«اللباد» أقدم الأقمشة على مر التاريخ

«اللباد» أقدم الأقمشة على مر التاريخ

يعتبر اللباد أقدم أنواع الأقمشة التي صنعتها البشرية على مر التاريخ، وهو ذو أصول متواضعة، بحيث نشأ في الثقافات الصوفية القديمة، فلم تتطلب صناعته أي مهارات عالية، ولكنه كان جزءًا لا يتجزأ من حياة الإنسان على مدى آلاف السنين، كما أنه يحمل وزنًا ثقافيًا عميقًا في الثقافة العربية، حيث يعود تاريخه إلى العصور القديمة عندما استخدمت القبائل العربية اللباد في صناعة العباءات وأغطية الرأس وكذلك في الخيام والبسط وأغطية الجدران والتمائم، فأصبح عنصرًا مهمًا في التعبير عن الهوية والتراث العربي بامتياز. يتميز اللباد بأنه قماش متين وعازل للحرارة والضوضاء ومتعدد الاستخدامات، لذلك توارثته الأجيال في حضارات متعددة، وفي مختلف أنحاء العالم، وبقي حتى يومنا هذا ليحافظ على جاذبيته وقيمته العملية، لا سيما أنه من أكثر الأقمشة استدامة على الإطلاق.

 

يشير المفكر والشاعر البريطاني تشارلز توملينسون في «موسوعة الفنون المفيدة» التي حرّرها في 1854م، والتي ركزت على التصنيع والتعدين والهندسة، إلا أن «اللباد المضغوط هو أحد أقدم أشكال الأقمشة غير المنسوجة على الإطلاق»، فهو أحد أوائل المنسوجات التي صنعها الإنسان كونها لا تتطلب لا حياكة ولا نولًا ولا حتى مهارات عالية في صناعتها. فقد بدأت صناعة اللباد منذ حوالي 8000 عام، أي قبل ألف عام من أقدم أشكال النسيج، ولكن لا أحد يعرف منبعه الأصلي بالتحديد، بحيث إن لكل من الثقافات المتنوعة أسطورتها الخاصة فيما يتعلق بجذوره الأولى. تقول إحدى الأساطير السومرية، إنه تم اكتشاف اللباد من قبل البطل المحارب «أورنامان» من مدينة لجش (التي تقع غرب منطقة الكرمة القريبة من البصرة وشرق مدينة أورك حاليًا)، الذي عرف بكثرة أسفاره وشجاعته وتعاطفه وقدراته الإبداعية. 
بينما يعتقد البعض الآخر أنه خلال القرن الأول بعد الميلاد، اكتشف القديس إكليمندس (الذي أصبح فيما بعد الأسقف الرابع لروما) عملية صناعة اللباد عن طريق الصدفة عندما ملأ حذاءه بالصوف، لجعله أكثر راحة، ولمنع حدوث تقرحات على قدميه في رحلته الطويلة عند فراره من الاضطهاد، ومن ثم لاحظ أن الرطوبة المنبعثة من تعرق قدميه ورطوبة الأرض، بالإضافة إلى تأثير ضغط قدميه أثناء سيره أدى إلى تشابك ألياف الصوف معًا وتحولها إلى نوع من القماش المتماسك السميك. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه بعد هذا الاكتشاف، أنشأ القديس إكليمندس مجموعات من العمال لتطوير عملية التلبيد، ونتيجة لذلك، أصبح شفيع صانعي القبعات المصنوعة من اللباد في العالم. ومن المعروف أيضًا أن سائقي الجمال العرب، ولإراحة أقدامهم، كانوا يستخدمون صوف الإبل الذي كان يغير شكله مع رطوبة وحركة الألياف أثناء المشي، وينتج قماش اللباد المتشابك المتماسك.
ولكن، بعيدًا عن الأساطير يمكن التأكيد على أن النماذج الأولى للباد المصنوع بالطرق التقليدية تعود إلى القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد في آسيا الوسطى، حيث توجد أدلة على صناعة اللباد في سيبيريا لا سيما في مواقع معينة باتجاه شمال منغوليا. ففي مدافن بازيريك في سيبيريا (وهي عدد من المقابر من العصر الحديدي الموجودة هناك)، التي تعود إلى ما بين القرنين القرن السابع إلى الثاني قبل الميلاد، كشفت الحفريات أن اللباد كان يستخدم كبسط وكغطاء للجدران، وفي صناعة السروج والتمائم، وقد تم العثور على أقدم سجادة في العالم يعود تاريخها إلى القرن الخامس قبل الميلاد في هذه المدافن. من جهة أخرى، وفي مكان آخر في العالم، يحتفظ المتحف الوطني في العاصمة الدنماركية، كوبنهاغن، بأغطية مصنوعة من اللباد الصلب من العصر البرونزي المبكر التي يعود تاريخها إلى حوالي 3500 عام قبل الميلاد، والتي عثر عليها في ساحات القبور التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ في جزيرة جوتلاند في السويد.

