عجائب الهند.. بين الحقيقة والأسطورة

عجائب الهند.. بين الحقيقة والأسطورة

العلاقات التجارية بين العرب والهنود قديمة قدم التاريخ، ولعب فيها المحيط الهندي والخليج العربي وبحر العرب والبحر الأحمر، دورًا مؤثرًا في استمرار تلك العلاقات حية ومتفاعلة ونشيطة حتى اليوم. ومن خلال تلك العلاقات التجارية والتجار العرب المسلمين وصلت الديانة الإسلامية إلى شبه القارة الهندية وما جاورها من بلاد وأقاليم وجزر.

من خلال التبادل التجاري وسفر المراكب والسفن وعودتها تنتقل الحكايات والحواديت والأساطير والخرافات، التي من الصعب اكتشاف صحيحها من فاسدها وحقيقتها من خيالها، فهي حكايات عن عالم البحر وأهله وجنيَّاته تروى في أوقات السمر على متن المراكب والسفن، أو على رمال الشواطئ في ليالي الراحة والمسامرة، وتزجية الوقت بكل ما هو عجيب ومستطرف.

وقد عاصر النوخذة «البحَّار» الفارسي بُزُرْك بن شهريار الأمير أحمد بن هلال عامل الخليفة العباسي المقتدر بالله (296 - 322 هـ/909 - 931م) على عُمان، في وقت بلغت فيه الملاحة العربية في المحيط الهندي أوج عصرها الذهبي، وكانت الموانئ العُمانية من أولى الموانئ التي تنطحها المراكب القادمة من المحيط الهندي إلى الخليج العربي، صعودا إلى بغداد عاصمة الخلافة.

حكايات مصبوغة بالخيال

وقد أتت هذه الأسفار إلى البلدان والجزر البدائية البعيدة بحكايات مصبوغة بصبغة الخيال والمبالغة، عن صفات سكانها وحيواناتها وطيورها وأشجارها، فالسلحفاة - على سبيل المثال - تصير مثل الجزيرة في حجمها، والنملة تصبح كالقطة، والحية تشبه ساق الشجرة الكبير وتأكل الفيلة وتبقي على أنيابها، والطائر من الضخامة والقوة بحيث يستطيع حمل الإنسان برجليه والطيران به بين الجزر، وغير ذلك من العجائب الأسطورية التي ينكرها البعض.

وقام بُزُرْك بن شهريار بتجميع مثل هذه الحكايات والأساطير وعادات الهند الغريبة وبعض تقاليدهم وطقوسهم، في كتاب وضع له عنوان «عجائب الهند، بره وبحره وجزائره». ودرس حسن صالح شهاب هذا الكتاب (معتمدا على طبعة بريل، ليدن 1883 - 1886) وتعرف على تلك الحكايات، ورتبها على حسب مهن رواتها في ثلاثة أقسام مع وضع عناوين لها، وترقيمها، فكان القسم الأول للرواة من النواخذة والربابنة، والثاني لتجَّار البحر وركابه، والثالث لمن لم يذكر المؤلف (بُزُرْك بن شهريار) أسماءهم من رواة حكاياته. وقامت دار الكتب الوطنية بهيئة أبوظبي للثقافة والتراث بنشر دراسة شهاب في كتاب بعنوان «عجائب الهند لبُزُرْك بن شهريار بين الحقيقة والأسطورة» صدر في 2010 وجاء في 210 صفحات.

ومن خلال صفحات وحكايات هذا الكتاب نتعرف على العلاقة البحرية بين جزيرة العرب والساحل الشرقي من أفريقيا خاصة حول مضيق «باب المندب» التي ترجع إلى بداية ركوب البحر على الأطواف، فحول هذا المضيق يرى الواقف على الساحل العربي أو الأفريقي، جبال الساحل الآخر، وما كان عليه إلا أن يركب رمثا، أو جذع نخلة حتى يصل إليه، وتلك كانت بداية التواصل والهجرات بين الساحلين، وحتى في عهد بطالمة مصر، ثم الرومان من بعدهم بقي هذا التواصل البحري البدائي جاريا، حيث كانت الأطواف تنتقل بالركاب والسلع بين الساحلين حول هذا المضيق.

بلاد الواق واق

وعلى الرغم من ذكر ابن شهريار لبلاد الواق واق «أو الواقوق»، فإن أمر هذه البلاد يظل من المسائل التاريخية التي لم يعرف لها حل.

يقول شهاب: «حتى الآن لم تجد هذه المسألة - للأسف - من يدرسها ويجلو حقيقتها، الأمر الذي يجعل الاعتقاد بأن أهل الواقوق من الشعوب الأسطورية أمرًا محتملاً. ولا نجد عنهم في غير هذا الكتاب سوى اسمهم المجرد، وأخبار ملفقة بعيدة عن الحقيقة. وقد لاحظ ابن الفقيه الهمداني صاحب «مختصر كتاب البلدان 902» فيما روته البحارة عن حكايات عنهم، أن هناك «واق واقين» حيث قال: وواق واق الصين هم بخلاف واق واق اليمن».

