بيتر بروك أسطورة المسرح المعاصر

بيتر بروك أسطورة المسرح المعاصر

لكل بلد أساطيره ولكل فن وإبداع أساطينه ولكل عصر أساطيره وأسطورة هذا العصر في الدراما المسرحية الخارجة من رحم الأساطير هو المدون والمخرج والمنظر والكاتب المسرحي البريطاني «بيتر بروك» صاحب الشهرة العالمية الكبيرة، الذي رحل عن عمر يناهز السابعة والتسعين، والذي مضى عام كامل على رحيله بعد حياة طويلة أمضاها في البحث والتنظير والتنقيب في الدراما المسرحية، التي وصلت تجربته معها وخبرته بها إلى ما يقرب من ثمانية عقود. 

 

من أهم مميزات تجربة بيتر بروك الإبداعية الطويلة أنها اقترنت بالتدوين الذي وظفه لعرض رؤاه وتسجيل أفكاره واختبار أساليبه المسرحية المبتكرة والمدهشة والتي احتفلت بها أغلب المؤسسات الثقافية والأكاديميات الفنية بالعالم، وهو ما يعني إيمان جموع المسرحيين في العالم به وبقدراته وتصديقهم له كفنان عالمي مبتكر ومجدد. وكان بيتر بروك يطالع متابعيه دائمًا بما خلص إليه من نتائج وما اختبره من أساليب، وكان النموذج المعلم رقم واحد في العالم لمن أراد التجريب والتجديد، وقد أضفى بيتر بروك على مسيرته الإبداعية مزيدًا من الإثارة والأهمية عندما تراجع في الربع الأخير من حياته عن كثير مما كان قد أعلن إيمانه المطلق به من ممارسات وقناعات وقواعد ونظريات تختص بممارسة الأنشطة المسرحية.
انتقد بيتر بروك نفسه بنفسه على ما لقنه للناس من معارف وأفكار، ولا شك أنه صدم بتراجعه الجميع، ولكنه بهذا التراجع أكد شجاعته الأدبية وأكسب تجربته الفنية الإبداعية مزيدًا من الإنسانية والحقيقية كونها تجربة بشرية قابلة للنقد والإخفاق والفشل بعد النجاح، وأنه مثل كل الناس اختبر القصور رغم الوصول، وتجلت شجاعته الأدبية في نقده لنفسه بنفسه على كافة النجاحات التي ترتبت على تجواله في إفريقيا وأوربا، وكانت له إخفاقات وإنجازت، إذ كان مغامرًا ومبادرًا ففكر مرة أن يشرك ممثلين من جنسيات مختلفة بالعالم بعرض مسرحي واحد، منتصرًا بقصد أو من دون، لفكرة أن الناس بالأرض جميعًا من نفس واحدة، وبالإضافة إلى ذلك حقق بروك تنوعًا غير مسبوق في أساليب وعناصر عرضه المسرحي، واشتغل على أدواته في الكتابة والإخراج طويلًا، لكي تكون عروضه متباينة وتجاربه المسرحية مهمة ومتنوعة، فكان له ما أراد من تفوق وحضور ونجاح.
آخر ظهور مسرحي لبيتر بروك رصده الإعلام كان في باريس عندما شارك في تدريب طلاب مسرح فرنسيين على فنون تطوير أدوات الفنان المسرحي من خلال تجربته التي شيدها بنفس المكان قبل نصف قرن من الزمان، كان ذلك إبان الهدنة الأولى التي اقتنصها العالم من وباء الكورونا منتصف سبتمبر عام 2020م وفيها أشرف بروك على إعادة مسرحية «العاصفة» لوليم شكسبير بعدما أوقف طلاب مسرح باريس على تفاصيل ومعالم تجربته السابقة التي كانت في ذات الموقع على نفس العرض، والتي جمع لها حينذاك ممثلين من فرنسا وإيران واليابان، ودوّن في مؤلفاته حيثيات الطريقة التي أدار بها التجربة وما تطلبته من تحضيرات وتدريبات وورش تمثيلية استغرقت شهورًا من العمل الجاد والتدريب الجسدي، قبل أن يسمح لأحد من فريق العمل بأن ينطق كلمة واحدة من النص الشكسبيري المزمع تقديمه، وفي محاضراته الأخيرة تكلم بروك عن تجاربه القديمة ورؤاه الحديثة.

