الخوارزميات الثقافية والمحتوى العربي في عصر الذكاء الاصطناعي

الخوارزميات الثقافية والمحتوى العربي  في عصر الذكاء الاصطناعي

منذ شهور، لا يتوقف الحديث عن تأثير الخوارزميات بمواقع التواصل الاجتماعي في ظل تدخل صارخ للشركات المالكة لمنصات الفضاء الإلكتروني في طبيعة المحتوى الأكثر انتشارًا على تلك المواقع والصفحات العامة والشخصية، ويمكن تعريف الخوارزمية ببساطة لغير المتخصصين بتكنولوحيا المعلومات؛ بأنها الطريقة التي يسير خلالها البرنامج أو التطبيق  بعد التعرف على سلوكك الإلكتروني، ومن ثم يتوقع تحركاتك المستقبلية.

 

ومع الوقت حاول المستخدمون إنتاج حل شعبي للمواجهة، من خلال منشور متداول يطلب منك التفاعل وكتابة تعليق أو عمل إعجاب أو مشاركة له لمواجهة ضعف الوصول وقلة الإقبال، ولكن لم يجدِ نفعًا بل أصبح محاولة لاستجداء العطف الإلكتروني من الأصدقاء والمتابعين. 
الموضوع بالتأكيد ليس بهذا التبسيط المخلّ حسب المثال السابق، ولكي نفهم الخوارزميات أو آليات العمل داخل تلك المواقع لا بد من رصد مجموعة من العوامل تتدخل لتحقيق ما يحدث أمامنا، وأبرزها توقيت النشر، والذي يختلف حسب الجمهور المستهدف والفعل المطلوب، وهناك أيضًا مصدر المنشور ومدى مصداقيته على الشبكة الاجتماعية، ونوع المشاركة من حيث الوسائط، سواء مكتوبة أو مرئية أو مسموعة أو شاملة لأغلب تلك العناصر، وكذلك مدى شعبية موضوع المنشور وارتباطه بغيره بصورة أوسع، ومدى إلمام المستخدم ببعض التعليمات البرمجية لتلك المواقع، وبعضها تكون ظاهرة وسهلة للمستخدم العادي، مثل الهاشتاجات، وبعضها قد يحتاج إلى دراية بإمكانيات أعلى تكون متاحة للمطورين والمحترفين، مثل معرفتهم بكيفية تحسين محركات البحث الرئيسية. 

