديقة.

مهام غامضة
كما تحتوي الحديقة على برج يصل ارتفاعه إلى 17 مترًا يعلوه قرميد أخضر من المؤكد أنه كان يحظى بمهمة رمزية، حيث إنه يقف شامخًا فوق المدينة، ويعكس ثروة وسلطة مالك الرياض، إلا أن هذه المهام الفعلية للبرج تظل غامضة، وما إذا كانت تستخدم كشرفة أو كبرج مراقبة، ويمكن للزوار الصعود لسطح البرج ومشاهدة المدينة من الأعلى بمنظر بانورامي رائع.
وتتميز الحديقة بتوافر منبع مائي في الوسط يغذي الأحواض والنوافير، وتصل تلك المياه من سلسلة جبال الأطلس، حيث تصل إلى مراكش بواسطة الجاذبية، ولأهمية الماء وشحه في المدينة ابتكر المرابطون أول خطارة هندسة نقل المياه بإنجاز بالمدينة وهي تقنية تتألف من أروقة جوفية، بحيث يتم جلب الماء من جبال أطلس، ثم يتم بعد ذلك توزيعه في المدينة، ثم جاء الموحدون وشجعوا تطوير هذه البنية التحتية بحيث جعلوا من مراكش «عاصمة المياه الخفية»، فانطلاقًا من الأحواض الكبرى لتجميع المياه تم جلب الماء بواسطة قنوات مانعة للتسرب للمساجد والحمامات والنوافير داخل المدينة، وكان هذا الماء أيضًا يزود بعض الإقامات الكبرى التي نجد من بينها الحديقة السرية التي كانت تتوافر على المياه المنزلية، وتحظى بامتياز فريد من نوعه، وبعلامة من علامات الرفاه والغنى.
كما يلعب الماء أهمية روحية كبرى في العالم الإسلامي، وتشهد على ذلك طقوس الوضوء التي يمارسها المسلمون قبل الصلاة. وقد تعرض الرياض للإهمال لسنوات طويلة واختفت الأشجار منه عندما تم تقسيم ممتلكات الحاج محمد الكريسي حاجب السلطان مولاي عبدالحفيظ في عام 1930، إلا أن في عام 2006 تم حيازة المكان من قبل مجموعة من رجال الأعمال، وعندها بدأت رحلة إحياء هذا البيت التاريخي وإزالة جميع الشوائب والركام شيئًا فشيئًا، واستمرت عمليات الترميم التي شملت جهود العديد من العمال والحرفيين والمهندسين المعماريين وعلماء الآثار، فتم تجديد الأبنية والنظام الهيدروليكي القديم للقصر، وإعادة زراعة الحديقة بالكامل حتى أصبح المكان من أجمل الرياضات بمدينة مراكش، وافتتحت للزوار لأول مرة في عام 2016 بالإضافة إلى افتتاح قاعات تحكي تاريخ المكان بعرض صور لعمليات الترميم وصور تاريخية للأشخاص الذين أقاموا فيه ومجسم مصغر للمبنى. 
ولعل وأبرز ما يميز الحديقة السرية عن حديقة ماجوريل هو وقوعها في قلب المدينة القديمة لمراكش على الطراز المغربي الأندلسي الأصيل على خلاف ماجوريل التي تم إعدادها وفق تصميم غربي بنباتات مستوردة من الخارج، أما عن سبب تسميتها بالحديقة السرية فيعود لرجل الأعمال الإيطالي لاورو ميلان الذي جاء لمراكش للعمل في مجال العقارات في عام 2003 بعد أن اقترح عليه أحد الوسطاء اقتناء هذا الرياض، حيث لم يكن أحد يعرف بوجود هذا المكان السري الذي يخفف من الضجيج الخارجي للمدينة، حيث ظلال الأشجار وخرير المياه وعطر الزهور، مكان يشجع على التأمل ومشاهدة جمال المعمار الأندلسي الإسلامي.  

«أوريكا» الساحرة وزيت الأرغان
بعد التجول في مراكش وزيارة أغلب معالمها السياحية اقترح علي صديق مغربي الابتعاد عن صخب المدينة والاستمتاع قليلًا بطبيعة المغرب الخلابة بزيارة قرية (أوريكا) والتي تبعد حوالي 40 كم من مركز مراكش، والمنطقة عبارة عن متنزه طبيعي يتميز بإطلالة رائعة على جبال الأطلس وشلالات مياه وهضاب خضراء غنية بالمزروعات، بالإضافة إلى نهر يصل طوله إلى حوالي 100 كم. في الطريق إلى أوريكا مررنا على أشجار الأرغان التي كانت متناثرة على طول الطريق وتعلو أغصانها الماعز الذي يتغذى على ثمارها، توقفنا لزيارة أحد المعامل لصناعة زيت الأرغان، الذي يدار من قبل جمعية نسائية تعنى بالمطلقات والأرامل حيث توفر لهن عملا في صناعة زيوت الأرغان. عند دخولنا إلى المعمل استقبلتنا العاملات بالترحيب وهن يباشرن عملهن بعصر لوز الأرغان باستخدام «الرحى» على الطريقة المغربية!