ومن عجائب الهند في هذا الكتاب حكاية «حية صَيْمور» التي يقول عنها بُزُرْك: «حدثني جعفر بن راشد المعروف بابن لا كيس، وهو أحد ربابنة بلاد الذهب، ونواخذته المشهورين فيه، أن حية جاءت إلى خور صَيْمور، فابتلعت تمساحا كبيرا. وبلغ صاحب صَيْمور الخبر فوجّه من يطلبها، وأنه اجتمع عليها زيادة على ثلاثة آلاف رجل حتى ظفروا بها، وشدوا في عنقها الحبال، واجتمع عليها جماعة من أصحاب الحيات، فقلعوا أنيابها وشدوها بالحبال، وحصل لها شجّة من رأسها إلى أذنها، وذروعها وكانت أربعين ذراعا، وحملها الرجال على أعناقهم، وكان تقديرها آلاف أرطال، وكان ذلك في سنة أربعين وثلاثمائة».

ويعلق حسن صالح شهاب على هذه الحكاية بقوله: «ليس في هذه الحكاية غير المبالغة في حجم الحية. وجميع حكايات الحيوانات هنا لا تخلو من المبالغة، و«صَيْمور» من موانئ الجزء الشمالي من ساحل الهند الغربي، ومن ميناء «بمباي» شمالا».

حكايات لا يقبلها العقل

ويعلق على حكايات أخرى بقوله: حكايات لا يقبلها العقل، كحكاية مرور مركب بين مقبضي سرطان، فهذه الحكاية سمعها النوخذة أبوعبدالله محمد بن بابشاد بن حرام بن حمويه السِّيْرافي (أعرف خلق الله بأمر البحر) من البحارة يتحدثون بها في صباه، وحينما سأله بُزُرْك: أأحكي عنك هذه الحكاية؟ أجابه: قد سمعت بها، وهو شيء عظيم، ما أدري ما أقول فيه، إلا أن السرطان يعظم في البحر جدًا.

ومن الحكايات الأخرى المثيرة في كتاب «عجائب الهند» حكاية قردة تحمل من باباني (أي بحَّار)، والعثور على خاتم غريق في بطن سمكة، وقرد له وجه إنسان، وزرافة سومطرة، وأغباب سرنديب، وعجوز تغرق نفسها في النهر، وقرية أهلكها لحم طائر، وسمك يطير كالطير، وسمك له وجه إنسان، وسمكة تنطح مركبا، وسلحفاة كجزيرة، وحية تأكل فيلة، وفيلة تجلب حوائج أربابها من البقالة، وجزائر أكلة البشر، وفي هذه الحكاية الأخيرة يقول بُزُرْك:

«حدثني محمد بن بابشاد أن بجزيرة «النيان»، وهي جزيرة في البحر بينها وبين «فنصور» مقدار مائة فرسخ، قوم يأكلون الناس، ويجمعون رؤوس الناس عندهم، ويفتخر الواحد منهم بكثرة ما يجمع من الرؤوس، ويشترون سبائل الصِّفر «النحاس» بالثمن الوافر، ويدخرونه مكان الذهب، ويبقى في بلادهم الدهر الطويل، كما يبقى الذهب عندنا. والذهب عندهم لا مقام له، بل يكون منه ما يكون من الصفر عندنا. فتبارك الله أحسن الخالقين. وبعد جزيرة «النيان» ثلاث جزائر يقال لها «براوه» أهلها أيضا يأكلون الناس، ويجمعون رؤوسهم فيتعاملون بها ويقتنونها.

وحدثني أن جميع أهل «فنصور» و«لامري» و«كَلَه» و«قاقلة» و«صنفين» وغيرهم يأكلون الناس، إلا أنهم لا يأكلون إلا أعداءهم من طريق الغيظ عليهم، وليس يأكلونهم من طريق الجوع، ويقددون من لحم الإنسان، ويصنعون منه أنواع الصنعة والألوان، وينتقلون به إلى الخمر».

ويعلق شهاب قائلا: «هذه الحكايات كلها حقيقة، وليس فيه شيء من الخيال، فبعض الجزائر المجاورة لجزيرة «سُمطرة» من جهة الغرب، وبعض الأماكن من ساحلها الغربي، بقيت المراكب التجارية العربية وغيرها، تخشى الاقتراب منها حتى في أيام ابن ماجد، وسليمان المُهري، بعد أكثر من خمسة قرون ونصف من تأليف بُزُرْك كتاب عجائب الهند».

ومن الحكايات الأخرى، حكاية تصريف المركب في بحر الصين الجنوبي التي تكشف أن الطريق البحرية من «سنغافورة» إلى «شامبا» كانت معروفة لدى البحارة العرب، حتى في أيام أحمد بن ماجد، في القرن الخامس عشر الميلادي، وأنه إلى جانب الأساطير حقائق لا يمكن إنكارها عن قواعد الملاحة عند العرب والهند، في عصر الخلافة العباسية.

وليس هناك شك أن هناك أصداء من حكايات «عجائب الهند» لبُزُرْك بن شهريار، تتردد في حكايات «ألف ليلة وليلة»، ومنها حكاية «وادي الأدماس «الألماس» التي يمكن اعتبارها أصلا لحكاية سندباد عن وادي الألماس.

-----------------------

أحبكِ يا أجمل الحبِّ لكنْ
أنا فيكِ صرتُ أعيشُ بسرعهْ
وبعض الشموع ِ تموتُ من الحبِّ
تبقي من الحبِّ دمعهْ
وبعض الشموعِ تسافرُ
لكن تظلُ دمشقُ
وتكبُرُ كل شموعِ دمشقَ
وداعاً
وداعاً دمشقُ
إلهيَ
كيفَ خلقتَ جمال دمشقَ
نضال دمشقَ ... وحب دمشقْ؟

راشد حسين

 

 

 

حسن صالح شهاب