الخوارزميات و«التريند»
هذا ما تخضع له الخوارزميات على مستوى الأفراد، وعلى المستوى الجماعي نلاحظ في الفترة الأخيرة شيوع ثقافة التريند - كما أسميها - فكل صباح جديد نفاجأ بأن أغلب المستخدمين على مواقع التواصل الاجتماعي يستهلكون كل وقتهم في تلك الموضوعات المحددة مسبقًا من خلال رواة أو شخصيات مؤثرة أو أحداث طارئة أو قضايا تناسب اهتماماتهم من الموضوعات الموجودة على ساحة النقاش.
وتشير كلمة تريند Trend إلى الموضوعات والقضايا الرائجة ومؤشرات الاهتمامات المشتركة التي يتناولها مستخدمو التطبيقات الاجتماعية، وغالبًا ما ينشغل الجمهور بمثل تلك القضايا والموضوعات ويتحدثون عنها في منشوراتهم، ويشاركونها مع أصدقائهم بصورة كبيرة.
ومن أبرز أدوات التريند في الآونة الأخيرة استخدام فن الكوميكس بكثافة، وهو أحد فنون الصورة، ويتمثل في مجموعة صور تحكي أحداثًا من خلال حوار مكتوب للشخصيات، ونظرًا لسهولة توصيل الرسالة الإعلامية والثقافية من خلال الكوميكس فقد شهد تطورًا كبيرًا في المشهد الثقافي المصري والعربي. 
ويجب الأخذ في الاعتبار أن أغلب التفسيرات لأحداث كثيرة متداولة تظهر في تقديم قصة ملفقة تبدو مغرية ومثيرة للناس، وعادة ما يسارع الناس إلى تبني تلك المرويات الكاذبة والأخبار المزيفة كحل سريع يحميهم من عناء البحث عن الحقيقة وتقصي الحقائق. 
وفي تلك البيئة الجاهزة لتلقي أي خبر أو كذبة سهلة تخدع الكثيرين، تظهر الإشاعات كظاهرة أساسية ومسيطرة على عقول وأفكار الناس، والأخطر من ذلك هو جهل الناس بطبيعة الأمور التي يتحدثون عنها، فيبدو الأمر كما لو أن مدرسًا ساذجًا يسرح في الخيال بعقول مجموعة تلاميذ بنهاية مفتوحة نحو المجهول والمخيف؛ ليضمن هدوءهم وانتظامهم في الفصل.  
ففي عصر تسيطر عليه تكنولوجيا المعلومات ومواقع التواصل الاجتماعي والفضائيات تبدو المشكلة أكبر بكثير، فكثير من التقنيات التي تنتشر على شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) لا زالت بعيدة المنال عن أغلبية الناس العاديين، ويعد الجهل التكنولوجي والأمية المعلوماتية أخطر ما تواجهه الجماهير العادية، وتساعد في تضليلها وتوجيهها نحو نظريات المؤامرة الدولية. 
وتبدو الحاجة والضرورة لمن يُطلق مصطلح «علماء البيانات» وهم من يمارسون ويختصون باستخدام الأمور الإحصائية، والأساليب العلمية، والذكاء الاصطناعي في التحليل  الدقيق للمصادر والمعلومات مِن أجل استخلاص رؤى قابلة للتطبيق.

تيار «الحياة» وتيار «الوعي»
ولعل ذلك يثير قضية مهمة، وهي الصراع بين تيار الحياة «الأمور الاعتيادية والطارئة»، وتيار الوعي «الفكر والثقافة»؛ فالشباب الذي يقضي أغلب وقته والشاشات أمامه، وبين يديه، وخلفه؛ يبدو كأحد المسجونين في تيار الحياة الذي غالبًا ما يسير بسرعة شديدة، ودون منطق أو تفكير، وغالبًا ما يندفع في قرارات أو يتأثر بأفكار جاهزة معدَّة مسبقًا لاستهلاكها وقت الحاجة للشحن، والاندفاع باتجاه غير محسوب العواقب، وعادةً مع الوقت يتحول لمدمن لتلك الأمور - أخبار أو مقاطع فيديو أو صور مجتزأة - ليصبح حكمه على أمور حياته كافة من هذا المنطلق.
وفي المقابل يأتي تيار «الوعي» وهو يظهر نتيجة للتدهور الثقافي الكبير على مواقع التواصل الاجتماعي، ويسعى لإيجاد حلول لكثير من الإشكاليات التي غالبًا ما يلجأ التيار السابق لحلها سريعًا دون تفكير؛ مما يؤدي إلى عواقب خطيرة. 
ويستند تيار الوعي إلى وجود نخبة واعية بالمخاطر والنتائج على المنصات الإلكترونية، وكذلك تحقيق الشعبية المطلوبة على تلك المواقع، فوجود وعي منتشر لا فائدة منه، وكذلك وجود وعي موجه أو مزيف مسألة خطيرة، وتؤثر على اتجاهات الناس، وربما تحدث انتكاسات نتيجة ذلك.

