الحضارة العربية في صقلية النورمانية

الحضارة العربية في صقلية النورمانية

تعدُّ الحضارة العربية التي قامت في جزيرة صقلية حلقةً بالغة الأهمية في تاريخ الحضارات التي شهدتها هذه الجزيرة، مثل الحضارة الفينيقية والإغريقية والرومانية. ولا تأتي هذه الأهمية من أن هذه الحضارة استمرت قائمة ومزدهرة في صقلية بعد زوال الحكم العربي منها على يد النورمان فحسب وإنما لأنها كانت أيضًا عاملًا مهمًا أسهم في النهضة الأوربية الحديثة.

الفتح العربي

تمَّ الفتح العربي لجزيرة صقلية - التي كانت تحت الحكم البيزنطي - على يد الأغالبة، وذلك في عهد الأمير زيادة الأغلبي عام 827م. وكان بطل هذا الفتح الفقيه أسد بن الفرات (ت828م). وأقام العرب، خلال حكمهم للجزيرة والذي دام نحو قرنين ونصف من الزمن (827- 1091م) حضارة ازدهرت تدريجيًا في الميادين الثقافية والإدارية والاقتصادية والفنية. وكانت في حقيقتها مزيجًا من حضارة العرب في المشرق والمغرب من ناحية ومن إنجازات عرب صقلية وإبداعاتهم من ناحية ثانية وما كان موروثًا من الحضارات التي تعاقبت على الجزيرة من ناحية ثالثة. ومن العوامل الأساسية التي مكنت عرب صقلية من إقامة هذه الحضارة كانت سياسة التسامح التي مارسوها في حكم شعوب ذات أعراق وثقافات وديانات مختلفة، حيث سمح العرب لها بممارسة حريتها الدينية وعاداتها وقوانينها الخاصة بها. ويقول أحد رؤساء دير «سانت كاترين»، في العاصمة الصقلية «بالرمو»، إن رجال الدين المسيحيين كانوا أيام العرب أحرارًا في ممارسة واجباتهم الدينية ولم تُمس كنائسهم بسوء.

الفتح النورماني

انتزع النورمان صقلية من أيدي العرب، وساعدهم في ذلك ما كان يدور في الجزيرة من انقسامات وصراعاتٍ بين الأمراء العرب، حتى أن بعضهم، مثل ابن الثمنة، لم يتردد في طلب العون من النورمان ضد بني جلدته. ودخل النورمان بالرمو عام 1072م، ولكن لم يكتمل فتحهم للجزيرة إلا عام 1091م. وتعاقب على حكم صقلية أربعة من الحكام النورمان الأقوياء وهم: روجر الأول (ت1101م) وروجر الثاني (ت1154م) ووليام الأول (ت1166م) ووليام الثاني (ت1189م). واللافت للنظر أنه ما كاد يستقر النورمان في صقلية حتى أعجبوا بالحضارة التي خلفها أسلافهم العرب فيها وأعلنوا حمايتهم لها وأظهروا رغبتهم في الإفادة منها. أي وقف النورمان المنتصرون باحترام وتقدير أمام حضارة العرب المغلوبين. وهذا يذكرنا كيف خضع الرومان المنتصرون لحضارة أسلافهم الإغريق المغلوبين. والسؤال الذي ينبغي الإجابة عنه هو: ما العوامل التي جعلت الفاتحين النورمان يتخذون هذا الموقف الإيجابي من حضارة أسلافهم العرب في صقلية؟

يبدو أن الإجابة تكمن في العوامل التالية:

أولًا: سياسة التسامح الديني التي تبناها النورمان في حكمهم للجزيرة. فقد كان يسكن صقلية عندما فتحها النورمان: العرب والإغريق واللاتين وغيرهم. وأدرك النورمان أن قيادة هذه الشعوب بنجاح وتحقيق التوازن بين مصالحها وتأمين سلامة الدولة، يقتضي تبني سياسة التسامح الديني ومراعاة عادات هذه الشعوب وتقاليدها. وكان أول من وضع أسس هذه السياسة هو روجر الأول، وسار أبناؤه وأحفاده على نهجه. فقد حذرَّ روجر هذا من إكراه رعاياه المسلمين على اعتناق المسيحية، كما منع الأساقفة من تنصير جنده المسلمين. وأكدَّ الإدريسي (ت1166م) هذه السياسة عندما تحدث عن عهد روجر الأول بقوله: «ولما صار أمرها إليه واستقر بها سرير ملكه نشر سيرة العدل في أهلها وأقرهم على أديانهم وشرائعهم وأمنهم في أنفسهم وأموالهم وأهلهم وذراريهم». إن نهج التسامح هذا ساعد النورمان على تقبل حضارة العرب واستيعابها والإفادة منها.

