الجغرافي الكندي إميل ميلر في جولة سياحية استطلاعية بالغرب الكندي

الجغرافي الكندي إميل ميلر  في جولة سياحية استطلاعية بالغرب الكندي

 شكّلت الكتابة في الأدب الجغرافي والرحلات بكندا في نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، تزايدًا واضحًا، ومع تطور الحركة العلمية، وازدهار الجامعات، نحا الكتاب نحو التأليف العلمي، الموسوعي للرحلة، أي تضمين الرحلة الأدبية معارف، وعلوم الحياة العصرية، ومن الذين تصدوا لهذه المهمة التثقيفية لفئة الأطفال والشباب على الخصوص كاتبُنا إميل ميلر (Emile Miller)، مؤلف رحلة حول العالم، نشرها بعد الرجوع إلى الوطن بسنوات في حلقات بمجلة «العصفور الأزرق» (LOiseau bleu) سنة 1921، وكان عمله وأعمال أخرى له بدايةَ الكتابة في الأدب الجغرافي، والوثائقيات الموجهة للصغار، والشباب، تدعيمًا للكتب المدرسية، ولمكتبات المدارس والبلديات، بإغنائها بمراجع مبسطة تعتمد على تقنيات سردية فنية مشوقة؛ لتثقيف تلك الفئة بعلوم العصر، وبالجغرافيا والتاريخ خصوصًا، الذين رأى إميل ميلر ضرورة النهوض بهما لتطوير كندا. 

 

إميل ميلر من مواليد عام 1890 ببلدة سان بلاسيد بكيبيك الكندية، كان والداه تيوفيل، وإليونور لادوسور كنديين من أصول فرنسية، عرف إميل بالتزامه بالدراسة، وحبه للمطالعة، مع روح طيبة محبة لدينه ووطنه، وقد أتيحت له فرصة الرحلة حول العالم، وهي التي أنجزها مع والده ورفقاء آخرين، بعد وفاة والدته، ابتداء من شهر مايو من عام 1903 ودامت 14 شهرًا.
وجه إميل ميلر عنايته بعلم الجغرافيا والتاريخ بعد عودته إلى مونتريال، ونشط في التدريس الابتدائي، فألف كتيبات موجهة للأطفال، منها: «الألبوم العالمي المصوّر»، و«شعار البلدية»، وعمل على إصدار مجلة للشباب بعنوان: «العصفور الأزرق» عام 1921، وهي التي كان فيها ميلر أوّل كندي يكتب عن الجغرافيا والعلوم التقنية للصغار والشباب، وبالتالي كان مؤسسَ التأليف الوثائقي الموجه للطفل في كندا، أما مؤلفاته فقد كانت قيّمة تجديدية، نالت شهرة بين جمهور القراء والأكاديميين في كندا، منها كتابه: «أراض وشعوب كندا»، الذي طبع اثنتي عشرة طبعة، وكتابه «حتى نحبّ الجغرافيا»، غير أن ميلر في دعوته لدراسة الإنسان والأرض في كندا كان منحازًا في عصبية عرقية وطنية شديدة إلى الإنسان ذي الأصول الفرنسية تحديدًا، ومدافعًا عن استمرارية وجوده في المنطقة، مع تعزيز توسعه فيها على حساب الإنسان الكندي الأصلي (الهنود الحمر)، والإنسان الإنجليزي، أو الإيرلندي، والألماني، والبلجيكي، والهولندي،... وغيرهم من الأوربيين.
توفي إميل ميلر غرقًا عام 1922 في مياه سان لوران، وهو يحاول إنقاذ ابنه من الغرق، تاركًا بعده أطفالًا وزوجة (ألبرتين مايي)، وهي التي قامت بنشر جميع أعماله المخطوطة، بمساعدة أستاذه وصديقه ديسروزيي، منها كتابه - موضوع مقالنا - «رحلتي حول العالم»  الذي نشرته زوجته في مونتريال بعد عام من وفاته. 