أنواع الخوارزميات 
للخوارزميات الموجودة على مواقع التواصل الاجتماعي أشكال وأنواع عديدة، لعل أبرزها خوارزمية «البحث»، والتي ترتبط بالحصول على البيانات المتاحة سواء للمستخدمين أو للموضوعات أو الكلمات المفتاحية أو الاتجاهات الناشئة وغيرها، وهناك خوارزمية (الترتيب) وهي ترتبط بفكرة الجمع والتصنيف واستخراج المشترك والمختلف والأعلى تأثيرًا والأكثر أهمية وهكذا، وإلى جانب ذلك توجد خوارزمية (التفاعل) وهي ترتبط بأدوات التعبير والاستجابة عبر الوسائط الرقمية كالإعجابات والتعليقات والمشاركات والرسائل والمتابعة وغيرها من أشكال الارتباط الرقمي الشائعة. 
وفي الوقت الحالي تعتمد تلك الخوارزميات في تقنيات عملها على الذكاء الاصطناعي، من خلال روبوتات تمت تغذيتها بالمطلوب وتدريبها على التوقعات المحتملة للمستخدمين بصورة كبيرة لتنفيذ المهام المحددة سلفًا. 
ومن تلك التقنيات والخوارزميات يتشكل (الأنفوسفير) أو الغلاف المعلوماتي الخاص بنا، ويعود هذا المصطلح للوتشيانو فلوريدي في كتابه المهم: «الثورة الرابعة... كيف يُعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني» - الذي نشرته سلسلة عالم المعرفة الكويتية بترجمة: لؤي عبدالمجيد السيد في عدد سبتمبر 2017 - حيث إن تلك التقنيات أدخلت تعديلات على طبيعة الواقع ذاته ورؤيتنا له، ويمكن استخدام مفهوم الإنفوسفير كمرادف للواقع، حالما نفسر الواقع معلوماتيًّا، وفي هذه الحالة سيصبح الإيحاء هو أن ما هو حقيقي هو معلوماتي، وما هو معلوماتي هو حقيقي!

المحتوى الثقافي العربي
يعاني المحتوى من أزمة حقيقية بحسب التقديرات والتقارير المعلنة، حيث لا يتجاوز في أغلبها نسبة الـــ 3 في المئة، فضلًا عن أن أغلب هذا المحتوى يدور حول الأمور الاستهلاكية والنواحي الترفيهية بالأساس، أما المحتوى الثقافي فحدث ولا حرج في ظل فجوة معرفية كبيرة بين الجمهور والثقافة تزداد مع الكتاب والمفكرين والتشكيليين، بينما تقل كثيرًا مع الفنانين والسينمائيين والمسرحيين، ويبقى الأمل في السعي لإنتاج مشروع ثقافي توعوي رقمي متكامل يساهم في سد هذه الفجوة القائمة ويساعد على تحقيق طموحات الشباب العربي نحو الثقافة والمعرفة الجادة بنشر ثقافة الإنتاج والعمل المثمر للخروج من المأزق الحالي.
وعلى الرغم من النمو الكبير في أعداد مستخدمي الإنترنت في مصر والعالم العربي، فإن هذا النمو لا يعادله أي نمو فكري أو ثقافي ملحوظ، ففي بلد مثل مصر يقترب فيه عدد المستخدمين للشبكة الدولية من نحو ثلاثة أرباع عدد سكانه - وفقًا للتقديرات الدولية - لكن كل استخدامات الإنترنت تنحصر معظمها في التصفح والتعليق أو البث المباشر، دون أي استغلال أو إنتاج يذكر، فنحن أمام تضخم في الاستهلاك وضآلة في الإنتاج.
وتزداد أزمة المحتوى العربي في ظل الاستقطاب الكبير بين التنظير والترفيه في صياغة الخطاب الثقافي السائد، ففي أحيان كثيرة يلجأ المفكرون الذين تحتاجهم شعوبهم في الإشكاليات والقضايا الحاسمة للتنظير المطلق دون محاولة للتبسيط والوصول للعامة بطرق ميسرة وسهلة. 
ومشكلة المنظرين أنهم غالبًا يختارون القول لا الفعل؛ مما يترتب عليه أن يعيش الكاتب والمفكر في برج عاجي، وكذلك شعور الناس بعدم جدوى اللجوء لهم، أو أنهم في عالم مختلف عنهم. 
ويجب على العلماء والمفكرين أن يعملوا على تقليل الفارق بينهم وبين الجماهير من أجل إيجاد جدوى لفكرهم وعلمهم، وإلا فلن يشعر الناس بهم أبدًا. 
وعلى عكس التنظير يأتي الترفيه الزائد، ونلاحظ ذلك كثيرًا في عصرنا الحالي من خلال لجوء بعضهم إلى أنشطة ترفيهية كثيرة كمحاولة منهم لإقناع الناس بجدوى الثقافة وأهميتها، مما يجعل الموضوع أشبه بكوميديا سوداء غير مفيدة، بل بالعكس تضر بالمعاني الثقافية والفنية الراقية. 
نحن نحتاج إلى طريق ثالث لبناء ما تم هدمه فكريًا وإصلاح ما تم كسره ثقافيًا؛ الأمل كبير في استدعاء نماذج ملهمة، وليس عبادة أصنام.

