ماهية العلم في التراث العربي

ماهية العلم في التراث العربي

كتب ابن الهيثم في سنة 417هـ/1027م عن نفسه:
«... وأنا ما مدت لي الحياة، باذل جهدي، ومستفرغ قوتي في مثل ذلك (أي العلم)، متوخيًا منه أمورًا ثلاثة: أحدها إفادة من يطلب الحق ويؤثره في حياتي وبعد مماتي، والآخر أني جعلت ذلك ارتياضًا لي بهذه الأمور في إثبات ما تصوره وأتقنه فكري من تلك العلوم، والثالث أني صيرته ذخيرة وعدة لزمان الشيخوخة، وأوان الهرم. وأنا أشرح ما صنعته من هذه الأصول الثلاثة ليوقف منه على موضع عنايتي بطلب الحق وحرصي على إدراكه».

السعادة عند المشتغلين بالعلم هي «طلب العلم وبذله للبشرية» قمة العطاء عند هذه الأجيال بصورة مثالية تجعلنا ندهش من مواقفهم، وهي ليست غريبة إذ هي تأتي في سياق فلسفة العمران في الحضارة الإسلامية، التي تسعى لعمارة الأرض. من هنا كان من الطبيعي أن نرى مفهوم العلم يأخذ مساحات جديدة مع الزمن، هذه المساحات التي اكتسبها، أتت من التنوع وتعدد الاختصاصات بنمو العلوم، فأخذ مفهوم العلم يتجاوز مدلوله الديني الذي كان محددًا في بدايات الحضارة الإسلامية بمعرفة الحديث النبوي الشريف، كما حدده الخطيب البغدادي في كتابه «تقييد العلم» لنرى مجالات العلم هي: فلسفة/ منطق/ فقه/ رياضيات/ كيمياء، تثري في فضاء العمران في الحضارة الإسلامية، فالعلم عندهم لا يكون علمًا إلا مع اليقين، وفرقوا بين العلوم الدينية والعلوم الطبيعية، فالفارابي (339هـ) يرى أن العلم الطبيعي هو علم الأجسام المادية، وهو أن يعرف كل جسم من حيث مادته وصورته وفاعله والغاية التي لأجلها وجد ذلك الجسم، وهو يقابل علم ما بعد الطبيعة، هذه رؤيته، لكنهم ما بين العلوم الدينية والإنسانية والطبيعية نرى مجالات عدة لدرجة معها رأينا نضوجًا في العصر المملوكي عصر الموسوعات العلمية، لنرى بعد ذلك انحسارًا تدريجيًا وانزواء على الذات دون إدراك ما يحدث حولنا.
إنهم لم يكونوا ينتقدون أسلافهم من العلماء لمجرد النقد بل لإحداث قفزات علمية كما نرى عند ابن الهيثم في كتاب المناظر، فعند حديثه عن سرعة الضوء، يرى أن هذه السرعة متناهية، ولكنها كبيرة جدًا لدرجة أنها تبدو في بعض الأحيان لامتناهية، لنجد البيروني معاصره يقرر أن سرعة الضوء أكبر بكثير من سرعة الصوت، هذا يكشف لنا عن تيار علمي قوي، فنرى أيضًا ابن الهيثم يذكر أن سرعة الضوء في الأوساط المختلفة تتناسب عكسيًا مع الكثافة البصرية.
كانت التجربة والدربة عليها طريقهم فنرى مسلمة بن أحمد المجريطي، وهو منسوب إلى مجريط وهي مدينة مدريد حاليًا بإسبانيا (ت397هـ/ 1007م) كان يشدد على الكيميائي أن يدرب يديه على إجراء التجارب وبصره على ملاحظة المواد الكيميائية وعقله على مزاولة التفكير فيها... نهض هؤلاء العلماء بتطوير البحوث في مجالات العلوم الطبيعية وفق مناهج الاستقراء والملاحظة والتجربة والاستدلال، يحفزهم على ذلك شعورهم بتقوى الله ومحبته... وأنها طريق لأداء رسالتهم في الحياة الدنيا للوصول للحياة الآخرة.
تلاقى الفقه الإسلامي والعلوم الطبيعية في كثير من المواضع علميًا، فصار التلاقح بينهما بين، وكيف لا والفقه علم يلامس يوميًا مستجدات الحياة ومعطياتها، بل قام على التعاطي مع وقائع الحياة اليومية ومعطيات العلم الجديدة، فنجد الفقيه ينظر إلى قضية «المحل» باتساعها وتنوعاتها، و«المحل» هو السياق والبيئة وهو «الوسط» الملابس للفعل التكليفي وللفاعل المكلف معًا، وهو «الواقع». وفي «المحل» لا يمكن أن يندرج مفهوم «الأوضاع» أي الأكثر استقرارًا، ومفهوم «الأحوال» أي الأكثر تغيرًا وتحولًا على نحو ما سيجليه ابن خلدون، لذا يتحدث الفقيه مثلًا عن أوصاف عامة للزمان بما يغلب عليه، من مثل زمن عمت فيه البلوى أو الفتنة أو الجهالة أو الشبهة أو الاستضعاف أو الخوف أو الجبرية أو الملك العضوض أو الفساد أو الاستبداد.
ومن معين المحل والسياق يتطرق الفقيه كذلك إلى قضية «العرف» ويسند لها مهام ووظائف جسامًا، سواء في تفسير الدليل والخطاب، أو في تنزيله على الواقع، أو في الكشف عن الواقع أيضًا، ومن ثم، فلقد كان دوران الفقيه حول مفهوم «الفعل» دورانًا خلاقًا ومنفتحًا على ما يحيط بالفعل البشري من عوامل تؤثر فيه وتتأثر به، ومن ثم يقدم إمكانية لأن تنطلق هذه الحضارة من الفعل إلى التفاعل إلى الواقع المحيط.
