صورة المرأة وشعرية الحب الإنساني دراسة تأويلية في تجربة سُعاد الصباح الشعرية

صورة المرأة وشعرية الحب الإنساني  دراسة تأويلية في تجربة سُعاد الصباح الشعرية

  يتحقق الشعر في وجدان الشاعر من خلال تجاربه القوية في الحياة والرغبة الداخلية الشديدة التي تعتريه للتعبير عنها، بالإضافة إلى قوة امتلاكه للكلمات، كما يقول الشاعر الفرنسي بول فاليري. ذلك أن الشعر لا يمكن أن يتواجد إلا من خلال الكلمات وبواسطتها. وكل كلمة فيه تشكل البنية الشعرية الكلية فيه على حد تعبير الناقد الفرنسي جان كوهن في كتابه الشهير «بنية اللغة الشعرية»، حيث يُعلن الانزياح في هذه البنية الشعرية عن ذاته بمختلف تجلياته ومكوناته التركيبية والدلالية والإيقاعية. وهو ما يجعل من الشعر في بعده الكوني لا يتحقق وجوده بالفعل إلا لدى قلة من الشعراء الذين انشغلوا بفن الشعر وامتزجوا بعوالمه السحرية البعيدة المدى، تجربة ومعاناة وكتابة وإعادة كتابة، وصياغة وإعادة بناء، ومن بين هؤلاء الشعراء يحضر اسم الشاعرة الكويتية الكبيرة سُعاد الصباح. 

 

إن هذه الشاعرة العربية العميقة التي غاصت في عوالم الشعر الحقيقي وعبرت من خلالها عن تجربتها في الكتابة وفي الحياة معًا، واستطاعت بإخلاصها الشديد له وبتفانيها اللامتناهي في كتابته أن تبدع فيه وأن تنجز أعمالاً شعرية كبيرة في ميدانه، بوأتها مكانة رفيعة في الشعر العربي الحداثي بكل مكوناته وتنوعاته واختلافاته وغناه وسعة متخيله. هكذا، فقد أصدرت الشاعرة مجموعة من الدواوين الشعرية التي حظيت بالكثير من الإعجاب الذي تستحقه بالفعل. ومن بين هذه الدواوين الشعرية نذكر ما يلي: «ومضات باكرة»، «لحظات من عمري»، «فتافيت امرأة»، «قصائد حب»، و«في البدء كانت الأنثى». وسنتوقف في دراستنا هاته لشعر هذه الشاعرة العربية الكبيرة سعاد الصباح عند ديوانها هذا « في البدء كانت الأنثى»، بغية استجلاء صورة المرأة فيه وشعرية الحب التي يُعلن عنها في ثنايا كلماته القوية والعميقة في آن.