حلول عملية للخروج من الأزمة 
يبدو المَخرج بالنسبة للمحتوى الثقافي في واحد من طريقين، الطريق السريع والعاجل من خلال استخدام الأدوات والإعدادات التي تتيحها تلك المواقع والتطبيقات نفسها لتجاوز سجن الخوارزميات داخل قوالب برمجية، مثل تحسين خيارات المتابعة Follow  مثل See First، أو Get Notification، وكذلك اتخاذ إجراءات، مثل Add To Favorite أو Save، وفي المقابل هناك سبل للمواجهة مثل Report وكذلك خيارات المراقبة عبر Insight.
أما الحل العميق والطريق الذي يحتاج لوقت مناسب وخطة محددة فيكمن في محاولة تحقيق فاعلية المنتجات الثقافية مثل الكتب على مواقع التواصل الاجتماعي من خلال عدة عوامل، أبرزها: 
-1 الجذب العقلي: وهو شيء متحقق بصورة كبيرة مع المنتج الثقافي نظرًا لارتباطه بالنواحي الفكرية والثقافية والتعليمية.
-2 الجذب العاطفي: ويرتبط بالجوانب النفسية والوجدانية التي تشجع القراء على خوض التجربة والمتابعة والحصول على الكتاب وشرائه.
-3 الجذب المالي: من خلال تحقيق مزايا تنافسية كالسعر والتخفيضات والعروض المميزة والهدايا الخاصة.
-4 الجذب الفكاهي: من خلال استخدام روح المرح والدعابة التي تخلق جوًّا من الألفة والود مع المحتوى ليحقق هدفه. 
-5 الجذب الجمالي: من خلال تصميم المنشورات وتناسق النص مع الصورة والتكوين الفريد في الألوان والأشكال والرسوم. 
-6 الجذب من خلال المؤثرين: ويقصد بهم الشخصيات العامة والمشاهير الذين يكونون محل تقدير وثقة من جمهورهم نحو الثقافة.
-7 الجذب الإخباري: من خلال نشر أخبار مهمة للجمهور وداخلها ميزة خاصة مما يسهل المتابعة باستمرار.
وفي كل الأحوال يجب السعي لتوضيح قواعد ملاءمة المحتوى بشفافية من قبل مزودي الخدمة أو التطبيق المستخدم، حتى تتم مراعاة ذلك لتجنب الحظر المؤقت أو الدائم أو تقليل مميزات معينة؛ ويجب التأكيد في النهاية على أن الحل التقني المدعوم بالفكر المتجدد والمرتكز على هويتنا الأصيلة هو وسيلتنا في مواجهة الأخطار والتحديات الحالية والمستقبلية، وقد حاولت في هذا المقال وضع نقاط واضحة لتشخيص الأزمة، وكذلك خطوات عملية نحو وضع الحلول الممكنة والعاجلة والعميقة ■