دراما الأبطال الخارقين

دراما الأبطال الخارقين

دراما «السوبر هيروز»، ولعلنا نستطيع ترجمتها بـ «الأبطال الخارقين» أو «العِلِّيين». السوبرمان هو اصطلاح نحته نيتشه في «هكذا تكلم زرادشت»، وكان يقصد به الإنسان الأعلى أو الأمثل، كما تصوره. ومع هذا سنستمر في الإشارة إليهم في هذا المقام بـ«السوبر هيروز»، من باب أن الخطأ الشائع أفضل من الصواب المتروك، وإن كان لا محل للخطأ وقد صار الاصطلاح الإنجليزي شائعًا بين العامة وبه يتبينون القصد.

 

نحسب أن مجلات السوبرهيروز، التي بدأت أولياتها في أمريكا في يونيو 1938 بمجلة (Action Comics) التي ظهر فيها سوبرمان لأول مرة في عددها الأول، قد ورثت سمات أبطالها عن أفلام رعاة البقر الأمريكية الأولى، وخصوصًا أفلام جون وين؛ الذي انتمى إلى أقصى اليمين الجمهوري المتشدد. أما أفلام ومسلسلات السوبر هيروز فهي ابنة مجلات «الكومكس» هذه، حتى لا نكاد نرى عملًا دراميًا واحدًا أصليًا مكتوبًا مباشرة للشاشة الكبيرة أو الصغيرة، من أول كرتون عُرض للسوبرمان في عام 1941، وحتى الأفلام والمسلسلات الراهنة لـ «دي سي» و«مارفل».
صورة جون وين؛ الكاوبوي المستوحش، المتوحد مع نفسه، معدوم الأصدقاء إلا من حصانه الكميت، المسلح بمسدس الساقية، الماهر في سرعة سحبه وإصابة الخصم، والذي يتصدى للدفاع عن عاهرة البار الجميلة التي يضطهدها الشرير الخارج على القانون، والتي ليس بمقدر مأمور البلدة (القانون) حمايتها من شره، هذه الصورة انتقلت إلى مجلات الكومكس أولًا، مؤسسة صورة السوبرهيرو، والتي ستحرص الأفلام والمسلسلات على الحفاظ عليها، مع تحديثات هامشية، لكنها أساسية بالنسبة لعشاق ومحبي قصص السوبر هيروز وفي غاية الأهمية لهم، تتعلق بالأدوات التي يستعملها الخارقون. فالحصان الكميت ستحل محله سيارات خارقة السرعة والقدرات القتالية (الرجل الوطواط، مثلًا)، أو بذلات لها القدرة على الطيران بمن يرتديها وتحوي أسلحة قتالية مخفية ضمن ثناياها (الرجل الحديدي، مثلًا). ومسدس الساقية الشهير ستحل محله أسلحة متطورة مصنوعة خصيصًا للسوبر هيرو، أوقدرات جسمانية خارقة؛ كالقدرة على إذابة الصخر بشعاع صادر من العينين، إلى آخر ذلك.
يدخل في هذا الباب أيضًا، وعلى نحو أساسي، وراثة السوبر هيرو للغايات النبيلة للكاوبوي؛ فهو يدافع عن الضعفاء والمضطهدين، ويحمي النساء والأطفال، وهو الأمر الذي سيتطور لاحقًا إلى الدفاع عن أمريكا ضد الأعداء الذين يسعون لإلحاق الأذى بشعبها، ثم حماية الكوكب من أشرار خارقين يسعون للقضاء على البشرية، ثم الدفاع عن المجرة كلها، ثم الدفاع عن الكون بأكمله، وأخيرًا الدفاع عن الأكوان الموازية وحمايتها من قوى خارقة شريرة تعيث فيها فسادًا وخرابًا.
 
