غني بخيل.. فقير شره! كوميديا سوداء

غني بخيل.. فقير شره! كوميديا سوداء

ينشغل أبو حيان التوحيدي بظاهرة بخل الأغنياء وشحهم، مثلما انشغل الجاحظ بهذه الظاهرة من قبل في كتابه عن البخلاء ونوادرهم، غير أن معالجة التوحيدي تفتقد حس السخرية والتندر والضحك الذي اتسمت به معالجة الجاحظ، وتميل إلى رصد وتحليل الجانب المأساوي للظاهرة، بل حتى حين يميل التوحيدي إلى التندر والسخرية تنطوي معالجته على مرارة وسوداوية واضحة.

فعلى سبيل المثال، يروي التوحيدي من غرائب البخلاء ما يلي في كتابه «البصائر»، «أن رجلا دخل على حمزة النصراني، وقال له: إن أخي قد مات، فمر لي بكفن، فقال حمزة البخيل: والله ما عندي شيء، ولكن تعهدنا إلى أيام لعله يقع قال: أصلحك الله فمر لي بدرهم ملح، قال: ما تصنع به؟ قال أملحه حتى لاينتن إلى أن يتيسر كفنه من عندك»!

ويتوقف التوحيدي في هوامله - كتابه «الهوامل والشوامل» - عند ظاهرة البخل مضمرا إدانته، بل تعريته القاسية لأغنياء عصره البخلاء، أهل الشح والنذالة والخسة واللؤم، إذ يقول:

«ما سبب ذم الناس البخل مع غلبة البخل عليهم، وما سبب مدحهم الجود مع قلة ذلك فيهم؟ وهل الجود والبخل طبيعيان مكسوبان؟ وهل بين البخيل واللئيم، والشحيح، والمنوع والنذل، والوتح (الخسيس)، المسيك والجعد (البخيل)، والكز(كز اليدين/ بخيل) فروق؟!».

ويرد مسكويه ردا مهما حيث يؤكد الطابع العقلي المعياري للأخلاق، فالبخل خلق مذموم ومرض للنفس مكروه، مستقبح عند العقل، وكذا الجود حسن محبوب مقبول عند العقل؛ أي أن الأخلاق ليست طبيعية، بل مكسوبة، ولها طابع تربوي اجتماعي. ويرى مسكويه أن قبح الخلق أو حسنه لا يمنع غلبته من عدمها، ويلتقط مسكويه بواقعية إنسانية حقة هذه المفارقة الكامنة في عمق البشر، حين يعون مدى قبح أو ممارسة سلوكية ما يمارسونها، لكنهم وبطول العادة والألفة الذميمة، لا يستطيعون تغييرها أو إزالتها رغم اقتناعهم بضرورة ذلك، بل جهدهم الدائم من أجل تحقيقه. ومن ثم فإن مسكويه يؤكد صعوبة وعسر معالجة الأخلاق الرديئة القارة داخل الإنسان والتي تتحول أحيانا إلى طبع ثانٍ بسوء العادة والتكرار، لكنه لا ينفي إمكان الإصلاح الخلقي، بل يدعو إليه ويؤكد أهميته كفيلسوف للأخلاق، ويكاد التوحيدي أن يتفق مع مسكويه، متبنيا في ذلك أراء أستاذه السجستاني المنطقي؛ إذ يؤكد تباين الأخلاق الإنسانية وتناقضها داخل الكيان الفردي الواحد، كما داخل الكيان الاجتماعي، فضلا عن إقراره بوعورة إصلاح الإنسان لأخلاقه وتهذيبها وتطهيرها. بل إن التوحيدي وأستاذه يميلان إلى نوع من الحتمية الأخلاقية التي لم يفلت منها مسكويه، بالرغم من عقلانيته الأرسطية، فضلا عن ذلك الوعي اليقظ لديهم جميعا، بإشكالية معرفة الإنسان بنفسه وخباياه ومدى صعوبتها، وإمكانات المرواغة المحتملة داخلها وعلى الرغم من كل هذا، فقد كان التوحيدي في صياغته لسؤاله، ورصده لظاهرة التناقض الإنساني بين الظاهر والباطن أو القول والعمل، خاصة في هذا السياق، أكثر حدة وقسوة وعنفا من محاوره في حكمه على هؤلاء الأغنياء البخلاء المرائين المتشدقين بالجود، دون ممارسته؛ أي أنه كان يسعى لكشف التناقض الاجتماعي الشائع بين الادعاء الأخلاقي، والممارسة الفعلية، ولعل أبا الفضل ابن العميد - الوزير - ونوادر بخله الشهيرة مضمرة في عمق تساؤلات التوحيدي، بل إن ما يرويه التوحيدي عن بخل ابن العميد يتجاوز حدود النادرة ليصل إلى مستوى الإيذاء الفعلي، حيث يقترن البخل باللؤم والقسوة والخساسة.

