سؤال السيرة الفلسفية

سؤال السيرة الفلسفية

انتظر قراء المفكر المغربي طه عبدالرحمن على مستوى العالم العربي ككل صدور كتابه «سؤال السيرة الفلسفية»، وقد صدر الكتاب أخيرًا مؤطرًا بعنوان فرعي: «بحث في حقيقة التفلسف الائتمانية» الذي يعبر عن الوصف الذي خص به فلسفته، أو لنقل الفلسفة الحقة كما يراها هو. ولا جدال في أن هذا الضرب من الكتابة يلقي الكثير من الضوء على بعض البيضات، أو سوء الفهم، أو شروط الإمكان ذات الصلة بفلسفة كاتب السيرة، وقد سبق للدكتور محمد عابد الجابري الذي يعتبر من كبار المفكرين المغاربة إلى جانب عبدالله العروي وطه عبدالرحمن أن كتب هو الآخر «حفريات في الذاكرة من بعيد» قبل أن يغادر إلى دار البقاء، 

 

لعل الإحساس بدنو الأجل من بين الاعتبارات التي تقود إلى هذا النوع من البوح الذي يعبر عن أصالة الفيلسوف الذي ينشد الحق، حفظ الله مفكرينا ومن سار على دربهم في حمل هموم الأمة والإنسان بما هو إنسان، فضلاً عن الرغبة في توضيح ما كان موضوع خلاف بعد أن يبلغ المشروع الفكري درجة من الاكتمال.
بالعودة إلى الكتاب الذي صدر خلال شهر  أغسطس من العام 2023 عن مركز نهوض للدراسات والأبحاث، نجد أنه وقع في أكثر من 500 صفحة، وتوزع على ستة فصول، يتقدمها تمهيد عام ويتوجها ملحق يقف من خلاله الدكتور طه عبدالرحمن عند ما يسميه تهافت نظرية النبوة عند فلاسفة الإسلام من خلال ثلاثة إشكالات، هي إشكال التجريد العقولي الذي يتمحور حول القول بوجود عقول مفارقة، وإشكال التأييد النبوي الذي يتعلق بما سمي في ثقافتنا بالاتصال بالعقل الفعال، ثم إشكال التخييل النبوي الذي يدور على الادعاء بأن أخبار الأنبياء على العالم الآخر عبارة عن تخيلات للحقائق، وكأنما الأنبياء لا يسعهم إلا أن يتخيلوا ما يستطيع الفلاسفة تعقله وتقديمه في صورة علمية لا في صورة عامية كما يفعلون، وهي الإشكالات التي قادت إلى بلورة نظرية للنبوة ساهمت في مخالفة الموعد من بناء هؤلاء الفلاسفة لأنموذج حقيقي للسيرة الفلسفية، وهو ما يكشف عنه طه عبدالرحمن من خلال فحصه لأدلتهم والكشف عن مواطن ضعفها وتهافتها. أما خاتمة الكتاب، فقد حاول أن يكشف من خلالها عن شروط إمكان قيام فلسفة إسلامية حقة.

مفهوم السيرة الفلسفية 
يؤطر هذا المفهوم الذي رام طه عبدالرحمن تقريبه إلى القراء على طريقته الخاصة مبدأ يسميه مبدأ التصديق، وقد ربط السيرة الفلسفية بالإبداع الفكري محاولاً تجديد النظر في الموضوع المعرفي للفلسفة من حيث كونها سيرة حية وليست فكرًا مجردًا، فكذلك كانت في الأصل وكذلك ينبغي أن تكون، ومن ثمة لابد أيضًا من تجديد النظر إلى المنهج الاستدلالي الفلسفي، إذ لا ينبغي أن يختزل في أدوات العلم وإلا لكان ذلك إعلانا عن نهاية الفلسفة التي لا ينبغي أن تكون تابعة، لأنها لم تكن كذلك في الأصل، أي لم تكن تخصصًا أكاديميًا مجردًا بل فنا في العيش وسيرة حية، وقد كان هذا التوجه مدخلًا فتح من خلاله طه عبدالرحمن حوارًا من بيير هادو Pierre Hadot الذي سبق أن أعلن هو الآخر عن ذلك، قبل أن يحدد ما تتميز به رؤيته وهي ارتباطها بالحكمة من حيث كونها معرفة وجودية وعقلية وسلوكية وهي أعلى درجة من الفلسفة نفسها.