اللباد والثقافات الصوفية
تقول المؤرخة السويدية أغنيس جيجر المتخصصة بتأريخ صناعة النسيج إنه «يمكن تسمية معظم الحضارات في العالم القديم بالثقافات الصوفية»، ولذلك نجد أن سبب ظهور اللباد يعود في الأساس إلى العلاقة التكافلية بين البشر وحيوانات المزرعة، وخاصة الأغنام، التي قامت بتربيتها العديد من القبائل البدوية وشبه البدوية في وسط وغرب آسيا، بدءًا من منغوليا والصين وصولاً إلى تركيا. أما من الناحية التقنية، فاللباد عبارة عن مادة يتم الحصول عليها عن طريق وضع أصواف الحيوانات، مثل ماعز الأنجورا والأغنام والأرانب والإبل واللاما في بيئة قلوية مكونة من الماء الدافئ والصابون والحرارة، وذلك بعد فرز ألياف الصوف الخام لتوجيهها بشكل متوازٍ؛ ومن ثم توزيعها في طبقات وغمرها بالماء الدافئ والصابون مما يساعد على تشابكها بشكل أكثر فعالية. بعد ذلك تُدحرج الألياف المتداخلة، وتُضغط مرارًا وتكرارًا، مما يؤدي إلى تشابكها وتكوين نسيج كثيف. وبعد عملية التلبيد يمكن إضافة الصبغة على الصوف المتماسك، وتلوينه باللون المطلوب ومن ثم تجفيفه. والجدير بالذكر أن السبب الحقيقي لحدوث عملية التلبيد غير معروف، ولكن هناك اعتقادًا بأن الأمر يتعلق بالتداخل الموجود في شعيرات الصوف، أو بالشكل المسنن الفريد لأسطحه، كما أن للصوف خاصية محبة للماء وهو الأكثر قابلية للاتحاد مع الماء بين جميع الألياف الطبيعية، بحيث إن سطحه الخارجي مقاوم للماء والجزء الداخلي عالي الامتصاص.

قبعات وأحذية وعباءات
على مدى عصور طويلة كان اللباد المستخرج من الصوف أكثر ما يستخدم في صناعة الملابس والخيام والبطانيات، والبسط والسروج والتمائم. وتحديدًا، بسبب خصائصه العازلة للحرارة، تم استخدام اللباد في صناعة الملابس والأحذية الدافئة المقاومة للعوامل الجوية، وابتداءً من العصور الوسطى، لعب اللباد دورًا مهمًا في الموضة، وكان يُستخدم في صناعة العديد من الألبسة، بما في ذلك القبعات الرجالية. وفي الواقع، بعد أن ارتدى تشارلز السابع ملك فرنسا قبعة مصنوعة من اللباد من صوف القندس عام 1449م، أصبح هذا النوع من القبعات رائجًا جدًا لدرجة أن القنادس انقرضت في أوربا الغربية في أواخر القرن السادس عشر. وفيما يخص الأحذية فلا بد من الإشارة إلى حذاء فالينكي (التي تعني باللغة الروسية مصنوعة بالتلبيد)، وهو الحذاء الروسي التقليدي الشهير ذو الساق الطويل المصنوع من صوف الخروف أحيانًا، ومن صوف الإبل أحيانًا أخرى الذي تم إنتاجه في روسيا في القرن الثامن عشر؛ ومن ثم أصبح الحذاء الرئيسي للقرويين الروس في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وكان يُعتقد أن البدو الآسيويين كانوا يرتدونه منذ أكثر من 1500 عام. كما يمكن الإشارة إلى العباءة العربية المصنوعة من اللباد التي تعد جزءًا أساسيًا من الزي التقليدي في العديد من البلدان العربية، والتي توفر الراحة والدفء لا سيما في الجو الصحراوي البارد.