المناقضات
فإذا كان هذا هو النمط الكلاسيكي الذي سارت عليه قصص وأفلام ومسلسلات السوبر هيروز، إلا أنه قد ظهر في العقد الأخير قصص كومكس وروايات شعبية تحاول تحطيم وتفكيك تلك الأساطير، تحولت أيضًا إلى مسلسلات تلفزيونية باتت تحظى بنسب مشاهدات كبيرة على المنصات الكوكبية، وإن كانت السينما لا تزال متهيبة من مسألة تفكيك الأسطورة، ومستمرة في صنع النمط الكلاسيكي للسوبر هيرو النبيل. لعله لهذا يحق لنا القول بأن الدراما التلفزيونية هي أكثر طليعية من السينما في هذا الباب.
في بعض المسلسلات التي سنذكرها أمثلة على الاتجاه الأخير لتفكيك أساطير السوبر هيروز؛ منها: (الفتيان The Boys، الموسم الأول 2019)، و(الجيل ڤي Gen V، الموسم الأول 2023)، والمسلسل الكوري الجنوبي (الترحال Moving، الموسم الأول 2023).
والبطل المضاد هنا (anti-hero) ليس هو صنو البطل الخارق الشرير الذي صارت له هو أيضًا العديد من الكومكس والأفلام والمسلسلات الخاصة به، ولكنه يُرسم منذ البداية لكي يحمل سمات عامة الناس؛ يحقد وينفس ويخطئ ويغضب ويشتهي ويحب ويكره ويكذب ويستغل وينافق ويخضع ويتذلل ويستخذي. لكننا نعرف مع ذلك أنه من أرومة صالحة ومعدنه شريف، لأنه يعود إلى الحق والصواب في النهاية، منحازًا إلى الخير، كعامة الناس أيضًا. يتناول بطلنا الخارق هذا «الحبة الزرقاء» فتظهر جوانبه السلبية التي يتشارك فيها مع العامة، ويتناول «الحبة الحمراء» فيستيقظ وعيه ويصير صالحًا خيرًا نبيلًا.
ثم إن أصوله تستمد مصادرها هي أيضًا من نوعية أفلام رعاة البقر التي بدأت منذ أواخر السبعينيات تقدم نموذجًا مغايرًا للكاوبوي، كبطل مضاد للبطل التقليدي الذي كان يحرص جون وين على تقديمه؛ بوصفه خارق القدرة، خارق النبل، خارق الإتقان، فبدأنا نراه هشًا حائرًا متقلبًا متصاغرًا ملتويًا مترددًا مهتزًا.
 
الأشباه والنظائر
تشبه صورة البطل الخارق وطريقة رسمه العصر الذي يُقدم فيه، ولعلنا نستطيع القول بإنه مقياس الحرارة الثقافي للعصر؛ عدسة العصر، أو هو رمزها الثقافي الشعبي. عصر المثاليات والحلم الأمريكي و«قيم الأسرة» ووضوح الفرق بين الخير والشر وعدالة القضية في الأربعينيات والخمسينيات، يختلف اختلافًا بينًا عن قيم الجشع والقسوة والاستحواذ والأنانية والصفاقة وسيولة الفواصل بين الخير والشر التي باتت محبذة «ثقافيًا» لدى العامة ويحبون قصصها. ولعل هذا أحد أسباب النوستالجيا التي نشعر بها تجاه الأبطال الخارقين المثاليين كـ «سوبرمان»، والذي بالمناسبة تم قتله على يد أحد الأشرار الخارقين (دومزداي Doomsday) في منتصف التسعينيات في سلسلته الخاصة من الكومكس، واستغرقت عملية قتله من ديسمبر 1992 إلى أكتوبر 1993، جنت فيها شركة «دي سي» أعلى أرباح في تاريخ صناعة مجلات الكومكس على الإطلاق. ولعلها إشارة مباشرة وصريحة إلى انتهاء عصره، وأفول القيم التي يمثلها. 
من أجل قتل سوبرمان، اضطر كتاب شركة «دي سي» إلى إعادة كتابة تاريخه كاملًا، وهذه ليست المرة الأولى ولا الوحيدة التي يعيد فيها كتاب شركات الكومكس كتابة التاريخ، وفي بعض الأحيان تشويه التاريخ البطولي للخارقين، كاكتشافنا أن «كابتن أمريكا» كان يعمل لصالح الأشرار في منظمة «الهيدرا» في أحد الأعداد الخاصة من سلسلته في «مارفل». أو لوكي «إله الأذى» في سلاسل «مارفل» أيضًا، الذي نراه في أحدث إصدار للكومكس والمسلسلات وقد انخرط في مهمة نبيلة لحماية جميع الأكوان الموازية من سلطة حراس الزمن المستبدة. يتم اغتيال فكرة التراكم وضربها في مقتل، وإلقاء الثقل التاريخي الذي تحمله الشخصية في النفايات.
إن البطل الخارق كان يُنظر إليه وإلى قصصه بوصفها أساطير الحداثة في الحضارة الغربية، كما كانت الأساطير اليونانية بالنسبة للحضارتين اليونانية والرومانية لعدة قرون. وقد لحق بهذه الأساطير التحولات ككل ما لحقه التحولات، فصارت اليوم أساطير ما بعد الحداثة، وما كان يصلح للحداثة لا يصلح لما بعد الحداثة. لا شك أنك سمعت أو قرأت عن إدخال كتاب الكومكس لمن يعتبرونهم من «المهمشين» كأبطال خارقين جدد في مجلاتهم، وابتكار أبطال يمثلون «الأقليات»؛ من المثليين، وسود البشرة، والمكسيكيين، والآسيويين، والمسلمين، إلى آخر ذلك من الملل والنحل والأعراق.
 