أركان السيرة الفلسفية
انطلق طه عبدالرحمن في إبراز هذه الأركان من النموذج السقراطي، لعدة اعتبارات من بينها الأسبقية الزمنية لسقراط والأسبقية المعرفية وجمعه في نهجه الفلسفي بين الفلسفة وحياته كفيلسوف، بشكل يجعل من وعيه الفلسفي وعيًا ائتمانيًا يرى أن الحكمة أمانة وأنها السبيل لمقاومة الجهل وتشخيصه عبر أعدائه قبل مطاردته وإقباره، ومن هذا المنطلق لا يجد الدكتور طه عبدالرحمن حرجًا في التصريح بأن أول ركن من أركان السيرة الفلسفية هو التشبه بالنبي، فضلاً عن ركني التفكر والتخلق الفطري، ولما كان الأمر كذلك كان من الطبيعي الإقرار بأن ما تنشده السيرة الفلسفية، إنما هو السعادة التي لا تتحقق إلا عبر الاتصال بالأفق الإلهي، علمًا بأن هذا الضرب من الاتصال لا يتنافى مع السيرة من حيث هي سيرة حيت تتبلور في إطار دنيوي ولكن بروح ائتمانية.

التحريف الأول لمفهوم السيرة الفلسفية
يقف الدكتور طه عبدالرحمن في هذا الفصل، وفي الفصلين المواليين، على نماذج لتجارب فلسفية حرفت المعنى الأصيل للسيرة الفلسفية، وينطلق في ذلك من ربط هذه التجارب في العالم الإسلامي بنظيرتها وأصولها في العالم الغربي، وعلى هذا الأساس يكشف في هذا الفصل عن أول تحريف وهو يرتبط بكل من أفلاطون ونظيره في ملتنا أبو بكر الرازي، ومدار هذا التحريف نقل مبدأ التشبه في السيرة الفلسفية من النبي إلى الإله، وبالتالي ضرب الركن الأول من أركانها، فتصير سيرة فلسفية باطلة مدارها نظرية التطهر وإنكار النبوة ركنًا أساسيًا للسيرة.

التحريف الثاني للسيرة الفلسفية
يكشف هذا الفصل على نموذج لسيرة فلسفية خالفت الموعد مع مبدأ التفكر لصالح مبدأ التنظر، وهو ما قاد ضمنيًا إلى الخروج عن الركن الثاني من أركان السيرة الفلسفية كما حددها طه عبدالرحمن، وقد ارتبط هذا النموذج بالتقليد والتمجيد المبالغ فيه من قبل فلاسفة الإسلام لأرسطو، ويخص طه عبدالرحمن فيلسوف سرقسطة أبو بكر ابن باجة في هذا الفصل بالذكر، فهو نظير أرسطو في العالم الغربي، هذا الأخير انتصر للفلسفة كتنظر وقد انعكس ذلك على فلسفته برمتها حتى على نظريته في الأخلاق وسار على نهجه فلاسفتنا كما فعل ابن باجة في فلسفته عندما حرص على فصل النظر عن العمل وعن التصوف، وهنا يجد طه عبدالرحمن نفسه مضطرًا للرد على نقد ابن باجة للغزالي.

التحريف الثالث للسيرة الفلسفية
إذا كانت تبعية أبي بكر الرازي لأفلاطون قد قادت إلى ضرب ركن التشبه بالنبي، أول أركان السيرة الفلسفية، لصالح التشبه بالإله، وكانت تبعية أبي بكر ابن باجة لأرسطو، قد قادت إلى ضرب ركن التفكر، ثاني أركان السيرة الفلسفية، لصالح مبدأ التنظر، وكان هما معا نموذجين للتعبير عن حال فلاسفة الإسلام في المشرق والمغرب خلال المرحلة الوسيطية التي امتد أثرها على المفكرين العرب المعاصرين إلى اليوم، فجعل أغلب فلاسفتنا في الماضي والحاضر على حد سواء مقلدين لا مجددين، فإن طه عبدالرحمن لا يجد حرجًا في الكشف عن معالم استمرار هذا النهج داخل الفكر العربي المعاصر على شكل قوامه، ليس التبعية للمقلدين الأوائل، بل استمرار نهج التبعية المباشرة، ومن هذا المنطلق يقف عند تجربة عبدالرحمن بدوي التي هي نظير التجربة الفلسفية لفردريك نيتشه في العالم الغربي، ومدارها تحريف الركن الثالث من أركان السيرة الفلسفية من خلال الاستعاضة عن التخلق الفطري بالتخلق الغريزي، فمن المعلوم أن فلسفة نيتشه قدمت نفسها على أنها ثورة على سقراط، الأنموذج الحق للسيرة الفلسفية، ومرد ثورته تلك إلى جهله بمفهوم الفطرة وفساد تصوره لمفهوم القيمة وضبابية أصل القيم لديه، وقد سايره في ذلك عبدالرحمن بدوي من خلال نصرته للتخلق الثوري المبني على العنف والتخلق الذاتي المبني على المِلك.