التعريف بالبخل

يقول التوحيدي: «ولقد بلغ من لؤمه وشؤمه أنه قتل من أكل عنده، ذلك أن أبا المحاوش ورد إلى الري، وكان بدويا وشهر بشدة الضرس وكثرة الأكل وتكرر حديثه عنده (عند ابن العميد).. فداعبه وتقدم بإحضار شيء كثير من الخبز والحلوى، فاكتسحه كله، وطلب الزيادة، وكشر أبو الفضل في وجهه، و(لكنه) أظهر استملاحه... وقال: أكثر عندنا، واقترح ما بنفسك على صاحبنا المطبخي... فكان المسكين يحضر... فيطلب شيئا ويأكل وينصرف.. فطال ذلك على أبي الفضل، واغتاظ منه وغلب طباعه، فقال لصاحب مطبخه: اجمع هذا الذي يقال له (لالكات) (جلود) وقطعها صغارا كالبنادق، وقدمها إليه في عجة وافرة... حتى ننظر إلى آكله هل يفطن؟ وإنما كان كيدا، ففعل وأحضر وأقبل أبو المحاوش عليها وتذرع في أكلها... ووجدها وطية ناعمة، فلما أقلع عنها وانصرف وشرب الماء وجاء وقت الثلط، اتقد بطنه فخرج فيه نفسه».

إن التوحيدي على الرغم من عدائه الشديد لابن عباد، يعتبره كريما إذا ما قورن بابن العميد لولا رقاعته وخيلاؤه.

ويروي التوحيدي في هذا الصدد ما قاله له أبو السلم نجبة بن علي حين سأله التوحيدي: أيهما أحب إليك ابن عباد أم ابن العميد؟ «ما فيهما حبيب، على أني برقاعة هذا أشد انتفاعا مني بعقل ذاك، هذا يغضب إذا ترفعت عن عطائه وقبضت يدك عن قبول بره... وذاك يحقد إذا رجوته وتعرضت له، ويغضب إذا أثنيت عليه وطمعت فيه».

ولعل النموذج المثالي المضمر الحاضر في مخيلة التوحيدي، بل أغلب رجالات العصر هو الطائي الحاتمي الذي قيل عنه فيما روى التوحيدي في البصائر»:

«هذا رجل إذا رضي عشنا في نوافل فضله، وإذا غضب تفوتنا بقايا بره. وكان الأعراب يقولون: السرف في القرى (قرى الضيف) شرف»!

بل إن التوحيدي يقول في مثالبه:

«الكرم في اللقاء، فالبشاشة، وأما في العشيرة، فالهشاشة، وأما في الأخلاق فالسماحة وأما في الغنى، فالمشاركة وأما في الفقر، فالمواساة».

ونود أن نشير هنا إلى ملحوظة مهمة حول ما أورده الجاحظ في كتابه «التاج في أخلاق الملوك»، حيث يقول:

«يجب للملوك ألا يشره أحد إلى طعامهم، ولا يكون غرضه أن يملأ بطنه وينصرف إلى رحله... وكانت ملوك فارس إذا رأت أحدا في هذه الحال التي وصفنا من شره المطعم والنهم، أخرجوه من طبقة الجد إلى طبقة الهزل، ومن باب التعظيم إلى باب الاحتقار والتصغير. والملك إن بسط الرجل لطعامه فمن حقه على نفسه، وحق الملك عليه ألا يترك استعمال الأدب، ولا يميل إلى ما تهوي طبيعته، فإنه من عرف بالشره لم يجب له اسم الأدب،... وإذا وضع الملك بين يدي أحد طعاما، فليعلم ذلك الرجل أنه لم يضعه بين يديه ليأتي عليه، بل لعله إن كان لم يقصد بذاك إلى إكرامه أو مؤانسته أن يكون أراد أن يعرف ضبطه نفسه، إذا رأى ما يشتهي من بسطه لها...... إن من حق الملك توقير مجلسه وتعظيمه، وليس من التوقير والتعظيم مد اليد وإظهار شدة النهم وطلب التشبع بين يدي الملوك وبحضرتها».

وهكذا، فوفقا لآداب مجالسة الملوك (أو رموز السلطة) ينبغي على من دعاه الملك إلى طعامه أن يكون منزها عن الشره والنهم، قادرا على التحكم في طبيعته وشهوته وهواه، ضابطًا لنفسه، جديرًا بالأدب، مستحقا لإكرام الملك، ومؤانسته إياه، وإلا ناله الاحتقار والتصغير، وعومل معاملة أهل الهزل والمجون؛ لأنه عد في هذه الحالة، فاقدا العقل والحكمة الإنسانية! بل وصل الأمر إلى حد اعتبار التنزه عن الشره والنهم للطعام في حضرة الملك، معيارا مهما في قياس مدى جدارة الشخص لتولي منصب القضاء بين الرعية بالعدل والأمانة والقسطاس، أو كما قيل «من شره بين يدي الملك إلى الطعام، كان إلى أموال الرعية والسوقة أشد شرها».