جزء أساسي من التصميم المنزلي
من ناحية أخرى، كان نسيج اللباد مادة شائعة في التصميم الداخلي للمساكن القديمة لعدة قرون، فكان يغطي الجدران الداخلية والخارجية للخيام، لا سيما خيمة اليورت الشهيرة التي هي عبارة عن خيمة محمولة تستخدم كمسكن للبدو الآسيويين بما في ذلك المنغوليين والكازاخستانيين والأوزبك والقرغيزستان، والتي تعتبر الآن رمزًا للتراث القرغيزي، وكذلك في الخيم العربية، حيث كان اللباد جزءًا أساسيًا من بناء الخيم العربية التقليدية، وكان يقدر لقدرته على الحماية من العوامل الجوية المختلفة بفضل مواصفاته المتميزة مثل العزل الحراري والمتانة. كما كان اللباد يمتد على الأرضيات لدواعي التدفئة. 
واستمر استخدام اللباد حتى يومنا هذا عندما أصبح عنصرًا أساسيًا في التصميم الداخلي المعاصر ابتداء من تنجيد الأثاث إلى أغطية الجدران، ومن الستائر إلى إكسسوارات الديكور، وذلك لأنه قماش متين ذو مظهر فريد يمكن صباغته بمجموعة واسعة من الألوان؛ مما يجعله متعدد الاستخدامات بحيث يضيف الدفء والعمق والبعد البصري الجميل إلى أي مساحة. كما أن جاذبيته تعود إلى كونه يتميز بعدد من الخصائص الفيزيائية والتقنية التي تجعله قماشا مناسبًا للاستخدام في مجال الهندسة المعمارية المستدامة، فاللباد قادر على تخفيف الصوت في الهواء بنسبة 50 في المئة؛ مما يجعله خيارًا مناسبًا كستائر في غرف النوم والجلوس، بالإضافة إلى قدرته على امتصاص الرطوبة ومنع نمو العفن والفطريات، فكان ملائمًا للأماكن ذات الرطوبة العالية، مثل الحمامات والمطابخ. 
وبسبب خصائصه التي تحافظ على الماء وبروتين الكيراتين، فهو مقاوم للهب بشكل طبيعي، ويحترق ببطء عندما يشتعل لذلك هو مثبط للهب، ويتميز بقدرته على الإطفاء الذاتي؛ وفوق كل ذلك فهو مادة عضوية قابلة للتحلل بالكامل؛ وبالتالي إلى إعادة التدوير والاستخدام؛ مما يجعله مثالاً رائعًا للمواد المستدامة. ولكل هذه المزايا، وفي عصر يتسم بالاهتمام المتزايد بالاستدامة، يأتي اللباد في الصدارة كأحد أفضل الأقمشة لتحقيق الاستدامة على مستويات مختلفة.
ومؤخرًا نجد أن اللباد دخل في صناعة السيارات والآلات الموسيقية، فعند استخدامه في صناعة السيارات، يسهم في تخفيف الاهتزازات بين الألواح الداخلية، ويمنع دخول الأوساخ إلى بعض مفاصل أثاث السيارة. وفي الآلات الموسيقية يستخدم اللباد أيضًا لتخفيف الاهتزازات عندما يتم استخدامه على طبلة الصنج وطبلة الجهير ومضرب التيمباني، بالإضافة إلى مطارق البيانو المصنوعة من الصوف. وعندما يتم تأطير اللوحات الفنية، يتم وضع اللباد بين اللوحة والإطار حتى لا يتسبب الإطار في إتلاف اللوحة.
أخيرًا، يمكن القول إن «اللباد» ليس مجرد قماش يشهد على الابتكار والإبداع البشري، لكنه، ومنذ أصوله الأولى في العصر الحديدي إلى تطبيقاته في العصر الحديث، استمر في المحافظة على فعاليته بمزيجه الفريد من القابلية للتكيف، وميزاته الوظيفية والجمالية الفريدة. وبفضل تاريخه العريق وتطبيقاته المتنوعة، بقي خيارًا موثوقًا ودائمًا يقاوم اختبار الزمن بحيث تتعدى جاذبيته الحدود الثقافية والجغرافية لمختلف بلدان العالم مرورًا، بالطبع، بالتراث والثقافة العربية ■