التعريف برحلة إميل ميلر حول العالم
اشتمل كتاب «رحلتي حول العالم» لإميل ميلر على ثلاثة عشر قسمًا، منها سبعة أقسام جرت أحداثها داخل الحدود الكندية، وتركزت على السياحة والتجوال في المدن والقرى الغربية، وهي متنوعة ما بين السير بالقطار، أو العربات في البر، والإبحار بمراكب في أنهار البلاد الداخلية، بينما تضمنت الأقسام الستة الأخرى أحداث الرحلة من كولومبيا البريطانية عبر المحيط الهادئ إلى اليابان، والصين، والفلبين، والهند، كما استطاع زيارة أفغانستان، وفارس، وسورية، وفلسطين، وصولاً إلى مصر، ومنها تغيٍّر مسار الرحلة، وأصبحت الوجهة البحر الأبيض المتوسط نحو إيطاليا، وعبر القطار أكمل ميلر سفره إلى سويسرا ثم فرنسا، وإنجلترا التي كان العبور إليها بحرًا، ليكون الرجوع من ليفربول إلى مونتريال عبر المحيط الأطلسي.
ويمكن عد رحلة إميل مزدوجة الغاية والهدف، سياحية وعلمية في آن واحد، فهي سياحية بالنسبة لميلر الذي كان عمره اثني عشر عامًا، عندما اصطحبه والده تيوفيل في رحلته تلك، لكنها علمية بالنسبة لوالد إميل ورفقائه الذين كلفتهم الحكومة الكندية بإنجاز رحلة لجمع معلومات علمية، جغرافية وطبيعية وعمرانية عن المدن والطرق، والسكان، والغطاء النباتي، ولذلك تضمنت البعثة الوالد المختص في التاريخ والديانات، وجين برنارد (Jean Bernard) عالم في الطبيعة، ولويس سيفيران (Louis Séverin) مهندس، وأوكتاف لوبران (Octave Lebrin) رسام، وهم المرافقون الذين كثيرًا ما اعتمد إميل ميلر عليهم، في تقديمه للمعلومات المرتبطة بالبلدان التي شملتها الرحلة، تدعيمًا لما دونه في سجل مذكراته من مشاهدات وانطباعات، وتجارب شخصية. 
 
مسار الرحلة في الغرب الكندي
كان الانطلاق من محطة القطار ويندسور في الثامن من شهر مايو عام 1903، في اتجاه الغرب الكندي، مرورا بمراحل صغيرة مثل (لاشين)، وبليدة سانت آن دو بال فو، التي منها كانت المغادرة إلى جزيرة مونتريال للشروع في عبور الطريق نحو الغرب على الضفة اليمنى من نهر أوتاوي بالقطار السريع في أكثر المراحل، وبالعبّارة في بعضها، وفي هذا الطريق كان المرور على بلدة ريغو، وقرية بوانت فورتون الصغيرة والهادئة، ومدينة كاديون، المتصلة بأوتاوا (Ottawa) عاصمة الكونفدرالية الكندية؛ ومدينة كينغستون، وبحيرة أونتاريو، وقبالتها أرخبيل جزر الألف، ثم السير نحو تورنتو (Torento) عاصمة مقاطعة أونتاريو، وفي اتجاه الغرب دائمًا قام الرحالون بجولة مطولة في أنهار المنطقة مرورًا بشلالات نياجارا المذهلة.
كما زار الرحال ورفقاؤه مدنا كثيرة متقاربة منها: ميناء كولبورن، وقناة ويلان المساعدة على الإبحار في نهر إيري (Erié)، وتظهر في هذه المنطقة جزيرة بيلي، التي تعد حظيرة طبيعية للنباتات والحيوانات المهاجرة، ثم مدينة ديترويت، وهي على الحدود الأمريكية - الكندية، ودولوث، ونهر هورون، ثم جزيرتا: مانيتولين، وسولت سانت ماري، التي يسميها الأمريكيون (The Soo)، والرحلة في هذه الجزر كانت بالنسبة للرحالين ممتعة.
استمرت الرحلة عبر المروج الخلابة في منطقة أونتاريو، في اتجاه كولومبيا البريطانية، وتتوسط هذه الطريق بحيرات كبيرة حلوة المياه، وطرق مرتفعة وصعبة، سميت بطريق البقر الوحشي، الذي كان في المنطقة لكن الصيد الذي مارسه الهنود لعهود - حسب ادّعاء ميلر- تسبب في انقراضه منها، وهذا من الخطابات غير البريئة والتي تنسب للهنود الحمر وللسكان الأصليين كل فعل مشين غير حضاري، يجعل من إبادتهم، والسطو على بلدانهم أمرًا مشروعًا، وضروريًا، بل ومقدسًا يستدعيه إخلاصهم لدينهم.

