في ظل عالَمٍ يعيد إنتاج ثقافة اللاعدالة واللامساواة، وتأجيج الصراعات الإثنية، واحتدام التنافسية اللامتكافئة بين الدول الغنية والدول الفقيرة، وما يفضي ذلك إلى اتساع الهوة بين الطرفين، يطرح على المثقف والمفكّر والفيلسوف والسياسي إعادة النظر في كلّ الأفكار والقيم والمفاهيم الكبرى كالديمقراطية والحرية والمدنية الغربية، لأن حقيقة الغرب بممارساته التي تُعاكس وتتناقض مع هذه الشعارات الفضفاضة، أصبحت مكشوفة وواضحة لا غبار عليها. 

يمور العالَم، في الآونة الأخيرة، من وضع تاريخيّ يتّسِمُ بغياب الأمن الروحي والسلام العالَمي؛ نتيجة الارتداد الهائل الذي عَمّ المجالات البيئية والإنسانية والقيمية، ممّا نجم عنه تقويض صرح فلسفة الأنوار، وما ارتبط بها من مفاهيم كالعقلانية والحرية والفرد والعدالة والمساواة، وغيرها. هذا الوضع الكارثي يقود العقل البشري المتبصر والمتدبّر إلى الاندهاش وعدم الاطمئنان ويُصيبُه بخيبة الأمل وانعدام الثقة؛ فيما سيحمله المستقبل من مفاجآت صادمة وقاسية للبشرية، لأن ما أنتجته الحضارة الإنسانية من ثقافة ومعرفة تنتصر للعقلانية بفضل التضحيات الجِسام التي قدّمها مفكرون وفلاسفة وساسة كفولتير وجون جاك روسو، دافيد هيوم، وإيمانويل كانط، جوتفريد فيلهلم لايبتنز ويوهان هيردر وغيرهم، وأيضًا من طروحات وأفكار كانت كلّها تُشيد بقيمة الإنسان ودوره في البناء الحضاري، وإبراز فاعليته من خلال الإسهام في إنقاذ البشرية من قرون الظلام والعبودية، ومن هيمنة الرأي الواحد وغياب الحوار مع الآخر باعتباره كائنًا مختلفًا من حيث التفكير ومؤتلفًا من حيث كونه إنسانًا.
وقد سار الإنسان يشق طريق التحديث عبر ثورات عرفتها الإنسانية، كانت مفصلًا حاسمًا في التطور الفكري للإنسانية. يتعلّق الأمر بالثورة الزراعية والثورة الصناعة ثم أخيرًا الثورة الرقمية التي حملتها الطفرة الهائلة للعولمة. 
هذه العولمة لم تفكّر في الحفاظ على المنجزات التاريخية والحضارية، والسعي إلى تحويلها إلى مكسب تشترك فيه كل شعوب العالَم، بقدر ما قامت بعملية تحطيم وتهديم كل ما بنته جهود الإنسان السابق بنضالاته وأفكاره النّيّرة ورؤيته العميقة للذات والوجود، وذلك باعتماد سياسة لا تمت بصلة إلى إنسانية الإنسان، وإنما انشغالها منصب على تحويل الكائن البشري إلى عبد للآلة، خاضعًا وخانعًا لسلطتها، عبْر آليات متحكّم فيها تعددت بتعدد مصالح الطغمة العالمية المتسيّدة على القرارات العالمية، وبإحلال ثقافة اللاعقل، أي ثقافة تُسَيِّدُ الأهواء والرغبات والعناية المفرطة والمتطرّفة للجسد الإنساني. فما يشغل العولمة ليس الإنسان وإنما الشيء، بعبارة أخرى فآخر ما يُفَكَّر فيه هو الإنسان، لأن مسعى العولمة يكمن في الربح بزيادة الاستهلاك وترسيخ ثقافة الماكدونالد والتثقيف الذي لا يحتاج إلى بذل الجهد والمثابرة والمكابدة، بقدر ما يعتمد الاستنساخ وهضم حقوق الكتّاب والفكّرين الذين أفنوا حياتهم في البحث الأدبي والعلمي، لأن ثقافة السوق المبنية على قيمتيْ الطلب والعرض غدت متحكّمة في حياة الناس عن طريق الإغراء والإغواء. وما الوسائط الاجتماعية إلا صورة جلية لاستسهال الإنسان وتبخيس قيمته وتقزيم دوره في بناء الحضارة الإنسانية، بضرب الرموز التاريخية والحضارية، والاهتمام بالعابر والآني دون الانشغال بالمستقبل، وهذه طامة عظمى سيجني من وراءها الإنسان الويلات والمصائب، وسيكون عُرضة لمحن وجودية قاصمة.
 
