بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وأنظمة الحكم الاشتراكية في أوربا الشرقية في نهاية الثمانينيات وبدايات التسعينيات من القرن الماضي طرح عدد من المفكرين تساؤلات حول الطروحات الاقتصادية التي سادت في القرن العشرين. هل كانت منطلقات النظرية الماركسية في الاقتصاد، وكل النظريات ذات الصبغة الاشتراكية بما فيها النظرية الفابية المعتدلة، هل كانت ذات مقومات علمية وواقعية؟ لابد أن نقر بأن الحياة الإنسانية منذ بدايتها تعاملت مع الكثير من المعتقدات الدينية والدنيوية للتعامل مع متطلبات المعيشة والإنتاج والتوزيع والتعامل مع الآخرين في داخل البلاد أو خارجها. 

وتذكر المدونات التاريخية أن «أرسطو» كتب بشأن الاقتصاد وطرح نظريات حول العرض والطلب في الأسواق وكيفية الوصول إلى أسعار مناسبة للسلع والخدمات. القـــس الإيطالي توماس أكوانياس «Tomas Aquinas» اجتهد في مجال الاقتصاد خصوصًا ما يتعلق بشأن نظام الفوائد على الأموال، والتي كانت من المحرمات الكنسية. ذكر القس المولود في عام 1225 والمتوفى في عام 1274 بأن هناك أوضاعا حياتية تفرض القبول بالفوائد على الأموال المقترضة. ويتبين أن النظام الاقتصادي في أي من البلدان أو المناطق الجغرافية يتأثر بمنظومة القيم السائدة خصوصًا القيم الدينية والتي قد تضطر للتكيف في مواقفها بموجب الأوضاع الاجتماعية والمعيشية.

آدم سميث
لا شك أن آدم سميث الفيلسوف الاسكتلندي والذي عاش في القرن الثامن عشر كان من أخصب المفكرين الاقتصاديين في الحياة الإنسانية. أكد سميث أن السوق الحر هو مقياس الأداء الاقتصادي السليم وأن الاحتياجات الخاصة أو الشخصية ومتطلبات الفرد هي التي تحكم وتقود إلى الإنتاج الاقتصادي المثمر. أهم ما ورد في طروحات سميث أن تحقيق الأرباح يمثل أهم المحفزات في توظيف رأس المال، ولذلك فإن رأس المال يتوجه نحو المشاريع والأعمال التي تحقق أفضل العوائد. ويطرح عدد من المؤرخين الاقتصاديين بأن آدم سميث كان له دور مهم في قيام الثورة الصناعية الأولى والتي يشار إلى أنها بدأت في عام 1760 في إنجلترا. تمكنت تلك الثورة الصناعية من تغيير وسائل ووسائط الإنتاج وتحديث التقنيات المستخدمة في الإنتاج. عمل آدم سميث على تطوير نظريته الاقتصادية من خلال كتابه المشهور «ثروة الأمم» «The Wealth of Nations» في الفترة من 1767 إلى 1776، ومن الصدف المهمة أن هذا الكتاب صدر عندما بدأ التصنيع في إنجلترا ثم أوربا بأخذ أهمية الحياة الاقتصادية بما همش النشاط الزراعي إلى درجة ما وسارع من الهجرة من الريف إلى المدن التي أصبحت مراكز صناعية حيوية في بلدان عديدة، ولذلك انتقل الثقل السكاني في الأرياف إلى المدن بما أنجز تحولات ديمغرافية مهمة في حياة الأوربيين.

