«قصة كوريا» تفسير الظواهر الثقافية يبدأ من الجذور القديمة

«قصة كوريا» تفسير الظواهر الثقافية يبدأ من الجذور القديمة

ينظر الكثيرون باستخفاف للبنيـــة العميقة فـــي كـل ثقافة مـــن الثقافات الحية، وهناك مجموعة من القواعـد التي تشكــل «نحو» كل ثقافة وأسسها الخفية، وتظل مؤثرة فيها، ولذا يأتي امتدادها متصلاً بين كل أجزاء الثقافة وفروعًا. إنها مقـــولات أساسيــــة تشكــــل جذر الثقافة، والناظر لمحاولات تفسير المجتمعــات ومحاولات فهمها يجد الثوابت متواترة من مثل المكان وعبقريته، أو البيئــة وتأثيرهــا، أو العقـــائد وسطوتهـــا أو التاريـــخ القديم والرغبة في استعادته، وهكذا. وتقوم الحضارة الحقيقية على التواصل بين القديم والجديد، ولا يقدم الانقطاع عن الجذور القديمة سوى نشأة في الفراغ مبشرة بأفول قريب، وبخاصة في الأمم ذات الحضارة العريقة؛ إذ يصبح الانسلاخ عن الجذور مستحيلاً. 

 

وفي كتاب «قصة كوريا: فهم الكوريين وثقافتهم» ثمة محاولة لتحليل بناء الأمم القديمة بشكل خاص، وبطريقة تستبعد المصادفة. ويحاول البروفيسور تشوي جون شيك بيان «قصة كوريا: فهم الكوريين وثقافتهم»، والذي صدر منذ شهور قليلة عن المركز القومي للترجمة بمصر، بترجمة رائقة للدكتور محمود عبدالغفار بعد جوائز عديدة عن ترجماته عن الكورية، وبعد دراسته هناك، وإقامته بها لعقد تقريبًا، فيختار كتابًا يشرح - وفقًا لوعد عنوانه الفرعي- «فهم الكوريين وثقافتهم»، وهي ترجمة عن خبرة طويلة باللغة الكورية، ووعي شديد لثقافتها الحالية والغابرة.
ويركز الكتاب على تأثير مملكة «جوسون»؛ كونها آخر مملكة كورية، وأطولها عمرًا (1392-1897)، واستمرت حتى الاحتلال الياباني لكوريا، فكانت تمثل جماع التاريخ الكوري وخلاصته، وحاصل الثقافة التي نشأت على شبه الجزيرة الكورية. وكما يحلل المختلف والمتشابه من عناصر الوجود الكوري فإنه يتصدى لهدم تأثر الكوريين بشدة بالثقافة اليابانية إلا مع القرن العشرين، ويؤكد التأثير الطاغي للصين، ويؤكد - دون خجل - أن هناك الكثير من العناصر الثقافية الكورية تعود إلى أصول صينية.
ومحور الكتاب وجوهره بيان صلة كوريا القديمة والحديثة والمعاصرة، ويجاهر المؤلف - منذ المقدمة - بهاجسه الأساسي من الربط بين القديم والحديث واستكناه دوره القديم في تأسيس الجديد والتواصل التام معه، فيؤرخ مقدمته بتاريخ لافت 9-10-2017، وهو يوم الإعلان عن الأبجدية الكورية (هانجل)، وليس أدل على توقيره للماضي والبناء عليه من الإشارة إلى هذا التاريخ شديد الدلالة، وهو ما يسهل ربطه بالفصل الأخير الذي يركز على طبيعة المجتمع وتطوراته الحقيقية، ومكانة الشامانية في وعيه ولا وعيه؛ إذ يعتبر الكوريون الشامانيةَ محض خرافة، ومع ذلك، فعندما يواجهون مشكلات خارجة عن سيطرتهم يتوجهون على الفور إلى الشامان طلبًا للمساعدة. إن عقول الكوريين وقلوبهم تسكن في القديم برغم سباقها الحميم لإدراك آخر مستجدات العصر الحديث. 
وعلى الرغم من تركيز الكتاب على كوريا الجنوبية بحكم انتماء المؤلف لها فمن الأمور اللافتة للنظر في الكتاب أنه يمد بصره صوب كوريا الشمالية، وكأنه يريد أن يؤكد أن التقسيم الجغرافي للكوريتين لم يفلح في قطع أواصر اتصالهم القديم، وأن الاعتماد على خط 38 ليس مقياسًا، ويمكن عبور الظواهر وتبادلها عبر الوجود الافتراضي لهذا الخط المزعوم فيما يرى، فيشير إلى كثير من المشابهات مع أختها الجنوبية، ربما ليبرهن على سريان الأسس ذاتها في أرواح شبه الجزيرة الكورية، وليؤكد إمكانية الرهان على مداخله الأساسية بصرف النظر عن بعض الظروف المحيطة أو اختلاف السياق أحيانًا.