انحياز إنساني
إنّ الشاعرة الكويتية سُعاد الصباح تُعلن في هذا الديوان الشعري الإنساني العميق، ومنذ عتبته الأولى كامل انحيازها الإنساني النبيل إلى المرأة، وتُقدّم لنا من خلال هذه العتبة الأولى التي هي عنوانه، أهمية المرأة في العالم الإنساني ودورها الأساسي فيه، فالمرأة حاضرة منذ البدء وستظل حاضرة إلى المنتهى. وتبعا لذلك، فهي ترسم لهذه المرأة صورة الند للند مع الرجل. يتجلى ذلك بكامل الوضوح في قصيدتها الافتتاحية التي حملت عنوانًا دالاً على ذلك، وهي قصيدة «كُن صديقي». فالصداقة هنا هي صداقة إنسانية مبنية على الندية وعلى المحبة وعلى التكامل الإنساني، على أساس أنّ المرأة هي إنسان قبل أن تكون امرأة وعلى أساس أن الرجل هو أيضًا إنسان قبل أن يكون رجلاً. تقول الشاعرة في هذه القصيدة الجميلة وهي توجه كلامها إلى الرجل الشرقي وتحدد له معنى الصداقة الحقيقية، تلك الصداقة المبنية على الاحترام المتبادل وعلى التعاون المتبادل أيضًا، تقول له ما يلي: 
«كن صديقي.
كن صديقي.
كم جميل لو بقينا أصدقاءْ»
الصداقة هنا تتجاوز مفهوم العلاقات العابرة غير المسؤولة، وتبقى في سموها الإنساني رمزًا من رموز التحضر الإنساني في أجمل وأبهى تجلياته. هكذا تأتي كلمات الشاعرة سعاد الصباح مليئة بالبوح الأنثوي الراقي الداعي لمفهوم الصداقة بين المرأة والرجل المؤسس على الجوهر الإنساني. إنها تعلن وتقول ما يلي: 
«إنّ كل امرأة تحتاج أحيانًا 
إلى كف صديقْ...
وإلى خيمة دفء 
صُنعت من كلماتْ
لا إلى عاصفة من قبلات»
إن الشاعرة هنا تؤسس لمفهوم البحث عن الصديق الوفي الذي يحترم شروط الصداقة مع النساء، ويعتبرها صداقة راقية مثلها مثل الصداقة مع الرجال، على اعتبار أن الإنسانية الحقيقية تُوحد بينهما بعيدًا عن التفكير الذي يظل منحصرًا في الرغبة في المرأة كأنثى فقط باعتبارها متعة ليس إلا، ويجعل الصداقة معها لا تتجاوز هذا المفهوم الضيق، في حين أن الصداقة هي صورة للبعد الإنساني الكوني العميق المبني على الاحترام للمرأة كإنسان كامل الإنسانية.
هكذا تتابع قولها كما يلي: 
 «كن صديقي.
 كن صديقي.
ليس في الأمر 
انتقاص للرجولة»
هكذا تدعو الشاعرة الرجل إلى خلق صورة جديدة للمرأة العربية بعيدًا عن التصورات البعيدة عن الحقيقة، وبعيدًا عن الاستيهامات الشبقية التي لا تمت إلى الواقع الإنساني الرفيع بأية صلة. إن الشاعرة هنا تدعو هذا الرجل الشرقي إلى الاهتمام بها كصديقة وإلى الانتباه إلى الأشياء البسيطة التي تسعدها لا النظر إليها من خلال شكلها الجسدي ليس إلا. إنها تقول له بشكل شاعري عميق ونبيل وهي توجه العتاب له ما يلي:
«فلماذا ياصديقي؟
لست تهتم بأشيائي الصغيرة 
ولماذا... لستَ تهتم
 بما يُرضي النّساءْ؟»
إنّ هذا التساؤل الشعري الإنساني القوي ما هو في الأصل سوى دعوة للرجل الشرقي لإعادة بناء صورة المرأة العربية في ذهنه بشكل حضاري عميق يمنح للصداقة امتدادها اللانهائي نحو آفاق لا حدود لها. وهو ما يجعل من الشعر بالإضافة إلى كونه تعبيرًا جماليًا هو يحمل بين طياته رسائل قوية للعالم أجمع. إن الشاعرة هنا ترسم صورة للمرأة العربية وهي تنال قيمتها الاجتماعية داخل المجتمع العربي وتحظى بالاحترام اللائق بها من الجميع. إن الصداقة هنا مبنية على الأخوة الإنسانية التي تجمع بين المرأة والرجل وتجعل منهما يسيران في طريق حضاري عميق. إن المرأة هنا تأخذ صورة شهرزاد وهي بدعوتها هاته تسعى لتخليص الرجل من بقايا شهريار الكامنة فيه. هكذا تتابع دعوتها الإنسانية عن طريق توجيه السؤال إلى الرجل بهذا الشكل الشعري الجميل والعميق. 
تقول الشاعرة سعاد الصباح في هذه القصيدة نفسها ما يلي: 
«إني أحتاج كالأرض 
إلى ماء الحوارْ
فلماذا لا ترى في معصمي
 إلا السوارْ؟
ولماذا فيك شيء 
من بقايا شهريارْ؟»