الأصل النبوي للسيرة الفلسفية
حاول طه عبدالرحمن في هذا الفصل الأخير أن يصحح مسارات التفلسف المنحرفة لدى كل هؤلاء ليبرز معالم ما يراه فلسفة حقة، وسيرة فلسفية على الحقيقة، وعلى هذا الأساس انطلق من إبراهيم عليه السلام أصلًا للسيرة الحية ونموذجًا يمكن الاقتداء به دون أن يتعارض ذلك مع مبدأ الإبداع الفلسفي، فصديقية النبي أحق بأن تتبع من قبل الفيلسوف، وإبراهيم أحق الأنبياء بأن يتشبه به الفيلسوف في ثورته. من ثمة يشابه طه عبدالرحمن بين السيرة الفلسفية لسقراط والدعوة النبوية لإبراهيم عليه السلام، بعد أن يكون قد كشف عن أطور هذه الدعوة: الطور التسديدي والطور التأييدي، ويرد في نفس الوقت على الدعوى المتهافتة التي تقوم على فكرة جهل سقراط بوجود إبراهيم عليه السلام.

على سبيل الختم
يرتد طه عبدالرحمن بالسؤال في خاتمة الكتاب إلى مقدمته، ونرتد معه نحن بهذا السؤال إلى تقييم التجربة الفلسفية في العالم الإسلامي. يتساءل متعجبًا ومعبرًا عن هذا الهم: «ألم يَانِ لنا، نحن المسلمين، أن نبدع في مجال الفلسفة كما أبدعنا في مجال العلم؟!». لقد حَسِب بعضنا أنفسهم فلاسفة بحق وسماهم من لحقهم فلاسفة الإسلام، ولم يجاوزا في الحقيقة كونهم علماء بالفلسفة لا فلاسفة، بحثوا عن سنن العلم لا عن سنن الفن فكنا ذلك سببًا من أسباب انقطاع الإبداع ضمن هذا المجال وصرنا تابعين لغيرنا مقلدين لهم ولا نزال.
الأعظم من ذلك، أن نصيب المتأخرين من الجمود والتبعية أوفر وأسوأ على حد تعبير طه عبدالرحمن، وذلك لأنهم أشد جهلاً بتراثهم بل لا يجدون حرجًا في التنكر له والدعوة الصريحة للتبعية، ولأن الفلسفة اليوم صارت أشد تبعية للعلم فاقدة قيمتها متناسية حقيقتها طالبة الموضوعية والحياد مكتسبة صيغًا منهجية صيرتها تخصصًا أكاديميًا وانشغالاً مهنيًا، وتسرب ذلك إلينا تحت تأثير مقولات رنانة أشهرها مقولة الحداثة.
لا سبيل إلى الخروج من هذا الوضع المتردي الذي لازم الفلسفة في العالم الإسلامي والعالم العربي إلا بأن تكون لدينا الشجاعة في «أن نكوِّن لأنفسنا مفاهيم وتصورات فكرية نستنبطها من عريق ثقافتنا، ونشتغل عليها بما أوتينا من قدرات عقلية ومعنوية، تدليلاً عليها وتطويرًا لها واستنتاجًا منها وتوظيفًا لها»، وحينئذ ستكون الفلسفة حبًا للحكمة على الحقيقة، الحكمة كما نراها لكما يراها غيرنا، على أساس أن الإطار العام هو طلب سعادة الإنسان وصلاح حاله، وهنا يؤكد طه عبدالرحمن أن «الفلسفة ليست هي، في الأصل، التفكير الذي يتوسل بالعقل المجرد، وإنما هي ممارسة حية تتوسل بالعقل المسدد، إصلاحًا للإنسان».
لأجل ذلك وجب الخروج بمفهوم الفلسفة عن معناه اليوناني المرتبط بفهم الطبيعة والسيطرة عليها بالمعنى الحداثي، فدلالة الحكمة لدينا غير ذلك ما دامت مرتبطة بإصلاح حال الإنسان، فهذا الإصلاح لا يتحقق في ثقافتنا بأسباب طبيعية بل بأسباب فطرية هي القيم والأخلاق وفي مقدمتها قيمة الصدق: صدق الذات والآخر، ليس صدق الفكر (النظري المجرد والموضوعي) وإنما صدق الحياة ■