ثانيًا: تشجيع العلم والعلماء، حيث شغف الملوك النورمان بالعلم والمعرفة، وحظي العلماء باحترامهم وتشجيعهم . فهذا الإدريسي يقول عن روجر الثاني إنه «اخترع من المخترعات العجيبة... ما لم يسبقه أحدٌ من الملوك». كما كان محبًا لأهل العلم ويميل إلى مجالستهم، فكان الإدريسي يأتي إليه راكبًا بغلةً فإذا صار عنده تنحى له عن مجلسه فيأبى فيجلسان معًا. كما كان وليام الثاني شغوفًا بصحبة رجال العلم ولاسيما الأطباء والمنجمين منهم، حتى أنه متى ذكر له أن طبيبًا أو منجمًا اجتاز ببلده أمرَ بإمساكه ومنحه أموالًا وأرزاقًا حتى يسليه عن وطنه. إن هذا الشغف بالعلم وأهله جعلهم يقدرون الحضارة العربية حق قدرها ويقبلون على إنجازاتها.

ثالثًا: إن تفوق الحضارة العربية التي ورثها النورمان عن أسلافهم عرب صقلية من ناحية وضعف حضارة النورمان أنفسهم من ناحية أخرى شكل بدوره عاملًا مهمًا شجع النورمان على احتضان حضارة العرب، فمن طبيعة الحضارة الأقوى أنها تفرض إنجازاتها، وبشكلٍ عفوي، على أصحاب الحضارة الأضعف. فحينما هاجر النورمان من نورمانديا إلى إيطالية الجنوبية في أوائل القرن الحادي عشر، كانوا مجرد مرتزقة يخدمون بسيوفهم لمن يدفع لهم أكثر من القوى السياسية والدينية المتنازعة فيها. ولكن عندما فتحوا صقلية كان أمامهم إما الإبقاء على عقلية العصابات أو بناء دولة متحضرة، فأخذوا في الخيار الثاني وتبنوا منجزات الحضارة الأكثر ازدهارًا وتقدمًا في الجزيرة وهي الحضارة العربية.

رابعًا: لم يخضع البلاط النورماني في صقلية لتحريض البابوية والأساقفة ومحاكم التفتيش ضد العرب والإسلام، كما كان الحال آنذاك في إيطاليا وإسبانيا وغيرهما من البلاد الأوربية. فالعلاقات بين النورمان والبابوية بدأت عدائية، بل قاد البابا ليو التاسع عام 1053م جيشًا ضد النورمان، ولكنه هزم ووقع البابا نفسه في الأسر النورماني. ولذلك فإن انعدام التحريض الديني في البلاط النورماني ضد العرب المسلمين أسهم في إقبال النورمان على الحضارة العربية دون تيارات دينية مضادة.

خامسًا: إن العلاقات الودية التي قامت بين الملوك النورمان وجماهير العرب المسلمين في صقلية سهلت انتقال الكثير من مظاهر الحضارة العربية إلى أوساط النورمان، فالتسامح والعدل واحترام عادات العرب وتقاليدهم.. خلق لملوك النورمان الاحترام والمحبة بين عرب صقلية، فهذا ابن الأثير يقول عن الملك روجر الثاني إنه «أكرم المسلمين وقربهم ومنع عنهم الفرنج وأحبوه». وكذلك لا نستغرب عندما نقرأ أن عرب صقلية أظهروا الحزن على وفاة أكبر أبناء روجر الثاني ورثاه شعراؤهم، بل إن النساء المسلمات في بالرمو لبسن السواد وتركن شعورهن حزنًا عليه والتففن حول القصر الملكي ناحباتٍ وسارت خادماتهن في الشوارع ترتلن مقطوعات الرثاء. كما يظهر ابن جبير إعجابه الشديد بشهامة الملك وليام الثاني عندما دفع أجور المسلمين الفقراء لأصحاب السفن التي كانت تقلهم في ميناء مسينا. إن هذه العلاقات الإنسانية بين الطرفين كانت إحدى القنوات المهمة في انتقال حضارة العرب إلى نورمان صقلية.