الحنين إلى المسرح
أما تجربة بيتر بروك في باريس فترجع إلى عام 1970م عندما أسند إليه تأسيس مركز للبحوث المسرحية في باريس، والذي قدم من خلاله مسرحية «تيمون الأثيني عام 1974»، ثم مسرحية (IKS) عام 1975، ومسرحية «العين بالعين» عام 1978، وفي عام 1979م، ابتعد بيتر بروك عن المسرح قليلًا ليخرج فيلمًا سينمائيًا بعنوان «لقاء مع رجال رائعين»، إلا أنه بالرغم من ابتعاده عن المسرح لاحظ النقاد أن أفلامه السينمائية بدأت هي نفسها تعكس حبه للمسرح وحنينه إليه وتقديره الكبير للتقاليد المسرحية، مما دفعه إلى العودة مجددًا إلى المسرح ليقدم تجارب جديدة، مثل «مأساة كارمن» عام 1983م، وعرض رائد في التصوف بعنوان «مؤتمر العصافير» لجلال الدين العطار 1985م، و«بستان الكرز» 1988م، و«من هناك» المأخوذة عن نصوص كل من «أنتونان آرتو»، و«برتولد بريخت» و«جوردن كريك»، و«ماير هولد»، و«ستانسلافسكي»، وأخرج بروك أيضًا مسرحية «مأساة هاملت» عام 2002م، والواقع أنه في مطلع تجربته المسرحية كان متأثرًا بالمسرح وتحدث مرارًا عن قيادته لأول تدريب على الحركة المسرحية عندما ذهب جاهزًا بتخطيط أولي لكل حركات المسرحية، واكتشف بعد قليل أن هذه الطريقة سابقة التجهيز والتي تستخدم في تقطيع المشاهد السينمائية، لا تناسب تدريبات المسرح، ولذلك جنب النسخة المخططة وراح يرتجل بمساعدة الممثلين ووفقًا لأحاسيس المشاركين حركة المسرحية.
دوّن بروك نظرياته في الدراما وسجل تجاربه المسرحية والطرق العديدة التي طرقها لإعداد الممثلين والتي كان منها ما نجح فأوصى به، ومنها ما أخفق فحذر منه في مؤلفاته التنظيرية، وفي كتابه الشهير «النقطة المتحولة - أربعون عامًا من اكتشاف المسرح» أوضح أنه اكتشف أن ما يدون خارج التدريب فيما يعرف بتدريبات الحركة لا يمكن تنفيذه بحذافيره في واقع التدريب، لأنه لا يكون مناسبًا بالإضافة إلى أنه يخل بالإيقاع ويعطل سير العمل، وحيال ذلك فعل كما رأينا، فجنب المكتوب وعمد إلى الارتجال، وقد تعلم بيتر بروك ذلك وعلمه للمسرحيين.
طوال حياته الفنية ظل بروك يجرب البحث والتجديد وفق إيمان راسخ بأنه لا شيء ثابت وكل شيء يجب أن يختبر لكي يكتشف، وظل كذلك حتى تراجع عما كان دونه بنفسه في أشهر مؤلفاته التنظيرية التي ترجمت عربيًا تحت عنوان «المساحة الفارغة»، وعن تراجعه الشجاع عما سبق وأكده من آراء يقول بروك: «لقد ذكرت في أول جملة دونتها في كتابي الفضاء الخالي: يمكنني أن أتناول أي مكان خالٍ فأسميه مسرحًا عاريًا وكل ما يقتضيه الفصل المسرحي هو أنه يمشي شخص عبر تلك الفسحة في حين يراقبه آخر. إن هذا لم يعد كافيًا اليوم، لقد تقادم عليه الزمن لأننا نحتاج لكي يكتمل الفصل المسرحي ويتضجر إلى شخص ثالث يراقب عملية المرور والمراقبة التي يشترك بها الشخص الأول والثاني الذي يقوم بفعل المراقبة»، وهكذا برهن بروك على عدالته الفنية والثقافية عندما لم يرفض فقط نظريات الآخرين وأحكامهم المطلقة، وإنما تراجع بنفسه عما سبق وما أقر به من قناعات حالما تأكد أنها لم تعد كافية. 
ولد «بيتر بروك» عام 1925م، وتعلم في مدرسة كرشام في (ويستمنستر) قبل أن يلتحق بكلية (ماجدلين) في إكسفورد، ومنذ بداياته وهو مهتم بالسنيما والمسرح في آن واحد، ولذلك بدأ في ممارسة نشاطه المسرحي عام 1946 فقدم أعمالًا مسرحية وسينمائية جديدة منها «الكوخ الصغير»، و«بيت الزهور»، و«الزيارة»، و«يرما الرقيقة»، و«الديك المقاتل»، و«مارصاد»، و«أوبرا فاوست»، و«كارمن»، و«المهابارتا»، و«مؤتمر العصافير»، و«تيتوس أندرونيك»، و«الملك لير»، و«حلم ليلة صيف»، وأخيرًا «العاصفة» وغيرها من أعمال شكسبير التي أخرج منها بيتر بروك ما يقرب من عشر مسرحيات قبل أن يتم العشرين من عمره، كما أخرج في بداية مسيرته الفنية بعض الأعمال السينمائية قبل أن ينجذب إلى المسرح.