ظواهر عجيبة
والكتاب دراسة اجتماعية دون تنطع أو إحصاءات ساذجة، وربما جاء ليبرهن كيف تكون سطوة المجتمع أكثر تأثيرًا من أي اعتبار آخر، وهو ما يجعل السلطة المجتمعية - دون تدخل ورقابة وتطفل - سببًا في احترام القانون وتحويله إلى سلوك، ويجعل مفهوم التعايش أساسيًا، وهو أمر يمكّن - في كوريا - من تقّبل ظواهر تبدو عجيبة، مثل تجاور كنائس كثيرة لطوائف مختلفة في بناية واحدة، أو تفضيل الرجل على المرأة في الميراث برغم نص القانون لديهم على المساواة بينهما، وهذه الظواهر- وغيرها - منبثقة عن تماسك المجتمع في بنيته الداخلية، إلى الدرجة التي تظن معها بتراجع البنية البطريركية القديمة.
وتحل الشامانية في خلفية تفسيره لحيوية الثقافة الكورية، أو ما يسميه بعضهم - تفسيرًا للمعجزة الاقتصادية - معجزة نهر الهان، ويؤكد وجود معابدها على مدى جبالها الممتدة بنسبة 70 في المئة من مساحة كوريا، ولا يخلو جبل من معبد كونفوشي. ويشير إلى أن العنصر الأساسي أو الجوهري في الشامانية هو الجماعية، واندماج الفرد في الجماعة، والأنا في النحن، والاعتزاز بكبار السن، حتى في اختلاف أسلوب التحية أو إظهار المزيد من الاحترام الذي يصل حد الانحناء الذي يقترب من السجود للكبار. 
هناك اعتزاز بشجرة النسب، واعتزاز ضخم بالأسلاف وتقديم سلسلة النسب حتى ألفي عام مضت، والبنك القومي الأول اسمه «نحن»، وهو اسم العائلة وعلامتها، وليس غريبًا أن تطالع إعلانًا يقول: «إننا نبحث عن عائلة جديدة بـ «هيونداي»... حتى إن كلمة (أمة) في اللغة الكورية تتكون من مقطعين مختلفين هما «كوك» وتعني «أمة» و«جا» وتعني «أسرة»، وهو الأمر الذي وصل أن يحب الكوريون عطلاتهم ذات الصلة بالعائلة، مثل احتفال «تشوسوك» أو عيد الحصاد، والسفر خلالها للأجداد والاحتفال معهم. لقد كان الفناء في الجماعة سبيلًا للنجاة، ويضرب الأمثلة من العصر الحديث بقيام الكوريين بتدشين حملات لجمع الذهب لإنقاذ بلادهم خلال فترة ما يُعرف بالأزمة الاقتصادية مع صندوق النقد الدولي عام 1998.
والكوريون قبل قيادة المصالح الاقتصادية - يعترف المؤلف - يقصرون محبتهم وعاطفتهم على دوائرهم القريبة (أوري) بينما يصيرون عدائيين مع أولئك المنتمين لمجموعات أخرى (نام)، وما يجده السائح من ترحاب وتسهيل لأموره ليس أكثر من تطور بسيط ومراعاة للجانب النفعي، بينما - في الباطن - فالغرباء يعاملون في كوريا كما لو كانوا أعداء، وذلك قبل أن يحولهم الانفتاح الصناعي من مزارعين يسكنون القرى، ويتصرفون بتحفظ شديد مع الغرباء، بعدما قضوا أغلب حياتهم قبل التصنيع الكوري في مدن أو قرى صغيرة دون اتصال بالخارج. وحتى الآن يظل اندماج الكوريين مع الأغراب عزيزًا للغاية، بعكس الأوربيين؛ لأن تكوين رابطة (أوري) ليس سهلاً، بسبب هيمنة خلفية تقوم على العِرق والعمر واللون والعقيدة.
وما تسمعه خلال إقامتك عن عصبية أبناء الدفعة الواحدة وتحيزهم لبعضهم البعض حتى لو تفرقوا وأصبحوا من ذوي التخصصات المختلفة. ينغلق الكوري على طائفته، أو مجاوريه في مسقط رأسه أو زملاء الشركة في شركته، ويقدم مصالح قسمه على مصالح الشركة الأكبر، ويتحيز الطالب لدفعته مهما تفرقت بهم السبل بعد ذلك فتشعر أن سلوكهم سلوك أغلبهم يوازي انعزال جزيرتهم إلا قليلًا.