الإنسان ومآلات العقلانية الغربية 
إذا كانت العقلانية أنقذت الإنسانية وحرّرتها من سلطة الكنيسة والنظام الفيودالي، ومن الفكر الخرافي والأسطوري، فإن العولمة كرؤية وتصوّر وسياسة جاءت لتجديد الصلة بثقافة العبد والسيّد، والعمل على تشويه العقل والفكر العقلاني، بتسييد سياسة جديدة قوامها الانتصار إلى التفاهة والسطحية، وإشاعة الضحالة، وتمييع الحياة التعليمية بمقاربات منهجية وتربوية تفرغ الإنسان من جوهره وعمقه وأصالته وفطرته السماوية، وتقويض مؤسسة الأسرة بكل الوسائل المتاحة، وضرب الرموز في شتى المجالات، باقتراح نموذج الإنسان الذي لايفكّر إلا في بطنه، وتلبية الشهوات والرغبات، والاعتناء بالجسد بطريقة مَرَضية، وذيوع العري بأصنافه وتلاوينه المتعدّدة والمختلفة، مما أفقد الإنسان هويته الوجودية المتمثّلة في كل ماهو طبيعي فطري، فأصبح فارغًا أجوفَ من كلّ ما يجعله يشعر بإنسانيته، مجرّدًا من نِعمة التفكير في كيانه وكونه، فاقدًا الإرادة، مشلول المبادرة، متواكلًا على الغير، فتحوّل بذلك إلى كائن حيواني غايته ومرماه إشباع رغباته المبتذلة والحقيرة والمذمومة، والسعي نحو الاهتمام والانشغال بالتُّرّهات والأباطيل والأراجيف التي تبثّها مواقع السوشيال. 

الإنسان وعبودية الرقمنة 
فما ينتظر الإنسانية، في العقود القادمة، أفظع وأقسى، وملامح الفظاعة والقساوة واضحة جلية للعيّان، فالخراب والتدمير، الحروب واتساع رقعة المقابر في كل بقعة من بقاع المعمور، وما يتبع ذلك من تهجير وترحيل وتغيير للخرائط والأجناس والأعراق، أضف إلى هذه الصور المؤلمة للإنسانية المعاصرة، انتشار أمراض نفسية واجتماعية كظاهرة التوحد بين فئات الشباب والانعزال والانطواء، غياب العلاقات الحميمة داخل البيت الأسري؛ والوصولية والانتهازية بتجلياتها المختلفة؛ هي بمنزلة قنابل موقوتة ستأتي على كل شيء في قادم العصور، بل إن الفئة الشابة تعيش حالة تَوَهَانٍ حيث الضياع وضبابية المستقبل وانسداد الآفاق ولّد فيها الإحساس بالإحباط واللاجدوى، مما جعلها فريسة سهلة للوقوع في فخ التعاطي للمخدرات، وبالتالي تغدو عالة على نفسها وعلى المجتمع. وهي مصائر محفوفة بالكثير من الاحتمالات والنتائج المنذرة بأمور تظل في حكم المجهول. فواقع الحال مشوب بالقلق والحيرة، ومثير لإشكالات عويصة مرتبطة أشدّ الارتباط بهذا الكائن المهدّد في الوجود والحياة، ولا غرابة في الأمر مادام الفناء قاب قوسين أو أدنى منه، بفعل الطبقة المهيمِنة والمتحكّمة في دواليب العالَم بِرُمّته، والمخطّطة لسياسات جهنمية في الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. فعالَم اليوم عالَمُ سبيرنطيقي همّمه الأول والنهائي يكمن في جعل التقنية جوهر حياة الإنسان، والمعبر «الحقيقي» عما تصبو إليه الحضارة الإنسانية. فالإنسان تحوّل إلى عبْد مأمور يخضع لربّ الرقمية يطبّق ما يُملى عليه، وينغمس في متاهاته اللامحدودة، فالعبودية الرقمية سُنّة جديدة يتبّعها الناس ولايملكون القدرة على التمرّد والعصيان والرّدّة، لكونها غدت قدرًا محتومًا يستحيل التجرّد منه. 

الرقمنة الديانة الجديدة 
إن الرقمنة هي الديانة الجديدة التي لم يأت بها نبيّ، وإنّما نزلت من الأرض على أمم تعيش في كنَف التّيه الوجودي لتزداد ضلالاً وجوديًا تحت مسمّى الانخراط في حضارة التقنية، وقد حملت الرقمنة ثقافة جديدة مختلفة عن ما هو كائن، ثقافة آلية تنتفي فيها روح الإنسان ويطغى عليها الطابع المادي المبتذل، والذي يُفقد الإنسانَ إنسانيته. وتعتمد هذه الديانة الجديدة على دستور آلي معلوماتي لا يُعير الاهتمام للموجود البشري بقدر ما يجعل استخدام الوسائط من الانشغالات المهمة لديه، لتكون أرضية لعلاقات جديدة وتشابكات متداخلة بين الإنسان والتقنية.
ونعتقد أن العولمة التي نصبت فخّها للإنسان محطّمة بذلك الحدود الجمركية وتدويل اقتصاد السوق، من خلال تسليع وتبضيع الإنسان، ولعلّ ثقافة الجسد مظهر من مظاهر هذه العولمة، حيث تمّ تحويل جسد الإنسان إلى بضاعة تعرَض وتباع عبْر واجهات المحلات المختصة في التجميل وكمال الأجسام ونوادي الرقص واليوغا وغيرها من التجليات المتعدّدة، كانت بداية الانحدار الحضاري الإنساني وإعلانًا على دخول البشرية عهدًا جديدًا سِمَته الابتذال في كل شيء.

سُؤالٌ مفتوحٌ 
تبقى الإنسانية، في نهاية الأمر، مهدّدة في وجودها، في أمنها، في استقرارها، في مستقبلها المنتظر، إذا لم يتم العمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من لدن الدول الرأسمالية المتوحشة، بسنّ سياسة عادلة مجاليًا وإنسانيًا وقِيميًا حتى تستعيد صحتها لاستمرارية الحياة. لكن فهل من مُنْصِتٍ ومُصْغٍ لنداء إنسان العالَم للخروج من عنق الزجاجة بفعل عولمة جائرة؟ ■