عنصرية رينان بين السامية الإسلامية واللاسامية اليهودية
هناك شبه إجماع في الدوائر الأكاديمية الأوربية أنَّ أهم كتاب ظهر في القرن التاسع عشر حول الأعراق غير الأوربية هو كتاب المؤرخ الفرنسي جوزيف دو غوبينو، «مقالة عن اللامساواة بين الأعراق البشرية» في مجلدين عام 1853 وهو الكتاب الذي أصبح مرجع معظم القائلين بالنظرية العرقية. وأصدر المؤلف نفسه مجلدين آخرين في 1855، وكان المستشرق المعروف بعنصريته وعدائه للسامية، أرنست رينان، قد أصدر في السنة ذاتها دراسته اللغوية «التاريخ العام والنظام المقارن للغات السامية» والذي بدأه بمقدمة صريحة تقول:
«إنني أول من يعترف بأن العرق السامي مقارنة بالعرق الأندو-أوربي، يمثل خليطًا أدنى من الطبيعة البشرية. فهو يفتقد للروحية العالية التي يتمتع بها الشعب الهندي والشعوب الجرمانية، كما لا يشعر بالجمال الشامل الذي أسبغته اليونان على الشعوب اللاتينية الجديدة ولا حتى بالذوق والإحساس الرفيع الذي تعبر عنه الشعوب السلتية».
لكن رينان كان يختلف عن غوبنيو بأنه لم يكن يؤمن بالحتمية العرقية كما كان ينحو إلى رفض إعطاء أهمية للاختلافات الجسدية بين الساميين والآريين. إلا أنه لم يكن تبسيطيًا، فبالنسبة له كان الآريون والساميون ينتمون معًا إلى جامع واحد هو العرق الأبيض.
ومع ذلك، فإن شيئًا من الماهوية أو الجوهرانية البيولوجية ظل يجمع «لغوياته» مع غوبنيو حيث أشار إلى الفقر النسبي للسان السامي مقارنة باللسان الآري، الأمر الذي وضع الشرق في مرتبة دونية متأصلة. وقد ظل هذا الفهم سائدًا لفترة طويلة حيث كان الجو الثقافي الأوربي مؤمنًا بالفوارق البيولوجية بين الساميين والآريين. وعلى خلفية تطور أوربا الصناعي وزيادة الهوة الاقتصادية/الاجتماعية مع باقي أنحاء العالم وانتشار الحديث عن نظرية داروين التي وصفت بـ«العلمية» اتخذت مقولة رينان حول «دونية العقلية الشرقية» مكانها البارز بين الأفكار السائدة في الغرب.
الإسلام والسامية... دمج العرق والدين
هنا نأتي إلى معالجة رينان للإسلام ولليهودية المنتميين كليهما، حسب الفكر السائد، إلى السامية. إلا أن رينان يعالج النظرة إلى الإسلام بشكل مغاير لمعالجته لليهودية التي رفض علاقتها العضوية بالعرق السامي كما سنرى فيما بعد. أما بالنسبة للإسلام، فكان رينان حاسمًا، إذ تحدث عن الماهية الإسلامية غير المتغيرة، وربط الإسلام بالعرق السامي بإحكام قائلًا بفجاجة وعدائية في محاضرة له في 1883:
«إن الشرط الضروري لنشر الحضارة الأوربية هو تدمير [العرق] السامي بامتياز وتدمير السلطة الثيوقراطية للإسلام، وبالتالي، تدمير الإسلام ذاته... والإسلام ليس مجرد دين دولة... إنه دين يقصي الدولة، إنه ترتيب عبر عن نموذجه الدول البابوية في أوربا، ها هنا تكمن الحرب الدائمة: ... الإسلام هو النقيض الأكمل لأوربا... الإسلام هو التبسيط المزعج للفكر السامي الذي يقلص الدماغ الإنساني، ويقفله على أية فكرة حساسة».