الموجة الكورية
ومن مظاهر الشامانية أيضًا وتسربها داخل جسد الحالة الكورية الآن ما كان فيها من ولع بالرقص والغناء، واستدعاء أرواح الموتى والجوانب المضيئة من حياتهم، ويعني - ببساطة - إرادة الحياة والرغبة في الاستمتاع بها، وقبول تحدياتها بكثير من الأمل ومزيد من التفاؤل والجسارة والجرأة. وامتدادًا للبحث عن الأصول تراه يفسر انتشار الموجة الكورية في الفن أو انتشار ثقافة البوب الكورية بكونها مغرقة في المحلية وكيف أن الثقافة الكورية الشعبية صارت قادرة على جذب الانتباه في اليابان التي احتلت كوريا لفترة، وظلت - بعد ذلك - تنظر باستخفاف للجارة الصغيرة الفقيرة، فاستدار الزمان واحتلت الموسيقى الكورية آذان اليابانيين.
طبقا لوجهة نظر ترى الإغراق في المحلية سبيلاً للوصول إلى العالمية، فإنه يفسر انتشار موسيقى «K-POP» الكورية واحدًا من عوامل استحواذها على موسيقى البوب الأمريكية، وكيف تحررت كوريا من سطوة الموسيقى الأمريكية وتراجع مبيعاتها للغاية، وهو الأمر ذاته - تقريبًا - على صناعة السينما الكورية حتى صارت ثالثة ثلاثة في مقدمة عالم السينما مع اليابان وفرنسا.
ولعل إعراضهم عن التفاصيل في أعمالهم الفنية لا ينسحب على غيرها من الأعمال، وليست الفردية في الإبداع خرقًا للجماعية في العمل، بل إنها من طبائع الأمور. إن تجاهل التفاصيل في أفكارهم في الأعمال الفنية أمر لا يناقض دقتهم في أعمالهم الإلكترونية؛ فلكل مجال سماته وقواعده أو مظان المتعة فيه.
ويركز على اعتمادهم التداعي في فنون الفخار، أو ما يسمونه «قصدية عدم القصد»، وهو الأمر الظاهر في عفوية كثير من المعابد وإنشائها من الأخشاب في صورتها الأصلية دون تقطيع، أو اصطناع، طبقًا لتعبيره. ولكنك ستضع هذا في إطار محاولاته الطبيعية للبحث عن سمات فريدة تميز مظاهر «الحضارة» الكورية عن الصينية واليابانية. ولا تنقطع الصلة بين الفن والعقيدة الكورية، ومن ذلك استمرار الربط بين عالم البشر وعالم الآلهة هاجسًا مسيطرًا على رؤيتهم للحياة إلى الحد الذي وفر مكانة بارزة للنمر لديهم، وحضوره الطاغي في فنونهم التشكيلية على خلفية من هذا الظن والحدس بكونه مخلوقًا روحيًا يربط عالم البشر بعالم الآلهة، وما كان لهذه العفوية من أثر كبير في محاولات الكوريين التحرر من التأثيرات الصينية.
لا يستنكف الكتاب من تفسير للقصة الكورية يعتمد على خلفية دينية أو تاريخية قديمة، وهذا الخليط ليس خبط عشواء، ولكنه انعكاس لتأثيرات متعددة تشكل لحمة الحضارات القديمة وسداها على العكس من تلك التي لم تستمر ثلاثة قرون، فكلما اتسعت الحضارة ضاقت فرصة اختزالها في سطور ■