إن العوامل السابقة مجتمعة، وغيرها، أسهمت في صياغة الموقف الإيجابي الذي اتخذه النورمان تجاه الحضارة التي ورثوها عن أسلافهم العرب. وبناءً على ما تقدم فإنه يمكن أن نرصد بعضًا من مظاهر الحضارة العربية التي ظلت فاعلة في صقلية النورمانية في عدد من الميادين منها:

أولًا: في البلاط النورماني:

لقد اصطبغ البلاط النورماني في صقلية بالصبغة العربية الإسلامية، فقد أسند النورمان الكثير من المناصب الرفيعة في البلاط إلى ذوي المواهب من العرب المسلمين، وأكد هذه الحقيقة ابن الأثير في حديثه عن بلاط الملك روجر الثاني الذي «سلك طريق ملوك المسلمين من الجنائب والسلاحية والجاندرية وغيرها..»، كما أكد ذلك أيضًا، الرحالة ابن جبير، الذي زار صقلية أيام الملك وليام الثاني، عندما قال: «وشأن ملكهم هذا عجيب في حسن السيرة واستعمال المسلمين واتخاذ الفتيان المجابيب، وهو كثير الثقة بالمسلمين وساكن إليهم في أحواله والمهم من أشغاله حتى أن الناظر في مطبخه رجلٌ من المسلمين». وكان الحرس الخاص بالملك النورماني يضم عددًا كبيرًا من العرب المسلمين إلى جانب حرسه من الفرسان النورمان. كما أن القوانين والقرارات التي كان يصدرها البلاط النورماني كانت باللغات الثلاث: العربية واللاتينية والإغريقية، وكانت تحمل علامة الملك النورماني بالعربية، فمثلاُ كانت علامة روجر الثاني وابنه وليام الأول «الحمد لله شكرًا لأنعمه» وعلامة وليام الثاني «الحمد لله حق حمده» وكذلك اتخذ ثلاثة من ملوك النورمان ألقابًا عربية، فكان لقب روجر الثاني «المعتز بالله» ولقب وليام الأول «الهادي بأمر الله» ولقب وليام الثاني «المستعز بالله». كما أن الكثير من المصطلحات العربية ظلت قيد الاستخدام في الإدارة النورمانية مثل: الأمير والديوان والقاضي والدفتر، بل كانت الأديرة اللاتينية تقبل أن يقسم التابع الإقطاعي يمين الولاء على القرآن الكريم. والخلاصة فإن الملوك النورمان كانوا يتشبهون بملوك المسلمين في كل المظاهر التي تتعلق بإظهار أبهة الملك وهيبته ولذلك لم يبالغ أحد المؤرخين عندما قال عن روجر الثاني مثلًا إنه كان «ملكًا لاتينيًا في بلاط شرقي» أو كما قال مؤرخ آخر عن هذا الملك نفسه إنه كان «سلطانًا معمدًا».

ثانيًا: في الجيش والبحرية:

بدأ تجنيد العرب المسلمين في الجيش النورماني منذ أيام روجر الأول، ولكن سرعان ما غدت كتائب الجيش الأساسية تتألف من الجنود العرب المسلمين تحت قيادة عربية، كما اقتبس النورمان من العرب الكثير من فنون القتال وأساليبه. وكذلك فقد ضمَّ الجيش النورماني مهندسين عسكريين عربًا مسلمين، حيث قام هؤلاء بصنع المجانيق وأبراج الحصار المتحركة وبناء تحصينات المدن. ومن ناحية أخرى فقد نجح النورمان في بناء أسطول بحري حقق لهم انتصارات كبيرة ولاسيما في الشمال الإفريقي. وكان أول من تولى منصب الأدميرال رجلاً عربيًا وهو عبدالرحمن النصراني، الذي اتخذ اسمًا إغريقيًا وهو: كريستودولوس، ثم خلفه في هذا المنصب عربي آخر هو جورج الأنطاكي الذي قام بتنظيم البحرية النورمانية أيام روجر الثاني. وبعد وفاته تولى قيادة الأسطول النورماني عربي ثالث وهو فيليب. كما كان عدد كبير من جنود البحرية النورمانية من العرب المسلمين أيضًا.

