ذكريات سعيدة

ذكريات سعيدة

على عكس مقولة «المال لا يشتري السعادة»، يعتقد ميك فيكنيغ - مؤسس معهد بحوث السعادة بكوبنهاغن - أن المال يمكن أن يفعل ذلك؛ ويدلل على ذلك بتتويج كل من فنلندا، والدنمارك، وأيسلندا التي تتمتع بمعدل ناتج محلي إجمالي يتراوح ما بين 53 - 74 ألف دولار سنويًا لكل نسمة، كأسعد ثلاث دول في العالم لسنة 2023 - حسب تقرير سعادة العالم الذي يشارك في إعداده مع عدد من الخبراء المستقلين - وكون الدول الغنية أسعد من الدول الفقيرة. أما مشكلة غياب السعادة في بعض الدول الغنية، أو تفاوت مستواها في بلدان متقاربة الدخل، فذلك بسبب التفاوت في القدرة على تحويل الثروات إلى رفاهية. فدول الشمال، مثلًا، أفضل من غيرها في تحويل الثروات إلى نوعية حياة للشعوب، نتيجة لتوفير خدمات عديدة كالرعاية الصحية، والدعم الاجتماعي. 

 

من خلال معهد بحوث السعادة، الذي تأسس في 2013، وكان الأول من نوعه في العالم، أصدر فيكنيغ، وفريقه البحثي، تقارير حول موضوعات متنوعة لرفع الوعي المرتبط بالسعادة، كتقرير «البيت السعيد»، الذي يلقي الضوء على تأثير التصاميم والأماكن على نوعية الحياة، ويؤكد أهمية الاستدامة الاجتماعية مع توصيات لتحسين مستوى السعادة في البيوت والمجتمعات. وتقرير «حيوات سعيدة ومديدة» الذي يتناول تحديات التقدم في العمر وسبل مواجهتها؛ هذا إلى جانب إلقاء محاضرات وتقديم استشارات حول نشر السعادة وتحويل الثروات إلى رفاهية للعديد من الحكومات والمدن والمنظمات.
يعتقد فيكنيغ أنه لا معنى للنمو الاقتصادي إذا لم يترجم إلى مزيد من الرفاهية في صورة إتاحة أوقات للراحة من دوامة العمل، والاستمتاع بالحياة وبالعلاقات الاجتماعية. ومع تأكيده على أهمية الاستقرار المالي، والشعور الطيب الذي يتشكل عند التحرك من الفقر إلى مستوى الراحة، بسبب واقع الرابط بين المال والسعادة - حيث تغيب السعادة مع قلة المال وعدم القدرة على توفير الحاجات الأساسية - يؤكد في الوقت نفسه على ضرورة تذكر ألا نترك المحفظة تتحكم في سعادتنا، ونتيقن أن الحل ليس في مطاردة المال بصورة عمياء، بل في كيفية استخدامه لرفع مستوى السعادة؛ حتى لا يتسبب المزيد في تراجع الشعور بالمتعة، مثلما لا تكون سابع قطعة حلوى بنفس روعة القطعة الأولى، ولا تمثل إضافة ألف دولار إلى مبلغ مليون دولار الكثير، حسب دراسة لجامعة برينستون؛ مشيرًا إلى دراسة هارفرد التي وجدت، منذ عشرات السنين، أن العلاقات أهم من المال أو النجاح، عندما يتصل الأمر بالسعادة. 

لحظات سعيدة
في كتابه «لحظات سعيدة»، يرى فيكنيغ أن اللحظات الرائعة التي تتحول إلى ذكريات سعيدة تلازمنا مدى الحياة يمكن خلقها خلقًا. وذلك في ضوء دراسة علمية واسعة النطاق أجراها معهد بحوث السعادة عام 2018 وتناولت الذكريات السعيدة. وكان من بين أهدافها استكشاف إمكانية التأثير على شعور الناس بالسعادة، عندما يتم حثهم على التفكير فيما مضى، واسترجاع الذكريات العزيزة. 
واستجابة للطلب من المشاركين وصف ذكرياتهم السعيدة، تم تلقي أكثر من ألف ذكرى من خمسة وسبعين دولة منها البرازيل وبلجيكا، والنرويج، ونيبال، ونيوزيلاندا، وغيرها. وجاء تدفق الذكريات من مختلف الأجيال، ومن أشخاص سعداء وآخرين حزانى. ودارت بعض الذكريات حول أشياء بسيطة تجسدت عبر وصف لمشاعر الاستلقاء في الشمس وانعكاسات أشعتها على البشرة؛ وتناول نوع مفضل من الجبن في شطيرة؛ ومشاهدة مباراة كرة قدم مع شخص عزيز؛ وذكريات أخرى وصفت مغامرات في الحياة، وأسفار، وتغيير مناطق السكن؛ وذكريات أوقات «مجنونة» عاش الناس فيها تجارب استثنائية مثل القفز من أماكن عالية، والتزلج على الجليد؛ وذكريات انتصارات، كتخطي الامتحانات، والفوز الساحق في لعبة من الألعاب، ومخاطبة جمهور على خشبة مسرح؛ وذكريات أخرى من تفاصيل الحياة اليومية، كالتمتع برؤية شروق الشمس، وإنفاق المساء في تناول كعك، وتبادل أحاديث دافئة مع الأمهات؛ وذكريات ذات علاقة بالطبيعية، مثل التنزه في الغابات، أو السباحة في بحيرة تحت ضوء القمر. وحول إجازات العائلة واللعب على الشواطئ، ومشاهدة الكرتون، والأيام الرياضية في المدرسة، ولعبة شد الحبل، وزيارة الأصدقاء، والأقارب، والعيش في المعسكرات، والغناء في السيارة. وكانت كثيًرًا من الذكريات مرحة، ويجمع بعضها أشخاصًا داعمين في أوقات صعبة. حتى بدت تلك الذكريات في مجملها قطعًا صغيرة في أحجية تجسد اللحظات السعيدة ومكوناتها.  

