قصر بيرديكاريس بطنجة ملتقى العشق والتاريخ والسينما

قصر بيرديكاريس  بطنجة ملتقى العشق  والتاريخ والسينما

وسط المناظر الطبيعية لغابة الرميلات بمنطقة الجبل الكبير بمدينة طنجة المغربية، على مرتفعات ساحلية خلابة مطلة على جبل طارق، يوجد قصر بيرديكاريس في مرتفع وموقع رائع، يضم العديد من الغابات والصخور يجمع بين الغابة والجبل والإطلالة المميزة على البحر ورؤية تمكنك من إطلالة على قارة أخرى. 

 

قصر بيرديكاريس، شبيه بقصور أوربا في العصور الوسطى، يستحضر في بنائه نمط القلاع ببرجه المميز، من حيث الحجم ليس كبيرًا ولا صغيرًا، بني على الطراز الكلاسيكي الأنكلوساكسوني، يختلط فيه الواقع بالأسطورة والمرأة وعشقها مع عشق الطبيعة والمدينة وسحرها. فمن هو أيون بيرديكاريس صاحب هاته التحفة المعمارية؟ وما هي دوافع بنائه لهذا القصر بغابة الرميلات؟

أيون بيرديكاريس: أمريكي في طنجة
أيون بيرديكاريس، هو أمريكي ولد في أثينا سنة 1840 خلال فترة عمل والده كقنصل أمريكي باليونان، قرر سنة 1972 الاستقرار بمدينة طنجة المغربية رفقة زوجته الإنجليزية إلين فارلي، وكان شخصية معروفة بالمدينة عبر مشاريعه وأعماله ومشاركته في إدارة شؤون المدينة، حيث ترأس لجنة النظافة لخمس سنوات. شيد سنة 1878 منزله على مساحة شاسعة، يطل على مضيق جبل طارق أسماه «أيدونيا» وهو ما يعرف حاليًا باسمه، تعرض بيرديكاريس في 18 مايو 1904 هو وربيبه للاختطاف من طرف قائد المقاومة المغربية بمنطقة جبالة أحمد الريسوني، ليغادر المغرب بعد إطلاق سراحه نحو إنجلترا حيث قضى بقية حياته إلى وفاته.
اختلفت الروايات حول الدوافع الحقيقية لاستقرار أيون بيرديكاريس بطنجة وبناء قصره بغابة الرميلات، فبغض النظر عن مواهبه كرسام وكاتب وعاشق للطبيعة وطنجة ملهمة في هذا المجال، فالسبب المعروف هو معاناة زوجته «إلين» من مرض السل والمناخ المعتدل والهواء النقي للموقع قد يلعبان دورًا في تعافيها خصوصًا بعد علمه بهاته المزايا المناخية من ضابط في البحرية الفرنسية في إحدى رحلاته عبر المحيط الأطلسي.
لكن زيارة المكان ومعرفة ظرفية المغرب خلال نهاية القرن التاسع عشر فترة إقامة بيرديكاريس بطنجة، تذهب بنا إلى دوافع أخرى غير معلنة. فالقصر يقع في غابة الرميلات البعيدة عن مركز المدينة بحوالي سبع كيلومترات وفي مكان هادئ منعزل بعيد عن المراقبة، يسمح لصاحبه بتنظيم لقاءات سرية مع كبار الشخصيات المغربية والأجنبية وربط علاقات اجتماعية مهمة لأغراض سياسية ودبلوماسية، كما يسمح موقع القصر وإطلالته على مضيق جبل طارق الاستراتيجي إمكانية مراقبة الساحل.
بغض النظر عن دوافع بيرديكاريس لتشييد قصره، إلا أن الأكيد أننا أمام تحفة معمارية ذات نمط أوربي وسط المناظر الطبيعية لغابة الرميلات، بإطلالة بحرية ساحرة على مضيق جبل طارق.