خطاب الرحلة بين الدقة العلمية والتحيز الذاتي
حرص إميل ميلر في رحلته على الإفادة بعد الإمتاع، فقدّم معلومات عامة، مناسبة لمستوى قرائه الصغار، فكان وصفه للطريق وما فيها: من قرى ومدن، وأنهار وبحار، وسكان يمزج بين الجغرافيا، والسياحة، والتاريخ في بعض المواضع العريقة القديمة، أو المدن التي ارتبطت بها أحداث تاريخية بارزة في البلاد، لكنه ضمّن تلك الأخبار رسائل، وأحكام ذاتية انطباعية، تعكس تحيّز الرحال للعرق الفرنسي في كندا، وعدائه لسكان البلاد الأصليين.
ومن الفوائد الجغرافية العامة، ما أخبر به عن قرية بوانت فورتون الصغيرة والهادئة، لكنها ذات أهمية للرحالين في المنطقة، لأنها موضع مغادرة القطار، وعبور نهر أوتاوي، في مسافة تقدر بحوالي 800 متر، مرورًا على منحدرات تسمى «كاريون» في مدينة (كاديون)  (Cadillon) أعجب إميل بمشاهدتها، وبحركة المياه فيها. 
وبعد مدينة كاديون، أشار إميل إلى وجود العديد من التجمعات السكانية التي لاحظ أن ألقاب سكانها إنجليزية على الرغم من أنهم كانوا فرنسيين، لكنه أفاد بأن الأمر تغير في وقت كتابة الرحلة، حيث استبدلوا الأسماء الإنجليزية بأخرى فرنسية، وكان إميل كعادته في وطنيته إلى حد التعصب فرحًا، معتزًا بهذا التغيير معلقًا بقوله: «نتمنى أن نستمر في فرنسة أسماء الأماكن كذلك، في وادي أوتاوا المثير للاهتمام، والذي كان شاهدًا على تضحيات شعبنا في غزو هذا البلد». 
توقف إميل مطولاً في وصف مدينة أوتاوا نقلاً عن والده تيوفيل، فأخبرنا بأن المدينة جديرة بأن تكون عاصمة هذه البلاد الفتية، نظرًا لما تكتسيه الهندسة المعمارية للفندق الحكومي، والمباني المجاورة له من نبل، وفخامة، وقد أعجب إميل بمتحف فكتوريا، الذي مكنه من مشاهدة جميع حيوانات كندا، منها الدب القطبي، والفقمة، والحيوانات ذات الفراء التي شكلت مصدر ثروة للكثير من التجار في الماضي، وليست المباني بهندستها المعمارية المميزة ما يعطي المدينة قيمة فحسب، وإنما هي كذلك تزخر بذكريات، وصروح بارزة في التاريخ، منها قناة ريدو (Rideau)، التي سميت كذلك لأنها كانت تمر على نهر أوتاوي محدثة شلالاً يشبه ستار النافذة، وتحتفظ المنطقة بذكريات زيارة الرحالة شامبلين لها عام 1611.
ولكن أوتاوا كانت في الماضي قرية بسيطة، وممرًا نحو الجهة الشمالية من منطقة أوتاوي، التي كان الرجال يقصدونها للعمل في المصانع، والمزارع، وتدريجيًا تطورت القرية بعد 1824، حين قام باي (By) أحد المهندسين العسكريين ببناء قناة تربط بين القرية وكينغستون المجاورة، عبر نهر تتشكل فيه مصبات وشلالات ريدو المذكورة، والتي أسهمت في ازدهار صناعة الورق وأعواد الكبريت، وسميت القرية إثر ذلك (باي تاون)، ولكن الملكة البريطانية فكتوريا حولت اسمها إلى أوتاوا، وجعلتها عاصمة البلاد الجديدة، وقد عزم إميل على تكريس وقت كاف للإحاطة بتاريخ أوتاوا وطبيعتها، بعد الرجوع إلى الوطن. 
أما تورنتو فوصفها بأنها عاصمة مقاطعة أونتاريو، ذات ميناء واسع، وشوارع أنيقة، مصطفة على جوانبها الأشجار، وهي متطورة بمبانيها الفخمة وبجامعتها، ومؤسساتها المالية، ومستشفياتها، ومكتبتها الغنية.
وفي قرية هورون في الجنوب الغربي عبّر ميلر عن إعجابه بأطفالها فرنسيي اللسان والأخلاق، واغتنم الفرصة ليمرر خطاب الاعتزاز والفخر بجنسه؛ فعبّر عن إعجابه بالأطفال من الجنس الفرنسي قائلاً: «يتمتع الأطفال بشكل خاص بحسن الكلام، واللطف، وهو الذي يتمناه أصدقائي الصغار في موطني الأصلي». 