التجارب الأولى وذات المعنى
كشف تحليل بيانات الدراسة عن أنماط بعينها، وضحت - بين أمور عديدة - أن الناس عادة ما يتذكرون الخبرات الجديدة، وما عاشوه ومروا به لأول مرة. ولهذا تتدفق الكثير من الذكريات من أول أيام المدرسة والجامعة والعمل، وأول الزيارات إلى الأماكن والأشخاص، وأول اللقاءات. وما يجعل الذكريات لا تنسى أن تكون نابعة من خبرات لها معنى. فنحن ننتبه عندما نكون مشاركين في الأحداث، وحين نعيشها بعمق ومغزى؛ كما في الأيام المميزة التي ربطتنا بمن نحب، لتتحول اللحظات الخاطفة فيها كنوزًا لا تقدر بثمن.  
وتبين أن الذكريات ذات الطبيعة العاطفية تشكل فرقًا، عندما نتذكر أحداثًا شعرنا خلالها بالفرح العارم، أو بالخوف الشديد، أو الغضب، أو الإحراج. وكانت أكثر من نصف ذكريات الدراسة المذكورة حول خبرات عاطفية متصلة بأطفال تولد وتكبر، وأشخاص يتخرجون، وآخرون يتزوجون ويحققون أحلامهم. ومما يذكر، وفقا لدراسة أخرى أجرتها جامعة فيرمونت، يزيد شعور الناس بالسعادة في نهاية الأسبوع وفي المناسبات السعيدة، كالأعياد، وذكرى الانتصارات، بينما يتراجع هذا الشعور في أول يوم عمل في الأسبوع، ومع حدوث منغصات، أو كوارث طبيعية، واندلاع الحروب.
وبقدر ما تخاطب حواسنا، تبقى الذكريات واضحة وقوية، كذكريات الروائح المفضلة، وطعم ومذاق الأطباق المميزة في الأزمنة الماضية، ولا سيما تلك المنبعثة من المخبوزات وطبخ الأمهات. كما تكون لتجارب الذروة وكفاح المعاناة وقعًا فيما يتعلق بذكرياتنا الغالية؛ وكلما اشتدت المعاناة، صار الشعور بالانتصار أحلى. 
هذا، ويمكن أن تبرز الذكريات العزيزة من أرشيف الألبومات، وملفات الصور، والفيديوهات، وحكايات المذكرات، والرسائل الورقية والرقمية التي تجسد جوانب من أحوالنا وأفكارنا، وتصف ملامحنا وملابسنا، وعواطفنا وتفاصيل حيواتنا. ولهذا يفضل حفظ الصور المؤثرة وطباعة بعضها الرقمي، حتى لا نخاطر بخسارتها، وضياع ذكرياتنا معها. تمامًا مثل عديد من اللحظات التي تكاسلنا عن تسجيل انطباعاتنا حولها، ولم نلتقط صورًا لتوثيقها، فبهتت وتلاشت مع الوقت. فالذكريات في آخر الأمر عملية بناء عقلي نشيده تشيدًا، ثم نصونه. 

الذكريات جسور 
تتميز الذكريات بكونها جسورًا تستطيع أن تقربنا من الناس، ففي علم النفس توجد أسئلة توثق الصلات بين الناس، يتعلق بعضها بالذكريات مثل: ما أغلى ذكرياتك؟ وما أسوأ ذكرياتك؟ وما أكبر إنجازاتك في الحياة؟ إضافة إلى سرد قصة الحياة بتفاصيل، ومشاركة لحظات مدهشة من الطفولة. 
وما يؤكده الخبراء أن الذكريات السعيدة جيدة للصحة، ولا سيما بالنسبة لمن يعيشون وحدة أو غياب المعنى أو حالة اكتئاب؛ فببعض الجهد يمكن مساعدتهم على استدعاء الذكريات السعيدة والبحث عن تفاصيل مبهجة كالروائح العبقة، والألوان الزاهية، والأصوات الجميلة. كما يعتبر الحنين للماضي موضوعًا جذابًا في الحياة، وفي البحث العلمي ومجال الإعلانات، لما يجلبه استدعاء الذكريات من شعور طيب. وقد بينت الدراسة المشار إليها إلى أن ثمانين في المئة من المشاركين قالوا إنهم يعيشون الحنين للماضي - مرة في الأسبوع على الأقل - في أحداث أيام مضت، وفي دفء وحكايات شخصيات مميزة مرت بحياتهم. وهناك أدلة علمية تؤيد تدفق الشعور الطيب وتحسن مستويات تقدير الذات مع تذكر أوقات كان الشخص فيها محبوبا، أو مدللا، أو ناجحا، أو جميلا. ومن النتائج أيَضا، وجود علاقة بين الكلمات التي يستخدمها المشاركون لوصف ذكرياتهم السعيدة وسعادتهم اللحظية، فإذا استخدموا كلمات سعيدة، تصبح لحظاتهم أكثر سعادة.