علاقة جدلية
على العكس من مسرح جروتوفسكي الفقير الذي أحبه بروك وقدره وأخذ منه وتفاعل معه في تجربته مع المسرحية الصوفية، تأسس مسرح بيتر بروك على العلاقة الجدلية بين المخرج والممثل والجمهور، واختلف بذلك مع جروتوفسكي في اعتماده على النوعية، إذ قدم جروتوفسكي مسرحه على أساس العلاقة بين المخرج والممثل فقط، متجاوزًا المتفرج ذلك السيد الذي لا يكتمل من دونه العرض ولا يكون عرضًا إلا به ليصل قطبي الفعل المسرحي، والمسرح الذي يتجاهل الجمهور هو مسرح لا وجود له، حيث يرى بروك أن الجمهور هو التحدي وبدونه تبقى الصورة كاذبة.
أسس بروك «المركز الدولي لأبحاث المسرح» في باريس عام 1970م بممثلين من جنسيات مختلفة وأطر ثقافية متنوعة، وقد ظل هذا المركز يقدم عروضه المرتجلة في مناطق مختلفة من العالم، حتى وصلت عروضهم إلى قلب إفريقيا وأطراف أستراليا وأوربا وآسيا وأمريكا، وكانت هذه التجربة الإنسانية والفنية تقدم عروضًا متألقة ومثيرة للجدل في المسرح المعاصر، أهمها عرض «المهابهاراتا» عن الملحمة الهندية العظيمة عام 1987م، إذ لم يعرضها بروك بأفكار سابقة الإعداد وقوالب جاهزة، ولكنه شرع في تفسير المادة وهضمها باحترام ومحبة ورغبة صادقة في فهم منطقها الداخلي والوظيفة التي كانت تؤديها في التراث الثقافي والشعبي الذي حفظها وتعهدها حتى وصل إليها هو وفرقته.
يقول بيتر بروك عن تجربته بالهند: «وقد مس قلوبنا ذلك الحب الذي يكنه الهنود للمهاربهاراثا، وملأنا هذا بالاحترام والخشية معًا تجاه المهمة التي أخذناها على عواتقنا... والذي قاد خطانا في الهند أكثر من سواه كان هو التراث الشعبي، فهنا تعرفنا على كل التقنيات المشتركة في كل فنون الشعوب على السواء والتي ظللنا نستكشفها عن طريق الارتجال سنوات متصلة»، وبعد رحلته للهند أقر «بروك» في كتابه «النقطة المتحولة» أنه خرج من التجربة بقناعات جديدة حول الفن المسرحي بلورها بقوله: «رجعنا من الهند وقد عرفنا أن عملنا هو أن نوحي لا أن نقلد»، وهكذا كانت نتيجة هذه الرحلة الفنية التي توصل لها هذا السندباد في رحاب المسرح ذات أهمية ليست مسرحية فقط ولا فنية ولا ثقافية فقط، ولكنها ذات عوائد ونتائج إنسانية على وجه العموم.