ولا أظن أن التوحيدي كان غائبا عن مثل هذه التصورات والآراء التي كانت شائعة في أدبيات مجالسة الملوك، وخاصة أن كتاب التاج كان لأستاذه الجاحظ. غير أن التوحيدي حين ذكر حكاية أبي المحاوش الشره لطعام ابن العميد وعقابه المخيف له، لم يكن يفاكه قراءه بهذه الكوميديا السوداء، ولا يمكننا إدراج سلوك ابن العميد في سياق ما كان ينال هؤلاء الشرهين في حضرة الملوك من احتقار وتصغير.. إلخ، فعلى قدر الجرم يكون العقاب، وهذه هي شريعة الملوك العادلين، لكن عقاب ابن العميد تجاوز كل الحدود الإنسانية الممكنة. ومن ثم، فقد كان التوحيدي، سواء صحت الرواية أم لا، يسعى لكشف مدى تدهور الحضور السلطوي الذي لم يعد يطاول النموذج المثالي للملك، والذي نص عليه الجاحظ، فكرم الملوك وسخاؤهم يواجه بكرم الرعية وترقيهم عن الشره والحرص الذميم، أما ابن العميد البخيل اللئيم، فلا يستحقه إلا أبو المحاوش الشره، وقد عوقب كل منهما بالآخر مرآته العاكسة والكاشفة! أي أن الحكاية تدين كليهما رغم إعلان التعاطف الظاهري مع أبي المحاوش المسكين. إنها إدانة أخلاقية لنموذج الشره بشقيه، الامتلاكي والطبيعي أو الغريزي بوصفه نقيضا لأخلاق السخاء والحياء، الذي ينبغي أن يتصف بها صاحب السلطة ورعيته الذين ينالون شرف مجلس طعامه، أو هذا المثال هو المشتهي! ومن المثير للانتباه، ما يرويه التوحيدي في سياق آخر، أكثر تسامحا وطرافة؛ إذ يحدثنا عن شراهة عيسى بن جعفر الهاشمي جليس الرشيد، وكان هارون يتعامل معها بوصفها طرفة فكهة، ومادة لطيفة للضحك وليس التهكم أو السخرية القاسية الخشنة!

ويطول التعريض الضمني بالبخل في تساؤلات التوحيدي محاوره مسكويه، رفيق ابن العميد الأب ومربي أبي الفتح ابن العميد، والذي وصفه في الإمتاع قائلا: «احتراقه في البخل بالدانق والقيراط، نعوذ بالله من مدح الجود باللسان وإيثار الشح بالفعل».

ولعل مسكويه في رده على سؤال التوحيدي حول ذم الناس للبخل رغم غلبته عليهم وهو يلتقط التناقض الإنساني بواقعية متعاطفة ومحترمة لمأزق هذا التناقض بين الواقع والرغبة، كان يدافع عن نفسه وعن مخدومه، ولعله كان يحاول ألا يتورط في أي حديث يمكن أن يؤخذ ضده أو يدينه، في ظل علاقته المعقدة المنصرمة بابن العميد (الأب والابن)، وفي ظل وضعه المتراجع سلطويا في تلك المرحلة التي قابل فيها التوحيدي.

على أية حال، وأيا كان هدف مسكويه، فلعله أدرك تلميح التوحيدي ومراوغته الخبيثة، وسعى لتفويت الفرصة عليه عبر تحليله الأخلاقي للمسألة، كما أوردنا سالفا! غير أنه بينما كان مسكويه منشغلا بإبانة الفروق اللغوية بين الألفاظ التي عددها له التوحيدي كتنوعات مختلفة على لفظ البخيل، كان التوحيدي يعقد مقارناته القاسية، واصفا الأغنياء بالبخلاء وبكل الصفات الرديئة الحقيرة، كأن صفة البخل تمحو كل حسنات المرء، وتسم النفس بكل أشكال الفسولة والتردي أو كما يقال: إذا قوي الحياء قوي الكرم وإذا ضعف الحياء قوي اللؤم. إن صفة البخيل تعبير جبان عن نمط من الفردية الموحشة المنغلقة على ذاتها التي لاتملك أي إمكان للتعاطي مع الآخر، أو التخارج نحوه، فضلا عن كون البخيل مستعبدا مستلبا لسطوة المال الذي سيتبدى لنا تدريجيا أنه يشكل ماهيته وعمق وجوده، بل هو ما يكسبه قيمته وحضوره وتأثيره، كما أنه غطاؤه وحمايته من قسوة الزمان وتقلباته، أو هذا ما يتصوره الفقير.

-----------------------------

يافا بلا قلب اذنْ ؟!
يافا بلا قمرْ !؟
يافا .. دمٌ على حجر ؟!
يافا التي رضعتُ من أثدائها حليبَ البرتقال ْ
تعطشُ ؟!! .. وهي من سقتْ أمواجُها المطرْ !
يافا التي رضعتُ من أثدائِها حليبَ البرتقالْ
ذراعها شُلّتْ ؟
وظهرُها انكسَرْ؟!
يافا .. التي كانتْ حديقة ً أشجارُها الرجالْ...

راشد حسين

 

 

هالة فؤاد