خطة للمستقبل 
يقترح فيكنيغ في كتابه المذكور خطة سنوية لخلق ذكريات سعيدة كالتالي:
يناير: تحديد أيام السنة المهمة، سواء على المستوى العام أو الشخصي لربط ما يجري من فعاليات وأنشطة، يمكن أن تتحول فيما بعد إلى ذكريات جميلة، تجمع أفراد العائلة والأصدقاء، كأعياد الميلاد، والأعياد القومية، ومناسبات كيوم الأرض، وعيد الأم، وعيد العمال، وغير ذلك.  
فبراير: مواجهة الخوف لصنع أسعد الذكريات، كأن يقوم الشخص بمغامرة ما، مثل الحديث أمام جمهور. 
مارس: تخصيص أوقات للتواصل، والقيام بأعمال بسيطة من أجل الأحباء، أو إرسال رسائل امتنان لمن قدموا لنا المساعدة، لجني كنوز الذكريات لأنفسنا، ومنح الأطراف الأخرى مثلها.  
أبريل: الانتباه إلى السعادة، بمحاولة معرفة الأشياء التي تجلبها لنا؛ فالذكريات تحتاج إلى انتباه. وعندما ننتبه، نتذكر بوضوح أكبر. ومن الممكن تخصيص أسبوع لكل حاسة من الحواس الخمس. فتنتبه في أسبوع للأصوات التي تسعدنا، وفي أسابيع أخرى نركز على المشاهد الرائعة في الحياة، والروائح المحببة، والملمس المفضل، والمذاقات اللذيذة الجاذبة للسعادة. كأن نتوقف لنشم رائحة القهوة، ونتذوق طعم خبز طازج، وننصت إلى أصوات الضحكات. ويمكننا تسجيل انطباعاتنا من وقت لآخر، لنراقب ما يحدث من تغيير يطرأ على مثيرات السعادة.  
مايو: وقت التخطيط للحظات لا تنسى، بعد استكشاف أحلام السنة التالية، والمستقبل الذي نريد أن تتذكر ونبتسم؛ بعد ذلك يأتي وقت الخطوة الأولى من التنفيذ، كأن ننظم رحلة، أو نطلق مبادرة.  
يونيو: استعادة الذكريات المتعلقة بأوقات ممتعة مرت عندما زرنا أماكن، أو حضرنا مناسبات وشعرنا بالسعادة، ومن الجيد إشراك الأهل والأصدقاء في استرجاع تفاصيل هذه الأوقات الحلوة. 
يوليو: تنظيم أنشطة أو خوض تجارب لأول مرة، كزيارة مطعم وتذوق طبق جديد من ثقافة مختلفة، أو زيارة مكان غير عادي، أو دعوة الأهل للمشاركة في نشاط أو رحلة لصنع ذكرى لا تنسى.  
أغسطس: تغيير الروتين اليومي من أجل التجديد، واكتشاف طريق بديل للوصول إلى العمل والعودة للبيت، وسبل مختلفة للأداء في العمل والمنزل. 
سبتمبر: البحث عن تجربة ذروة، بتذكر أوقات معاناة مررنا بها؛ أو خوض تجربة ما، مثل الإبحار، أو المشي لمسافات طويلة، أو أية تحديات أخرى.
أكتوبر: اللعب مع الأصدقاء والأطفال بصورة مختلفة، وعيش خبرة جديدة تستحق الحكي فيما بعد في سياق الذكريات السعيدة. 
نوفمبر: وضع قائمة لأشياء جديدة نود تجريبها، هواية جديدة، أو مهارة لم تكتسب من قبل تمنح شعورًا بالإنجاز، وتحسن الثقة بالنفس، ويمكن استلهام الأفكار من شتى المصادر.  
ديسمبر: آخر العام من الأوقات الجيدة لالتقاط الصور الرقمية، أو تجميع الصور التي تلخص أحداث السنة المنصرمة التي تشكل لحظاتنا السعيدة.
المهم أن نواصل طرح أسئلة، مثل: كيف نصبح أسعد؟ وكيف نودع أحلى اللحظات في بنك الذكريات؟ وكيف نحلم، ونعزز قدرتنا على السفر في الزمن لنعيش الذكريات مرارًا وتكرارًا، أو نحاكي تحقق أحلام المستقبل لنخلق ذكريات جديدة تسعدنا إلى الأبد ■