مع اليهودية وضد الصهيونية
ويستغرب القارئ أن رينان لا يذكر في البداية شيئًا عن اليهودية، بل هناك إشارات متفرقة تشي بمدحها. فكيف يمكن التوفيق بين موقفه المعادي للإسلام الذي نشأ أول ما نشأ في بيئة عربية سامية وموقفه المؤيد لليهودية التي نشأت في بيئة سامية هي الأخرى؟
وقد وفر لنا المؤرخ اليهودي المعادي للصهيونية شلومو ساند في الكتاب الذي حققه عن «الأمة والشعب اليهودي» معلومات مفيدة عن موقف رينان من اليهودية. ففي ثمانينيات القرن التاسع عشر عندما بدأت الاعتداءات على اليهود في شرق أوربا، قام رينان مع الأديب الفرنسي الشهير، فيكتور هيغو، بمحاولة إثبات أن اليهود ليسوا شعبًا قائمًا على العرق، بل جزء أصيل من البلدان المختلفة التي كانوا يعيشون فيها. وفي محاضرة بعنوان: «اليهودية كعرق ودين» يقول إن يهود يهودا (في فلسطين) الذين كانوا يؤمنون بالتوحيد، كانوا قد بدأوا يقومون بنشاط تبشيري، بحيث إن بعض السكان تحولوا إلى هذا الدين بمعنى أن من لم يكن يهوديًا من الناحية العرقية أصبح كذلك من الناحية الدينية فحسب. وقد حصل ذلك في مناطق أخرى، حيث استطاع التبشير اليهودي الانتشار في بعض زوايا شبه الجزيرة العربية والحبشة، وفي مملكة الخزر في جنوب روسيا. وهكذا، فإن السكان اليهود - حسب رينان - هم نتيجة لعملية التبشير والدعاية الدينية التي نجحت في اعتناق الطبقات الدنيا (كالعبيد والخدم) في بعض المجتمعات اليهودية. وقد كرر رينان هذا التفسير بالنسبة ليهود فرنسا وغيرها من المناطق. أما مسألة طرد الرومان لليهود من فلسطين، فموضوع لم يكتب عنه لسبب بسيط هو أنه لم يحدث إطلاقًا.
اليهودية اللاسامية... فصل العرق عن الدين
كانت أطروحة رينان هذه ذات أهمية كبيرة؛ إذ إنها تنفي الفكرة القائلة إن اليهود كانوا «مجتمعًا ذا أصل عرقي واحد»، جرى طرده من وطنه في فلسطين؛ مما أدى إلى انتشاره في العالم. ومع أن ما قاله رينان لم يكن جديدًا تمامًا، وكان معروفًا في أوربا، وظل سائدًا بين المؤرخين الجادين، فإنه أحدث ضجة في فرنسا، وجابه معارضة شديدة من الحركة الصهيونية. فلم يكن هؤلاء مستعدين للقبول بأن تاريخهم كان دينيًا حصرًا، وحاولوا ما أمكنهم بناء تصور يقول بوجود شعب يهودي اقتلع ونفي من أرضه منذ ألفي سنة. بهذه الطريقة روّجوا لمقولة «حقهم في العودة إلى فلسطين».
لا شك إذن، عند رينان، أن اليهودية مثلت في البداية تقاليد عرق معين، إلا أنه من الواضح أيضًا أن تكوين العرق اليهودي الحالي يتضمن مساهمة دماء كل الذين كانوا يقطنون فلسطين وكذلك الدماء غير السامية لليهود في أنحاء العالم، بحيث أن هذا العرق الذي يُنظر إليه كنموذج للعرق الصافي، والذي قيل إنه حافظ على نفسه من خلال منع الزواج المختلط، جرى اختلاطه، في الواقع، بأعراق ودماء أخرى. بكلام آخر، كانت اليهودية دينا قوميًا أساسًا، وعادت اليوم دينا مغلقا، لكنها كانت دينا مفتوحا يسمح لغير اليهود بالدخول إليه لعدة قرون بين المرحلتين المغلقتين المذكورتين سابقًا، الأمر الذي أدى إلى اعتناق الكثير من غير اليهود لليهودية التي أصبح معناها مُشكلًا، إذ إن اللايهودي عرقًا أصبح يهوديًا دينًا...
أما الذين يعترضون على نظرة رينان حول عدم وجود «نموذج أو نمط يهودي»، فإن رينان يشدد على رأيه أنه يوجد عدة نماذج أو أنماط يهودية لا نموذجًا أو نمطًا واحدًا مفردًا. وهو يضيف أن علم الإثنوغرافيا أو الإثنيات قد يثبت نظرته، لأنه إذا انتقينا عدة آلاف من الناس بصورة عشوائية لتبين لنا أنهم يعودون بأصولهم إلى عدة نماذج أو أنماط مختلطة. أما التشابهات فلا تنتج عن العرق، بل عن تشابه الظروف مثل العمل في مهنة واحدة أو العيش في بيئة مغلقة لوقت غير قصير.