التجربة الصينية
لابد أن تتأثر النظريات الاقتصادية بالأحداث والأوضاع في البلدان الرئيسية، مثل الولايات المتحدة أو الصين أو روسيا أو بلدان الاتحاد الأوربي. كان من أهم النماذج الاقتصادية هو نموذج الصين التي مرت بتجارب صعبة خلال النصف الثاني من القرن العشرين. عندما استولى الشيوعيون على السلطة في عام 1949 طبقوا تجارب صعبة وعقيمة على الاقتصاد الصيني. حاول القادة بعد عام 1949 إنجاز تطبيقات اشتراكية متسرعة. وكان الاقتصاد في ذلك الوقت يعاني من تبعات الحرب الأهلية والحرب مع اليابان فقد تدمرت أنظمة النقل وشبكات الاتصال ومحطات الطاقة. كما أن الزراعة تعطلت وتراجع الإنتاج بنسبة 30 في المئة عن مستواه قبل الحرب. لكن الحكومة الجديدة قامت بتأميم الشركات الصناعية وغيرت نظام الملكية الزراعية وتحكمت بأسعار المواد والسلع. عند اعتماد أول خطة خمسية (1953 - 1957) تم التركيز على الصناعة وتم الضغط على ملاك الشركات لبيعها للدولة وأدت هذه السياسات إلى رفع ملكية الدولة في عام 1956 إلى 67.5 في المئة من جميع المؤسسات الصناعية. أما في الزراعة فقد تم تنظيم الملكية بحيث اضطر ملاك الأراضي إلى التخلي عن الملكية بموجب قانون الإصلاح الزراعي وتم تفتيت الملكية بشكل جذري. السياسات الاقتصادية المتعلقة بالزراعة أدت إلى حدوث مجاعة كبرى بين عامي 1959 و1961 وأدت إلى وفاة عشرات الملايين من المواطنين. ويذكر باحثون بأن المجاعة هي نتاج السياسات التي اعتمدت في حملة القفزة العظيمة للأمام «The Great Leap Forward»، وحدوث جفاف خلال تلك الفترة. بيد أنه يجب الأخذ بالاعتبار المحددات النظرية التي أدت إلى تلك السياسات غير الواقعية وعدم جدواها للحياة الاقتصادية في الصين.
تطبيقات الحزب الشيوعي الصيني بعد تولي السلطة في عام 1949 واستمرارها لأمد جاوز منتصف سبعينيات القرن العشرين دفعت البلاد إلى أوضاع اقتصادية صعبة ومعقدة. لاشك أن الكثير من قادة الحزب أبدوا اهتمامًا بما جرى وأكدوا على أهمية الإصلاح والتغيير لكن صقور الحزب من اليسار المتطرف ظلوا مهيمنين على صناعة القرار. في أواخر عام 1978 وبعد سنتين من وفاة ماوتسي تونع أقرت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي استراتيجية التنمية الاقتصادية. قاد عملية الإصلاح دينغ زيا وبنغ «Deng Xiaoping» الذي أطلق عليه لقب المهندس العام للإصلاح. بطبيعة الحال لم يتمكن الإصلاحيون من توصيف الإصلاح بالتحول نحو نظام السوق الحر، ولكنهم أطلقوا صفة «الاشتراكية بمواصفات صينية» أو «اقتصاد السوق الاجتماعي أو الاشتراكي». وهي محاولات تهدف لتوفير القبول من عناصر الحزب وتدفع المجتمع إلى التفاعل مع التحولات المنهجية دون الشعور بالتغيير الكامل.