التفاعل عبر حضارة العمران أتى بما هو أبعد من تفاعل الفقه مع الواقع المحيط، عبر آليات التصور والتخيل، بطرح فرضيات علمية، جاء ذلك من المناظرات بين العلماء والمحاججة بينهم، ليتجاوز الأمر المنافسة، حيث إن المناظرات لدى هذه الحضارة ليست للانتصار للرأي كما في حضارة الإغريق، بل للانتصار للحق، كما رأينا في نصوص العلماء أن غايتهم الوصول للحق، فأصبحنا نرى طرح فرضيات علمية، ومحاولة البرهنة عليها، أليس هذا هو علم «الدراسات المستقبلية» في عصرنا؟ ففي المناظرة... يبدأ أحد المتناظرين بطرح فرضية «أرأيت كذا وكذا» ليتمكن المناظر من إفحام خصمه وإلزامه بما هو غير مقبول، ثم دخلت هذه الفروض في الفقه لغير ذلك، وكان أصحاب هذه الطريقة يفخرون بأن وضع المسائل يعتبر نصف الفقه، ويبررون بحثهم عن حكم ما لم يقع بأنه استعداد للبلاء قبل وقوعه. وكان من لا يرون ذلك يعيبون طريقة الفقه الافتراضي، ويشنعون على أهله، ويسمونهم الأرأيتين، أخذًا من قولهم: أرأيت كذا، ومن الفريق الأول أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه... غير أنه لم تمض إلا فترة وجيزة حتى اشتغل الكل بالفقه الافتراضي.
كيف أتت هذه الرؤى وهذا الفكر العميق؟ أتى ببناء أساسي متين عبر مؤسسات التعليم من الكتاتيب (المكاتب) التي بنت اللبنة الأساسية للطفل، فكان التعليم مشروعا لإقامة فضاء العمران، لذا رعته مؤسسة الوقف ومولته، ثم المدارس (الجامعات) التي كانت تمارس التعليم من أجل العلم، فكان الطالب يتفرغ لاكتساب العلم، ففي القاهرة حتى لو كان الطالب قاهريًا يترك أهله ليقيم في طبقات (سكن جامعي) الطلبة، يتلقى مع زملائه راتبًا نقديًا شهريًا والطعام المجاني وكسوتين في العام صيفًا وشتاءً، بشرط أن يعطي قلبه وعقله لكي يقيم أسس المعرفة في حضارة العمران، بل نجد لديهم برامج واضحة للتعليم وأسسه حتى ألفت فيها مئات الكتب، لنجد ابن خلدون في المقدمة يقول لنا: «اعلم أن تلقين العلم إنما يكون مفيدًا إذا كان على التدريج شيئًا شيئًا وقليلًا قليلًا، يلقى عليه أولًا مسائل في كل باب من الفن، هي أصول ذلك الباب، ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعي في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يورد عليه، حتى ينتهي إلى آخر الفن، وعند ذلك تحصل له ملكة في ذلك العلم، إلا أنها قريبة وضعيفة وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله، ثم يرجع به إلى الفن ثانية، فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي في الشرح والبيان، ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته. ثم يرجع به وقد شدا، فلا يترك عويصًا ولا مبهمًا ولا منغلقًا إلا أوضحه وفتح له مقفله، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته».
أرأيتم منهجًا أرقى من هذا في إكساب الأجيال المتعلمة العلم، اكتسابًا يدخل العقل ولا يخرج منه، بل يجعله يستوعب أبعاد هذا العلم بتدرج، مما أعطى لنا شرائح من المتعلمين ومنهم خرج علماء، لذا قال الشاعر الزاهد محمد بن عبدالملك الفارقي (ت 564هـ):
إذا أفادك إنسان بفائدة                     
من العلوم فأدمن شكره أبدا
وقل: جزاه الله صالحةً                    
 أفادينها وألق الكبر والحسدا
إن التقدم العلمي الذي بلغته هذه الحضارة ومعطياتها أمر مفروغ منه، لكن يبقى السؤال لماذا تلاشى أمرها وانحسر دورها؟ وهذا مبحث له الكثير من التحليلات، التي تؤشر إلى تراجع الاهتمام بالعلوم التطيبيقية لحساب العلوم الشرعية، لكن بالرغم من هذا رأينا علماء في الأزهر، مثل الشيخ حسن الجبرتي يتفوق في الرياضيات، والشيخ أحمد بن عبدالمنعم الدمنهوري يؤلف (عين الحياة في علم استنباط المياه) في أواخر القرن الـ 18م، هذا ما يجعلنا أمام تساؤلات حول ماهية العلم في التراث العربي، ولماذا تراجعنا وتفوق الغرب؟ ■