العهد الجديد
فوق هذا، فإن الرسم ما بعد الحداثي لشخصيات الأبطال الخارقين يقدم صورًا جديدة عن علاقاتهم العائلية. البطل الخارق اليوم لا بد وأن يكون من أسرة مفككة، ومن أب أو أم فاسدين طالحين عليهما علامات استفهام أخلاقية، يعيش ضمن خلافات عائلية، قلق عاطفي، منغمس في الجنس، متذمر، متنمر مستأسد على الضعفاء، بل وسكيّر متعاط للمخدرات.
ولعلك لاحظت أن نوعية الخارقين الجدد لم تعد كما في السابق كليّة القوة، فالبطل الخارق الجديد قوته محدودة من حيث النطاق والنوعية؛ فهو يتخصص في قدرة واحدة خارقة لا غير، وفعاليتها محدودة أيضًا، فهناك دائمًا الأقوى منه في نفس نوعية مهارته الخارقة، أو يكاد. 
الأساطير اليونانية كانت تنتمي إلى الجميع، إلى كل من يقرأها أو يسمع بها، وكذلك أساطير الكاوبوي الكلاسيكية، وأساطير الساموراي اليابانية. لكن يحق لنا أن نتساءل عما إذا كانت أساطير الأبطال الخارقين هي ملك لنا حقًا، أم لا؟ خاصة عندما ترى بطلًا خارقًا وقد كبر معك منذ أن كان عمرك عشر سنوات حتى شارفت على الكهولة، ويتم إعادة كتابة تاريخه وتحويله من صالح إلى طالح، استهدافًا لتحقيق نسب أكبر من التوزيع، أو يتم ذبحه وقتله لإفساح المجال لخارقين آخرين للأكل والشرب على مائدة الانتقام والثأر له، أو لإحداث صدمة لدى القراء والمشاهدين (والصدمة عنصر جوهري في اقتصاديات النيولبرالية)، أو لقتل القيم الكلاسيكية التي يمثلها وإفساح المجال لقيم العصر الجديدة، أو لأن هذا مربح.
ثم إن القضايا التي نسمع عنها من حين لآخر، والمرفوعة من قبل أكبر شركتين للكومكس على الكوكب؛ «دي سي» و«مارفل»، على بعضهما البعض، بشأن الحمائية التجارية، وحقوق الملكية، واستغلال العلامات في السوق «وكل بطل خارق هو علامة، ويشمل ذلك كل شيء من أول شعر رأسه إلى أخمص قدميه؛ من ملابس، وإكسسوارات، وأسلحة، وسيارات، وعبارات مأثورة، وخلافه»، فضلًا عن القضايا المرفوعة من قبل كل شركة منهما على المبتكرين الأصليين لبعض شخصيات الخارقين، من الذين حاولوا الاستقلال، ورفضوا التوجيهات التي تفرض عليهم في الكتابة داخل الشركة، يجعلنا كل هذا نتساءل عما إذا كان الأبطال الخارقون هم ملك للعامة من الجمهور، أم هم ملكية خاصة لشركات الكومكس الكوكبية؟
 