لماذا ازدواجية المعايير؟
بعد هذا العرض المختصر لآراء آرنست رينان التي تؤدي إلى - سواء عن قصد أو دون قصد - إلى فكرتين، الأولى إن عنصريته التي بنيت على رسم هرمي للأعراق الإنسانية ما أمكن إثباتها لأن الدراسات والاختبارات الحديثة أثبتت أنه لا توجد أعراق مكون كل منها من عنصر عرقي صافي واحد، بل إن جميع الأعراق تختلط، بنسب متفاوتة، مع بعضها البعض مما يعني أن المساهمة في الإيمان بتماهي عرق معين مع أحد الشعوب، لا يفسر شيئًا عن سلوكياته وعادته وتميزه. أما الفكرة الثانية، فتشير إلى أن قيام رينان بإعلاء شأن اليهود على أساس أنهم لا ينتمون بالضرورة إلى العرق السامي، أحط الأعراق في تراتبية انثروبولوجيي أوربا ومستشرقيها في القرنين التاسع عشر وبداية العشرين، إلا أن هذه النظرية كانت ولازالت مرفوضة بشدة من قبل الحركة الصهيونية التي كانت تصر على أن الشعب اليهودي ذا أصل واحد يعود إلى فلسطين. بالطبع، كان الاعتراف بتعددية الأصول اليهودية العرقية من خلال تمازج الأعراق يزيل علة المطالبة بالهجرة إلى فلسطين في العصر الحديث، ويصيب صلب الدعوة الصهيونية في مقتل. فإذا كان يرفع القيمة العرقية لليهود كما كان يراها رينان وغيره من المهتمين بسلم الأعراق آنذاك، فإنه يجعل الفكرة الدينية متعارضة مع الفكرة السياسية - القومية إذ أن معظم اليهود لم يكونوا من سكان فلسطين أصلًا. هذا إذا أخذنا بمنطق تاريخ العصور القديمة بصورة مزيفة ومشوهة إلى أبعد الحدود. فإذا كان وجود كيان سياسي إسرائيلي في فلسطين اليوم مشروعًا قياسًا على وجودهم فيها قبل ألفي سنة لتوجب أن يكون هناك حكم بابل في العراق وحكم الفراعنة في مصر وبصورة متزامنة. وإذا قبلنا بمشروعية إسرائيل اليوم على أساس صلتها بإسرائيل القديمة لكان علينا أن نتخيل ان إسرائيل كانت تعيش قطيعة تاريخية منذ أكثر من ألفي سنة حتى الآن، وتحاول اليوم بوسائل خيالية إعادة الاستمرارية إلى تاريخها، بينما تعيش معظم الدول الأخرى استمرارية تاريخية عبرت بها من التاريخ القديم إلى العصور الوسطى ثم إلى العصر الحديث.
أخيرًا، ألا يجوز لنا أن نسأل - إذا اعتبرنا رينان عالمًا لا يبغي إلا العلم، كيف كان له أن يفصل العرق والدين (أي السامية واليهودية) في حالة اليهود، ويفعل العكس تمامًا في حالة السامية والإسلام، ويدمج العرق والدين؟ ألم تدخل شعوب عربية وغير عربية في الإسلام بعد فتوحاته في القرن السابع وما بعده بحيث تحول هذا الدين من دين أقلية إلى دين أغلبية في عملية تاريخية طويلة استغرقت أربعة قرون حسب الدراسات التاريخية الجديدة؟ وحتى لو سلمنا جدلًا أن الإسلام ظهر أول ما ظهر في بيئة يغلب عليها العرق السامي، ألم يكن الإسلام، ولا يزال، دينًا تبشيريًا اعتنقه أكثر من شعب وعرق، وفي أكثر من مكان. إن الأتراك والإيرانيين وبربر شمال إفريقيا وجزءاً غير قليل من الهنود مسلمون، لكنهم لا ينتمون إلى العرق السامي، بل إن الهنود ينتمون إلى العرق الأندو-أوربي والإيرانيين إلى العرق الآري، فكيف لا تطبق عليهم المعايير أنفسها التي طبقت على اليهود أم أنها ازدواجية المعايير التي تعكس ازدواجية التعايش بين الحداثة الأوربية التنويرية والنزوع إلى استعمار البلدان غير الأوربية في العصر الكولونيالي؟ ■