تحفة تاريخية معمارية تحولت لمزار سياحي 
قصر بيرديكاريس، هو تحفة معمارية تنتمي للنمط المعماري الأوربي خلال القرن التاسع عشر ويتكون من المبنى الرئيسي (الإقامة)، وتضم ثلاثة عشر غرفة يليه مبنى ثان بجانبه خاص باستقبال الضيوف ومدخله مستقل عن المدخل الرئيسي للإقامة، ويتوفر القصر على ساحة خارجية تضم حديقة للترفيه وللنزهة وملحقاتها وبستان خاص بالخضراوات والفواكه. يمثل القصر زمانه والثقافة الأصلية لصاحبه، حيث غلب عليه اعتماد الخشب الداكن  «الأكاجو» في ديكوره الداخلي، خصوصًا الجدران مغطاة إلى النصف، والأرضية كذلك كانت مكسوة بالخشب، واتسم أيضًا باعتماد الجداريات المزينة برسوم مزهرة ولوحات فنية. 
وتضم حديقة القصر ممرات طبيعية، وأنشأ بها بيرديكاريس أحواض ومشاتل نباتات مستوردة، وصنع ملاجئ للحيوانات والطيور المتنوعة والمختلفة. كما قام بغرس أنواع الأشجار التي استوردها من مختلف القارات (الأكالبتوس من أستراليا، وأشجار النخيل من كاليفورنيا وجزر الكناري.....).
لكن بعد ترك بيرديكاريس للمغرب إثر حادثة الاختطاف، تعرض القصر وملحقاته للإهمال، وانتقلت ملكيته من شخص لآخر، من ملكيته للسفير السويسري بطنجة، للباشا لكلاوي في عهد الحماية الفرنسية الذي كان يغير فيه أجواء مراكش، وتحول لملكية الدولة سنة 1959.
وبعد سنوات من الإهمال، تم إصلاح القصر وتحويله لمزار سياحي، افتتح في 23 أبريل 2022 وهو مفتوح طيلة أيام الأسبوع ماعدا الثلاثاء، ثمن دخول المغاربة عشرة دراهم وسبعون درهمًا للأجانب، وهو يقدم عرضًا متحفيًا متنوعًا حيث خصص الطابق الأرضي للتعريف بشخصية أيون بيرديكاريس وإقامته بطنجة والسياق التاريخي العام للمدينة.
وخصص الطابق الثاني، كفضاء لعرض طبيعي لإبراز التنوع والغنى البيولوجي، الذي تتميز به غابة الرميلات لكونها محطة عبور لأزيد من 1000 صنف من الطيور المهاجرة التي تستريح في فضاءاته. يتضمن الفضاء صورًا للأصناف النباتية والحيوانية للجهة، ويقدم جذوع الأشجار وصورًا للطيور المهاجرة العابرة، وجردًا لأهم الحيوانات البرية المنتشرة في شمال المغرب.  هكذا تحول قصر بيرديكاريس من ملكية خاصة لمزار سياحي عمومي لقيمته المعمارية والإيكولوجية وقيمته التاريخية، لكونه يعكس جزءًا من تاريخ طنجة الدبلوماسي، كما شكلت حادثة الاختطاف التي تمت بين جدرانه مادة لعمل سينمائي هو «الريح والأسد». 

 بيرديكاريس في السينما الأمريكية
احتضن قصر بيرديكاريس أحداثًا ووقائع، إلا أن أهمها هو حادثة اختطاف بيرديكاريس وما خلفته من توتر في العلاقات المغربية الأمريكية، التي اقتبستها السينما الأمريكية وجسدتها في فيلم «الريح والأسدThe wind and the lion». وقد تمت إعادة صياغة الضحية المختطف من أيون بيرديكاريس (دبلوماسي أمريكي من أصول يونانية) وربيبه، إلى شابة أمريكية جميلة في مقتبل العمر اسمها إيدن بيرديكاريس وابنيها ويليام وجينفر، اختطفهم قاطع طريق من قصرهم بطنجة، وخرب ممتلكاته ونهبه وقتل عماله في مشهد دراماتيكي، لتتحول القضية إلى أزمة ومشكلة دبلوماسية استثمرها الرئيس الأمريكي روزفلت في حملته الانتخابية باعتبارها مواطنة أمريكية تحت شعار «بيرديكاريس حيا بريسول ميتا»، ما استدعى قيامه بإرسال القوات الأمريكية في مهمة اجتياح وإنقاذ مسلحة للمغرب لتحريرها. بينما في حادثة بيرديكاريس الحقيقية، لم يكن هناك أي تدخل أو اجتياح عسكري لتحريره، وإنما تم ذلك بعد موافقة السلطان المولى عبدالعزيز على مطالب أحمد الريسوني، فتم تحرير أيون بيرديكاريس وربيبه في 25 يونيو 1904، ليغادر بعد ذلك طنجة والمغرب رفقة أسرته إلى إنجلترا حيث عاش فيها إلى وفاته سنة 1925.
نافلة القول: يعد قصر بيرديكاريس من معالم مدينة طنجة السياحية التي تستهوي الزوار لقيمته المعمارية، ولكونه منتزهًا ذا قيمة إيكولوجية عالية ومتميزة وفضاء لراحة واستجمام أسر المدينة، والاستمتاع بالإطلالة المتميزة التي يمنحها ■