ثالثًا: في ميدان الإدارة:

احتفظ روجر الأول بالنظام الإداري والمالي الذي كان قائمًا في الجزيرة أيام العرب، فقد أبقى على معظم الموظفين العرب، ذوي الخبرة والنزاهة، في الإدارة النورمانية. ومن المؤكد أن النورمان اقتبسوا ثلاثة دواوين ذات أصول عربية، وهي:

1 - ديوان المظالم: الذي يرفع إليه المظلومون شكاويهم وكان يرأسه الملك النورماني نفسه. ويقول ابن الأثير عن روجر الثاني «وجعل له ديوان المظالم ترفع إليه شكوى المظلومين فينصفهم ولو من ولده».

2 - ديوان الطراز: الذي كان يشرف على المعامل التي تصنع الملابس الملكية وتطرزها بالذهب.

3 - ديوان التحقيق: الذي كان مسئولًا عن الإدارة المالية في الدولة النورمانية ويحتفظ بسجلات الأرض والإقطاعات والأرقاء العاملين بها. وكانت سجلاته تدون بالعربية.

رابعًا: في ميدان الحياة الاقتصادية:

تتحدث المراجع التاريخية عن أن الكثير من الصناعات العربية ظلت قائمة ومزدهرة في العصر النورماني. فمثلًا كان هناك مصنع للحرير ومعهد للتطريز بالقرب من القصر الملكي في بالرمو. وكان هذا المصنع يقوم بإعداد ملابس الملوك النورمان وتطريزها، ولاسيما الثياب الفاخرة التي توشى بالنقوش العربية واللاتينية. ومن الملابس التي لازالت باقية إلى الآن من هذا المصنع عباءة الملك النورماني روجر الثاني التي ارتداها في حفل تتويجه ملكًا في بالرمو عام 1130م. وكان قد صنعها نساج عربي اسمه عبدالله، وهي مصنوعة من الحرير الثقيل القرمزي رسمت عليها شجرة نخيل تحمل ثمارًا ذهبية، وعلى كل من جانبيها صورة أسد يضرب بمخلبه جملًا. وكانت الرسوم مطرزة بالذهب يحيط بها آلاف من اللآلئ وثلاث ياقوتات كبيرة. وقد كتب النساج باللغة العربية على حافة العباءة عبارات تتضمن الدعاء للملك روجر الثاني أن يكون محبوبًا ويعيش في عزٍ ومجد وأن تتحقق آماله وتغمره السعادة طوال أيام حياته. كما كتب مكان وزمان صنع العباءة على النحو التالي: «صنع في عاصمة صقلية في سنة 528هجرية» . أما بالنسبة إلى الزراعة فمع أن الحروب التي دارت بين النورمان وعرب صقلية قد ألحقت أبلغ الأضرار بالزراعة والفلاحين ووسائل الري، ولكن الزراعة استمرت في نهضتها التي شهدتها أيام الحكم العربي للجزيرة. فمن المعروف أن العرب أدخلوا إليها الكثير من المزروعات مثل: زراعة القطن وقصب السكر والزيتون والنخيل والبرتقال والفستق والموز والزعفران...إلخ. كما أقام العرب شبكة واسعة من الترع والقنوات التي لاتزال آثارها إلى اليوم. كما ظلت معظم التجارة، أيام النورمان، بأيدي العرب. ورغم أن تجار المدن الإيطالية، قد حصلوا على امتيازات تجارية في الجزيرة من قبل الملوك النورمان، إلا أن ذلك لم يقلل من نشاط التجار العرب في صقلية وعالم البحر المتوسط. وأكد ابن جبير ذلك بقوله إن «الأسواق معمورة بهم وهم التجار فيها..». وتجدر الإشارة إلى أن العملة التي أصدرها الملوك النورمان في صقلية كانت متأثرة بالعملة الفاطمية في شكلها وقيمتها، واشتملت على كتابات عربية ولاتينية وإغريقية وحملت رموزًا إسلامية ومسيحية.