 في الحديث مع إحدى العاملات وتدعى السيدة حنان الخليلي عن نشاط الجمعية والمنتجات التي يصنعونها قالت إنهم يقومون بإنتاج العديد من أنواع الشاي بالأعشاب التي تزرع في المناطق القريبة والتوابل، ومنها «رأس الحانوت» المغربي المكون من 35 نوعًا من البهارات، كما يتم إنتاج بعض الزيوت العلاجية والكريستال المصنوع من النعناع البري الذي تتم إضافته للشاي أو الماء الساخن، ويستخدم كعلاج فعال للجيوب الأنفية والسعال. بجانب صنع الأصباغ والألوان الطبيعية التي تستخلص من الصخور الجبلية والتي يتم استخدامها في صبغ الملابس والصوف وفي رسم اللوحات الفنية. ولكن اعتماد الجمعية الأساسي فهو على إنتاج وتصنيع زيت ثمرة الأرغان، أما عن طريقة تحضير ذلك الزيت الأشبه بالذهب السائل للمغرب فأضافت الخليلي أن الخطوة الأولى لصناعته هي تقشير الثمرة إما يدويًا أو عن طريق حيوانات الماعز التي تأكل الثمار، ويتم بعد ذلك جمعها من فضلاتها وغسلها وتنظيفها جيدًا وتحميصها على النار إذا كان الزيت سيستخدم للأكل، أما إذا كان لصناعة مستحضرات التجميل، فيتم عصر الثمار من دون تحميص لاستخلاص الزيت منها، كما يتم استخدام العجينة الناتجة عن العصر لصناعة الصابون وأقنعة الوجه التجميلية والقشور، يتم استخدامها كعلف للماشية أو لإشعال النار للتدفئة خلال موسم الشتاء. أما عن سر شعبية الأرغان والطلب المتزايد عليه عالميًا فذكرت الخليلي أن زيت الأرغان يحتوي على العديد من العناصر الغذائية المهمة كالأحماض الدهنية ونسب عالية من الأوميجا التي تساعد على خفض مستويات الكوليسترول الضار ومضادات الأكسدة التي تعزز جهاز المناعة بالإضافة لاحتوائه على فيتامين (E) المفيد لصحة الجلد والشعر والعين، ويكافح ظهور علامات الشيخوخة وتساقط الشعر بجانب استعماله لعلاج الأكزيما والروماتيزم وعلاج مشكلة البثور وحب الشباب، كما يدخل الأرغان في الطهي وفي إعداد بعض الأطباق المغربية الشعبية كطبق «أملو»، وهو خليط من زيت الأرغان يضاف إليه العسل وزبدة الفول السوداني ويعتبر من الأطعمة الأساسية في وجبة الإفطار المغربي، ويتم تناوله مع الخبز. 
واصلنا طريقنا إلى أوريكا وكنا نشاهد جبال الأطلس وقممها المشعة من الثلوج من كل الجهات، النهر ومياهه الباردة تسيل وسط تلك الجبال التي تحتضنها، تقدم إلى السيارة طفل من سكان القرى المجاورة حاملًا بيديه زهورًا حمراء من نوع شقائق النعمان قدمها لنا بابتسامة. حذرنا سائقنا المرافق عند لمسها لسمّيتها والتي يستخدمها المزارعون لتسميم الخنازير البرية التي تهاجم محاصيلهم الزراعية، حيث تعرف المنطقة بوجود العديد من المزارع التي تزود مراكش بالخضراوات، وفي سؤالي لمرافقنا عن معنى كلمة أوريكا قال إن التسمية تعود لفترة عهد المرابطين ومشتقة من «الأريكة» التي يستريح عليها الإنسان ويستمتع، ويتكون نهر أوريكا من عدة روافد، أهمها «ستي فاطمة» وروافد أخرى تتكون في مواسم هطول الأمطار، ويعتبر من الأنهار الدائمة الجريان طوال السنة والتي يعتمد عليها السكان اعتمادًا تامًا في حياتهم اليومية في سقي محاصيلهم الزراعية وغسل الأواني والثياب. يذكر أن النهر يمر عبر عدد كبير من قرى المنطقة ويعيش على ضفافه مجموعة من السكان المحليين من الأمازيغ الذين يعتمدون في معيشتهم على الزراعة والسياحة كما يعمل بعضهم في الأعمال الحرفية كالحدادة والنجارة وصناعة الفخاريات والسجاد والملابس.
تجولنا مشيًا برفقة أحد السكان المحليين لمشاهدة نمط الحياة الجبلية التقليدية وإلى منطقة وسط الجبال للوصول إلى منطقة الشلالات، كان الطريق وعرًا ويحتاج حذاءً مناسبًا ولياقة بدنية لتسلق الصخور والمشي بحذر من خطر الانزلاق. مررنا على بعض المحلات التي تبيع منتجات تقليدية كزيوت الأرغان والأعشاب الطبية التي تشتهر بها أوريكا، والسجاد والملابس المصنوعة من الصوف المحاك يدويًا، وغيرها من محلات تحتوي على صناعات محلية وحلي نسائية شعبية يتهافت السياح الأجانب لشرائها كتذكارات، ومشاهدة القرى الأمازيغية المتناثرة على الجبال. صادفنا بعض النساء المحليات وهن يغسلن ملابسهن على ضفة النهر وبعض الرعاة مع ماشيتهم في هواء نقي ومنعش، واصلنا مسيرنا حتى وصلنا إلى الشلالات، وبعد ذلك المجهود البدني كان لابد من تناول وجبة دسمة، وكان ذلك في أحد المطاعم على ضفة النهر بمحاذاة مجرى الماء، تناولنا الطاجن المغربي وخبز أوريكا الذي يمتاز بطعم مميز، حيث يتم مزجه بمجموعة من أعشاب الوادي التي تكسبه نكهة ورائحة مميزة، والذي يتم طهوه في أفران تقليدية على الحطب. خلال تناولنا للطعام قدمت - فرقة موسيقية مكونة من رجال يعزفون فنًا فلكلوريًا تقليدياً- إحدى الأغاني الشعبية ■