مكانة رفيعة
أحدث إصدارات بيتر بروك التنظيرية جاءت بعنوان «الضجر هو الشيطان نفسه»، وفي هذا الإصدار الأحدث بين كتاباته يصف رحلته بطريقة أكثر شمولًا وبحياد حقيقي يعرض كيف انطلق في بدء مسيرته المسرحية من بديهة بسيطة بأن المسرح يجب أن يكون مسرحًا، بمعنى أنه يجب أن يقدم مسرحية وألا يخلط بينها وبين المحاضرة أو القصة، ويصف بروك كيف تحرر من تقديس النصوص وانطلق يتعامل بحرية كبيرة مع أي نص مسرحي يقع بين يديه بغية تقديم فرجة مسرحية ممتعة للمتلقي المستهدف، الذي رأينا كيف يعطيه بروك كل التقدير والأهمية، ويحتفظ له بمكانة رفيعة في المسألة المسرحية، وبهذه القناعة انطلق بروك يمزق أستار الوهم والخداع وسوء النية والقصور والعجز عن الاكتمال، ويقسم بروك المسرح إلى أشكال أربعة، هي المسرح الميت والمسرح المقدس والمسرح الخشن والمسرح المباشر.
دار بيتر بروك في بحثه دائمًا حول ثوابت الممثل والمخرج، وكذلك الجمهور الذي وضعه في قلب التجربة المسرحية، وألقى عليه عبئها، ومن هنا ترجع المشكلة مرة أخرى إلى المتفرج، هل يود أن يغيير شروطه؟ هل يود أن يغير نفسه أو مجتمعه؟ إذا لم يكن يريد فهو ليس بحاجة للمسرح، من حيث هو امتحان قاس، منظار مقرب، وأضواء كاشفة، ومكان للمواجهة، ومن ناحية أخرى قد يود أن يكون المسرح هذا كله، وعن ذلك قال: «في هذه الحالة لن يصبح بحاجة للمسرح فقط، لكنه بحاجة لكل شيء يستخرجه منه، إنه بحاجة إلى الأثر الذي يخدش، وإلى أن يبقى هذا الأثر ولا يزول».
قال بيتر بروك في كتابه «المساحة الفارغة»: «أستطيع أن أعلم أي شخص كل ما عرفته عن قواعد المسرح وتكنيكه في ساعات قلائل، أما الباقي فيأتي بالممارسة...»، هكذا في مؤلفاته عن المسرح حاول بيتر بروك أن ينقل تجربته وأفكاره الخاصة إلى العالم وهو بالإضافة إلى حديثه عن العروض التي شارك فيها يتحدث أيضًا عن تجربته في إخراج الأوبرا التي كان يطلق عليها فن الضجيج، ثم تحدث في كتاباته عن عدد هائل من فناني المسرح والأدب والسينما الذين عمل معهم مثل صمويل بيكت، وجروتوفسكي، سلفادور دالي، ودورينمات وجون جيلجوود وتيد هيوجز، وجين مور، ووليم جولدنج، ومارجريت دورا، أما شكسبير عشقه الأول ونقطة الابتداء والانتهاء فقد كتب عنه فصلًا كاملًا هو الفصل الرابع في «النقطة المتحولة»، ربما فعل ذلك لأجل ما بينهما من تشابه فقد كان شكسبير مثله الأعلى ودليله في عالم المسرح.
وفي وداعه نقتبس من مقدمة ترجمة «النقطة المتحولة» لبيتر بروك الصادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت 1990م بقلم فاروق عبدالقادر قوله: «إن بيتر بروك سيد من سادة النثر بالإنجليزية، يقدم خبرته بفن عمره عشرات القرون، من خلال الممارسة والعمل اليومي، من خلال النجاح والفشل من خلال كدح التدريبات والبروفات وتوهج الليالي الأول»، ولأجل كل هذا العطاء وصف بيتر بروك بأنه أسطورة المسرح في العالم المعاصر ■