خامسًا: في ميدان العمارة:

ظل الفن المعماري في صقلية النورمانية يحمل الطابع العربي الإسلامي، فقد أقام الملوك النورمان في صقلية قصورًا بناها أسلافهم العرب، مثل قصر «البحر العذب» في بالرمو. كما شيدوا قصورًا جديدة شيدها لهم المهندسون المعماريون العرب في بالرمو على هدي الطراز العربي الإسلامي مثل قصر «العزيزة» الذي شيد في عهد وليام الأول وقصر «القبة» الذي شيد في عهد وليام الثاني. وعندما زار ابن جبير صقلية رأى قصرين من قصور العرب، التي لاتزال قائمة، بالقرب من العاصمة، وهما قصر سعد وقصر جعفر. كما استمرت المدن الصقلية تحوي المساجد والحمامات والفنادق والمباني الفخمة التي شيدت على الطراز العربي وزينت بالرخام الثمين والفسيفساء الزاهرة. بل أسهم المعماريون العرب المسلمون في تشييد الكنائس والأديرة وزينوها بالفسيفساء العربية.

سادسًا: المرأة العربية في العهد النورماني:

لعبت المرأة العربية دورًا حضاريًا في المجتمع النورماني، فأزياؤها انتشرت بين نساء النورمان، ويؤكد هذه الحقيقة ابن جبير بقوله «وزي النصرانيات في هذه المدينة (بالرمو) زي نساء المسلمين، فصيحات الألسن ملتحفات منتقبات، خرجن في هذا العيد المذكور (وكان ذلك عيد ميلاد السيد المسيح) وقد لبسن ثياب الحرير المذهب والتحفن اللحف الرائعة وانتقبن بالنقب الملونة وانتعلن الأخفاف المذهبة وبرزن لكنائسهن حاملات جميع زينة المسلمين من التحلي والتخضب والتعطر». كما أن الكثير من النساء المسيحيات في البلاط النورماني اعتنقن الإسلام بتأثير من المسلمات اللواتي يعملن في البلاط».

سابعًا: في الميادين الثقافية والعلمية:

وعلى الرغم من أن ابن الأثير يؤكد على أن عددًا كبيرًا من العلماء والأدباء والشعراء العرب المسلمين قد غادروا صقلية، بعد استيلاء النورمان عليها، إلى الأندلس وإفريقية ومصر أمثال: ابن القطاع (ت1121م) وابن الفحام (ت1122م) وابن حمديس (ت1133م) إلا أن ثقافة العرب وعلومهم استمرت في صقلية أيام النورمان، حيث ظل المسجد يقوم بدورٍ بالغ الأهمية في الدراسات الدينية واللغوية والأدبية. كما أن اللغة العربية استمرت سائدة في الجزيرة في العهد النورماني إلى جانب اللاتينية والإغريقية، بل إن عددًا من الملوك النورمان، أمثال وليام الأول والثاني، كانوا يجيدون القراءة والكتابة والتحدث بالعربية. وكذلك ازدهرت حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية في صقلية النورمانية، وكان من أبرز المترجمين يوجين الأمير الذي ترجم من العربية إلى اللاتينية بعض المؤلفات مثل كتاب «البصريات» لمؤلفه «بطليموس» كما أسهم في ترجمة كتاب «كليلة ودمنة». ودخلت صقلية في العصر النورماني كتب عربية كثيرة فمثلًا استحضر الملك روجر الثاني عددًا كبيرًا من مؤلفات الجغرافيين العرب أمثال المسعودي وابن خرداذبة وابن العذري وابن حوقل واليعقوبي وغيرهم.