الاشتراكية السوفييتية
الفكر الاشتراكي والمتمثل بفلسفة الملكية العامة للأصول والمؤسسات والتحكم بالأسواق وأسعار السلع ووسائط الإنتاج في مختلف القطاعات بدأ في روسيا بعد قيام الاتحاد السوفييتي أثر ثورة البلاشفة في عام 1917. بعد نجاح الثورة وإعلان الاتحاد السوفييتي في عام 1922 ونهاية الحرب الأهلية في عام 1923 أعلن فلاديمير لينين أن البلاد تنتهج نظامًا اقتصاديًا مبنيًا على الفلسفة الماركسية ووعد بتحطيم النظام الرأسمالي وإقامة مجتمع العدالة بقيادة الطبقة العامة. بيد أن ما فات قادة الثورة أن النظرية الماركسية تؤكد أن الانتقال إلى النظام الاشتراكي «العادل» يجب أن يسبقه قيام نظام رأسمالي يقيم صناعات حيوية وينتج عنه توافر طبقة عاملة مؤهلة تعليميًا ومهنيًا. روسيا وغيرها من بلدان انضوت تحت الاتحاد السوفييتي كانت بلدانا زراعية ولم يكن التصنيع قد تطور بشكل كبير فيها، كما أن الطبقة الوسطى كانت محدودة الأثر الاقتصادي والاجتماعي، النظام الذي اعتمد على الديكتاتورية السياسية والقمع خصوصًا عندما تولى جوزيف ستالين الحكم بعد وفاة لينين في مطلع عام 1924، النظام السياسي حول البلاد إلى معسكر اعتقال كبير وأرسى أنظمة اقتصادية قسرية في مختلف القطاعات، الزراعة والصناعة والخدمات والتسويق والتوزيع. أصبح الاقتصاد اقتصادًا موجهًا «Command Economy» قيدت التوجهات الاستثمارية وحددت الأسعار ولم تكن هناك تجارة خارجية تذكر إلا ما يتعلق بتصدير الأسلحة والأعتدة العسكرية للدول الحليفة مثل أوربا الشرقية أو الصين أو كوريا الشمالية ثم كوبا وعدد من بلدان الشرق الأوسط وإفريقيا. لابد من الإقرار بأن النظام السوفييتي تمكن أن ينقل الاقتصاد من اقتصاد زراعي إلى اقتصاد صناعي في أوائل خمسينات القرن الماضي، لكن ما هي الصناعات التي قامت وهل حققت الرفاهية الاستهلاكية للمواطنين؟
أصبح الاقتصاد السوفييتي ثاني أكبر اقتصاد في العالم من نهاية الحرب العالمية الثانية حتى منتصف الثمانينيات من القرن الماضي. ساعد في ذلك الاكتشافات النفطية والغازية وتسارع الإنتاج في حقولها والقدرات التصديرية بعد الصدمة النفطية الأولى في عام 1974. يعني ذلك أن الاقتصاد السوفييتي اعتمد على الثروات الطبيعية وتصدير النفط الخام والغاز الطبيعي. بعد تدهور أسعار النفط في أواسط الثمانينيات بدأ التصدع في الحياة الاقتصادية، صادف ذلك تولي ميخائيل غوراتشوف الأمانة العامة للحزب الشيوعي ثم إدارة البلاد. وجد غورباتشوف أن الاقتصاد يمثل أهم التحديات وعليه البدء بعملية إصلاح بنيوية واسعة النطاق ونقطة البداية هي تحطيم نظام الاقتصاد الموجه وتحرير الأنشطة من هيمنة البيروقراطية. سعى الأمين العام غورباتشوف إلى تشكيل اقتصاد مختلط متعاون بين القطاعين العام والخاص ولذلك شجع المبادرات الخاصة والشركات غير الحكومية. الاقتصاد الروسي، والسوفييتي، كان لابد له أن يتراجع ثم ينهار لأنه لم يكن مواكبًا لمتطلبات البشر حيث إن نزعة إشباع الاحتياجات الاستهلاكية هي نزعة طبيعية ولم يوفر ذلك الاقتصاد تلك المتطلبات والتي ازدادت بحكم قدرة المستهلكين في روسيا وغيرها من البلدان الاشتراكية آنذاك من التعرف على ما توفره الاقتصادات المجاورة مثل ألمانيا والنمسا وفرنسا والبلدان الاسكندنافية لسكانها من سلع وخدمات.