وعن سولت سانت ماري، يفيد إميل أنها معروفة بمناجمها الغنية، وقناتها النشيطة، بها تجارة مهمة للقمح، وقد رأى والد إميل أن التجارة في نهر سولت أنشط وأكبر من التجارة في قناة السويس المصرية، التي تربط بين محيطين (بحرين الأبيض المتوسط والأحمر)، أو بين عالمين. 
أما في بحيرة الخشب (Lac des bois)، فقد سرد الرحال أسطورة كان يرددها الهنود الأمريكيون ارتبطت بمجزرة وصفها ميلر بأنها كبيرة، وقعت عام 1736، قتل فيها الهنودُ سبعة عشر مستكشفًا فرنسيًا، ولذلك أصبحت الجزيرة - حسب الهنود - مخيفة، لا يدخلها أي منهم، لأن روح (ماتشي مانيتو) الشريرة سكنتها، لكن إميل ومرافقوه لم يكترثوا بما أشيع حول المكان، وقضوا ليلة في الجزيرة دون خوف، مسترجعين ذكريات وجود الفرنسيين المقتولين فيها، وعند مغادرة إميل المكان عبّر قائلاً: «وداعًا أيتها البحيرة الساحرة، المليئة بالذكريات المجيدة، حيث سينتهي عهد ماتشي مانيتو قريبًا ليحل عهد البطولة المسيحية». وهو تفاؤل بقرب القضاء نهائيًا على وجود الهنود في المنطقة، وهيمنة الفرنسيين عليها.
وفي الموضوع ذاته يتذكر إميل ميلر قصة بائع الفراء (Cadieux)، الذي ضحى بحياته لإنقاذ أهل قرية بتي روشيه، أي الصخرة الصغيرة من الإيروكوا المتوحشين والبربريين - بتعبير إميل - وتأتي المرثية بلسان البطل نفسه، إذ بقي وحده في القرية، وحفر قبره، واستلقى فيه حتى الموت، تاركًا قصيدة مدونة على لحاء شجرة، ومنها هذه الأبيات:  
بتي روشيه الجبل العالي
أتيت أنهي هنا حملتي 
آه! أصداء ناعمة، اسمع تنهداتي
أنا أذبل، قريبًا يحين موتي...  
أما المدينة الواقعة أقصى الغرب الكندي، وهي فكتوريا البريطانية فهي تتميز بغناها بالجبال، وبتنوع نباتاتها البرية، والمزروعة، وتطورها العمراني، كما تشتهر فيكتوريا بواديها فرازر (Frazer)، وفيه تستقر مصانع السلمون، التي كانت تصدر منتجاتها إلى شرق كندا، وحتى أستراليا، وإنجلترا، كما لاحظ إميل كثرة اليابانيين المهاجرين فيها، لسهولة الإبحار من اليابان إليها. 
ولا نعدم في رحلة إميل الحس الفني الأدبي؛ حيث أدرج مقاطع شعرية، وحكايات شعبية، وخرافات، وأغاني البطولة كلها ضمن لغة أنيقة، تعبيرية، عكست مشاعر الكاتب الرحال المختلفة من إعجاب وفرح، وأسف وألم، كما ضمّن رحلته رسومًا وصورًا وفّرها له كل من مرافقه لوبرا، وحكومة كيبيك، ووكالة كوك الإنجليزية، التي عرفت آنذاك بتنظيم رحلات سياحية حول العالم.
في الأخير، نخلص إلى أن رحلة إميل ميلر بدأت دون هدف واضح، لكون الكاتب أنجزها وهو صغير في السن، وكان مرافقًا لوالده فحسب، لكن سعي ميلر للكتابة عنها بعد سنوات، أكسبها الغاية العلمية التعليمية، وهي توعية القراء الشباب بأهمية الجغرافيا الحية التجريبية، وعدم الفصل بينها وبين التاريخ، والنهوض بالكتابات العلمية المعرّفة بالوطن الكندي، وبالإنجازات التي حققتها كندا الفرنسية خصوصًا، ولذلك حرص ميلر على إضاءة جميع مراحل تجواله في بلاده، وتبيان جمال البلاد الطبيعي، والاعتزاز بتطور الصناعة والفلاحة والتجارة فيها، لكن هذه الرحلة لم تسلم من الخطابات العنصرية المناهضة للسكان الأصليين، ولكل خصوم فرنسا في كندا، ولذلك كثيرًا ما تعرض إميل بالإساءة والتشويه للهنود، مقابل ذلك سكت عن جرائم الاستعباد والإبادة التي ارتكبتها القوات الاستعمارية الفرنسية والإنجليزية ضدهم ■