أما العلماء والشعراء العرب المسلمون الذين ظلوا في صقلية النورمانية، وغدا لهم شأن كبير لدى الملوك النورمان، فنذكر منهم: ابن ظفر الذي كان عالمًا في النحو واللغة والدين وشغل منصبًا رفيعًا في الدولة النورمانية، ومحمد بن عيسى، الذي كان عالمًا بالهندسة والنجوم، وابن المعلم الذي كان عالمًا باللغة وماهرًا بالطب وغيرهم. أما الشعراء الذين عاشوا في ظل النورمان ونظموا قصائد المديح لهم فنذكر منهم: عبدالرحمن الأطرابنشي وعبدالرحمن البثيري، وعمر بن حسن وسراج بن أحمد وابن بشرون وغيرهم. وتجدر الإشارة إلى أن الشعر الغنائي الذي ساد صقلية في العصر النورماني كان ممزوجًا بالأغاني العربية المنتشرة بين العرب المسلمين في بالرمو.

ولا شك فقد كان علم الجغرافيا من أبرز العلوم التي ازدهرت على أيدي العرب في صقلية النورمانية. فمن المعروف أن روجر الثاني كان قد دعا إلى بلاطه الجغرافي المغربي الشريف الإدريسي، وشمله بكل مظاهر التكريم. وأنجز الإدريسي برعاية هذا الملك وتشجيعه ثلاثة إنجازات علمية وهي:

1 - صنع قرصًا (لوحًا) دائريًا من الفضة الخالصة ونقش عليه خريطة العالم المعروف آنذاك بأقاليمه وخلجانه وبحاره وأنهاره...إلخ.

2 - رسم مجموعة من الخرائط للعالم على الورق تفوق في دقتها ووضوحها خريطة بطليموس الشهيرة.

3 - ألَّف كتابًا بعنوان «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» وهو الذي عرف بالكتاب الروجاري، وهو شرح لما ورد في المجسم الفضي الذي نحتت عليه خريطة العالم. كما وضع الإدريسي كتابًا آخر في الجغرافيا للملك وليام الأول بعنوان «روض الأنس ونزهة النفس» والواقع أن ما أنجزه الإدريسي، في ظل رعاية الملوك النورمان، كان نقطة تحول في تطور علم الجغرافيا وجعل من الإدريسي أعظم الجغرافيين في العصور الوسطى.

كما حدث تطور كبير في تنظيم مهنة الطب في صقلية النورمانية بتأثير مباشر من الحضارة العربية. فتشير المراجع إلى أن معظم أطباء الملوك النورمان كانوا من الأطباء العرب المشهورين ببراعتهم العلمية والتنظيمية. ومن المؤكد أن هؤلاء أبلغوا الملك روجرالثاني بالإصلاح الذي سبق أن أدخله الخليفة العباسي المقتدر بالله في مهنة الطب . فقد أصدر هذا الخليفة عام 931م قانونًا بتحريم ممارسة مهنة الطب على أي طبيب ما لم يخضع لامتحانٍ في الطب أمام لجنة من الأطباء برئاسة طبيبه الخاص سنان بن ثابت بن قرة، وكان من ينجح في هذا الامتحان يّزود بترخيص أو إذن خطي يسمح له بممارسة المهنة. والسبب في ذلك أن طبيبًا كان قد أخطأ في معالجة أحد المرضى في بغداد فمات المريض. وبعد ذلك بقرنين أدخل روجر الثاني هذا النظام إلى بلاده حيث أصدر أمرًا يلزم فيه جميع الأطباء في المملكة بالحصول على إذن أو ترخيص خاص من موظف مختص وإلا تفرض عليهم عقوبات قاسية كالحبس ومصادرة الأموال. وقد أٌدخل هذا النظام من صقلية إلى الغرب الأوربي. وكان أساسًا صالحًا لإعداد طبقة من الأطباء الأكفاء.

الخاتمة:

وبناءً على ما تقدم فقد شكلت الحضارة العربية في صقلية أساسًا متينًا للحضارة النورمانية التي قامت على أرضها، بل إن الموقف الإيجابي للنورمان من الحضارة العربية وتفاعلهم العميق معها، جعل صقلية من أعظم بلدان أوربا حضارةً في القرن الثاني عشر. ومن نافلة القول أن نذكِّر بأن انطلاق الشرارة الأول، للنهضة الأوربية الحديثة، من إيطاليا بالذات، وقبل أي بلدٍ آخر، كان بتأثيرٍ مباشر من حضارة العرب في صقلية.

 

 

عادل زيتون