الرأسمالية وتجديدها
الاقتصاد الرأسمالي أو اقتصاد السوق، مر، أيضًا، بتحولات مهمة خلال القرن العشرين. التوسع في الاستثمار وارتفاع المديونيات والمضاربات المستمرة على الأصول أدت إلى أزمات عميقة، أهمها أزمة الكساد الكبير بعد انهيار السوق المالي في نيويورك عام 1929. كان لابد من صياغة منهجية مختلفة لمواجهة الأزمات الكامنة في النظام. عندما تولــــى الرئيــــس فرانكلــين روزفلت الرئاسة في الولايات المتحدة عام 1933، إبان أزمة الكساد انتهج ما أطلق عليه الصفقة الجديدة والبرنامج الجديد، New Deal لمعالجة آثار الكساد على الاقتصاد الأمريكي. أهم ما ورد في البرنامج محددات لحماية النظام المصرفي واتخاذ إجراءات من أجل إحياء الاقتصاد أو تسخير آلياته وأدواته ورفع الأسعار التي تهاوت كما قام بطرح مشاريع تولت الحكومة تمويلها من أجل خلق فرص العمل للمواطنين الذين فقدوا وظائفهم. لا شك في أن روزفلت قام أيضا بابتداع برامج اجتماعيــة، لم تكن مقبولة سابقًا من قبل أساطين النظام الرأسمالي، ومنها نظام التأمينات الاجتماعية الذي أقره الرئيس روزفلت في عام 1935. هذا النظام أمن تأمينًا لحياة العاملين المتقاعدين بعد بلوغهم عمر الـ65 عامًا.
يعتبر كتاب «الرأسمالية تجدد نفسها» والذي صدر عن سلسلة «عالم المعرفة» في الكويت لمؤلفه المرحوم الدكتور فؤاد مرسي من أهم الكتب التي تصدت للرأسمالية وأزماتها وكيف جرت معالجة تلك الأزمات. وقد صدر الكتاب في مارس 1990. أشار الكاتب، وهو ماركسي النزعة، بأن الرأسمالية أثبتت أنها أكثر قدرة على الحياة وأنها تستطيع أن تستجيب لمشاكلها في الوقت المناسب وتجدد قواها الإنتاجية. غني عن البيان أن الأزمات التي مرت بها البلدان الرأسمالية وأخرها الأزمة المالية عام 2008 تؤكد ما بينه الدكتور قؤاد مرسي الذي عمل أستاذًا للاقتصاد في جامعة الإسكندرية وتولى وزارة التموين والتجارة الداخلية في مصر. يتمتع النظام الرأسمالي بقـــــدرات عــلــــــى تكيــيـــف السياســات المالية والنقدية بما يتوافـــق مـــع المتطلبات الاقتصادية في زمن محدد. كـــان الفيلســــوف الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز من أهم من طرحوا أفكارًا غير كلاسيكية لإنقاذ النظام الاقتصادي في الولايات المتحدة والدول الرأسمالية بعد كساد 1929. استفاد الرئيس روزفلت من مقترحات كينز لصياغة البرنامج الجديد والذي مكن من مواجهة تبعات الكساد وحسن الأداء الاقتصادي.

أهمية التطوير
مهما يكن من أمر فإن النظريات الاقتصادية والبرامج الناتجة عنها يجب أن تواكب المتغيرات في الحياة الإنسانية والتحولات الصناعية والتطورات التكنولوجية. الحياة البشرية ليست ساكنة ولا تعتمد أنماطًا اقتصادية واجتماعية غير قابلة للتغيير ولذلك فإن اعتماد قيم دوغمائية لا يسعف عند مواجهة الأزمات وهي لابد أن تحدث في حياة الشعوب. وعندما وضعت النظريات الاقتصادية في القرون الماضية خصوصًا في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر لم تكن الحياة قد عصفت بها تطورات تقنية وإدارية كما هي الحال في الوقت الراهن. وإذا كانت الثورات الصناعية تحدث مرة كل قرن أو نصف قرن فإن التحولات التي جرت منذ منتصف القرن العشرين تبشر بأن هناك إمكانيات لحدوث ثورات صناعية وتقنية في مدد أقصر خلال العقود القادمة. ما هو متوقع في مجال الطاقة والاتصالات والبيئة والصناعة المصرفية يؤكد أن وضع النظريات الاقتصادية يفترض أن يؤسس على الوقائع المتغيرة في الحياة تقنيًا وديمغرافيًا واجتماعيًا، وهي عوامل تؤثر بعضها بالبعض ولا يمكن عزلها. هناك الآن ورش دائمة في الجامعات المرموقة ومعاهد الأبحاث في الدول المتقدمة تواكب التحولات في الحياة الإنسانية لاستنباط فكر اقتصادي ملائم ■