سناء الغاية وسقمها
فإذا ما تأملنا في علاقة البطل الخارق بالقانون، وجدناها تستمد أصولها هي أيضًا من علاقة الكاوبوي بالقانون، على الأقل في أولياتها. فالكاوبوي النبيل يحافظ على القانون، لا لأنه يحترمه، فهو يزدريه حقًا في أعماقه، لكن لأن القانون هو خط الدفاع الأخير عن الضعفاء الذين يتعاطف معهم راعي البقر ويحنو عليهم. لذا نجده دائمًا ما يرفض وظيفة المأمور، ولا يأخذ منه الشارة النجمية إلا بعد إلحاح المأمور العاجز عن مواجهة الشرير، وإلحاح أهل البلدة البؤساء. أحيانًا ما يرد القانون هذا الجميل للكاوبوي معترفًا بصنيعه، فتتلقى الشارة القصديرية رصاصة الشرير عنه وتحمي حياته. وفور أن يهزم الشرير، يزدري الكاوبوي شارة القانون من جديد ويعيدها للمأمور. 
سوبرمان والوطواط والخارقون الأوائل حافظوا على هذه العلاقة مع القانون ومع الحفاظ عليه؛ أي حافظوا على «النظام»، الذي هو نقيض «الفوضى». والنظام، والقانون الذي يأتي بالتبعية واللزوم معه، لم يعرفهما البشر إلا بعد سلسلة طويلة من المآسي والكوارث والحروب، التي فرضت «طبيعة ثانية» في الالتزام بمجموعة من «اللا يجوز» على الإنسان، الذي تدفعه طبيعته الأولى إلى الغريزة والعنف والاستلاب. 
لكن الأمر على خلاف ذلك مع الخارقين الجدد؛ فهم لا يحترمون القانون، ولا يهتمون كثيرًا بالحفاظ عليه، ومنزلتهم هي منزلة الخارج على القانون؛ أي من يحسب نفسه استثناءً من تطبيق القانون، في حين تكون منزلة الخارقين الأشرار هي منزلة الثوار؛ أي الراغبين في تغيير القانون.
وبات واضحًا لأي مشاهد أن ما يخشاه الخارقون الجدد حقًا، ليس القانون، وإنما قوة ونفوذ شركات الدفاع الخاصة التي تستأجرهم، وتنفق عليهم وعلى معداتهم وأسلحتهم وأزيائهم، وتتولى رعاية أبنائهم الخارقين، وتسهل لهم الحصول على عقود الرعاية والدعاية من الشركات الاستهلاكية، إلى آخر ذلك. أي أن رأس المال حل محل القانون، بل ونراه في دراما الخارقين بمنزلة الخط الأحمر الوحيد الذي لا يجوز لهم تجاوزه، وكأن رأس المال هو «بنو تميم» في قول جرير:
إذا غضبت عليك بنو تميم
حسبتَ الناسَ كلهم غِضابا
انتهى العصر الذهبي للأبطال الخارقين ومثالياتهم، وانتهى عصرهم الفضي الذي استمر طيلة الثمانينيات والتسعينيات حين كان الشر يغلب أحيانًا الخير، وصرنا منذ هيمنة النيولبرالية وقيم السوق نراهم في عصرهم الخشبي، ولم يعد في قصصهم خيط فاصل بين الخير والشر أو يكاد... وماذا بعد الخشب؟!  ■