نظرة جديدة
في هذه القصيدة العميقة تنتفض الشاعرة العربية الكبيرة سُعاد الصباح وتطالب بنظرة جديدة من الرجل الشرقي إلى المرأة العربية، هذه المرأة العربية التي تعشق قراءة الكتب وسماع الموسيقى والولوج إلى المتاحف. المرأة العربية الجديدة التي تُحب البعد الثقافي وتساهم فيه بشكل كبير.
تقول الشاعرة مُوجهة خطابها الشعري إلى الرجل الشرقي ما يلي: 
«فاهتمامي صغيرة 
وهواياتي صغيرة»
إن طموح المرأة هنا هو طموح إنساني نبيل يتمثل في رغبتها في إيجاد صديق يحترم رغباتها الصغيرة ويفهم ما يجول في خاطرها بعيدًا عن كل الاستيهامات والأحكام الرجولية الشهريارية المسبقة. إنها تحب أن تعيش حياتها بشكل حضاري عميق وأن تستمتع بها.
«وطموحي...
هو أن أمشي ساعات...
وساعات معك 
تحت موسيقى المطر...
وطموحي...
هو أن أسمع
 في الهاتف صوتك...
عندما يسكنني الحُزنُ...
ويبكيني الضجر...» 
إن صورة المرأة في هذه القصيدة الشعرية صورة إنسانية رائعة، تجعل منها إنسانة راقية، تعيش حياتها بشكل حضاري وتسعى لبناء الثقافة صحبة الرجل جنبًا إلى جنب. وقد اشتهرت هذه القصيدة في كل ربوع العالم العربي حين صدحت بها المطربة اللبنانية الشهيرة ماجدة الرومي بشكل أدائي فني رائع، من خلال ألحان الموسيقار اللبناني عبده منذر.
هكذا تتابع الشاعرة العربية الكبيرة سعاد الصباح غوصها الشعري العميق في نفسية المرأة العربية مُستخلصة من خلال هذا الغوص كل ما يعتمل في ذهنها ومُعبرة عنه بدقة شعرية غاية في الجمالية. وهو ما يجعل منها شاعرة المرأة بامتياز. وبالإضافة إلى تقديم هذه الصورة الراقية للمرأة العربية في علاقتها بالرجل الشرقي، فإنها تُضيف إليها صورة أخرى لهذه المرأة نفسها في حالات عشقها وهيامها بمن تحب وفي حالات سعادتها وفي حالات شقائها كذلك. إن الشاعرة هنا تُقدم من خلال قصائد ديوانها الجميل «في البدء كانت الأنثى»، صورة متكاملة للمرأة العربية وهي تبحث عن ذاتها بكل حرية وبكل مسؤولية أيضًا.
لقد استطاعت الشاعرة الكبيرة سعاد الصباح أن تجد لها من خلال شعرها مكانة مرموقة في الشعر العربي الحداثي دفع بكبار الشعراء والنقاد العرب إلى الاعتراف بموهبتها الشعرية القوية، وفي مقدمتهم كل من نزار قباني وأنسي الحاج وعبدالواحد لؤلؤة وجمال الغيطاني وغيرهم كثير.
من هنا، فإن الشاعرة وهي تغوص في عالم الكتابة عن أسرار المرأة، فإنها تقدم لنا هذه الأسرار في شكل شعري حداثي يتجاوز التقليد ويبني عوالمه الشعرية بشكل جديد. إنها وهي تتحدث عن تيمة الحب، فإنها تتحدث عنه بشكل إنساني راقي. إنها تجعل منه سر الوجود وترفع من قيمته الإنسانية، فهو في نظرها ضوء شفاف من خلال تصفى نفوس الجميع وتتألق في رحاب التآخي والمودة. وهي تميز بينه وبين الرغبة التي تنقضي بانقضاء لحظاتها الزائلة. إن صورة المرأة العربية هي صورة إنسانة راقية، وهي بالتالي لا تقل عن صورة أي امرأة أوربية في رغبتها في المعرفة وفي حب الثقافة وفي الرغبة في التعرف على الحضارات الأخرى، وهي، أي المرأة العربية، أهل لكل ذلك. تقول الشاعرة في هذا الصدد ما يلي:
«عندما تسافر امرأة عربية 
إلى باريس... أو لندن... أو روما...
تأخذ على الفور شكل حمامة 
تُرفرف فوق التماثيل 
وتحسو الماء من النوافير 
وتطعم بيدها بط البحيرات».

القراءة العاشقة
من هنا، فالشاعرة وهي تقوم بتشكيل صورة المرأة العربية بهذا الشكل الإنساني الراقي، فهي ترسم لنا صورة للحضارة العربية الراقية في الآن نفسه، ذلك أن التعبير عن الحضارة يتم عن طريق صورة المرأة ذاتها، في كل حالاتها الإنسانية المتعددة. والشاعرة برسمها لهذه الصورة الراقية، فإنها ترسمها بكلمات شعرية لا تشبه باقي الكلمات العادية. إنها تمنحها سر الحياة وتحولها إلى كلمات مليئة بالألق الكلامي الفاتن الذي يجعل من المتلقي لها يذوب في سحرها ويقرأها بكل محبة وإعجاب. والشاعرة حين تكتبُ لهذا المتلقي العربي لشعرها، فإن شرطها القرائي الضروري يتمثل فيما أعلنت عنه في قصيدتها «قراءة غير تقليدية» التي تقول فيها ما يلي:
«لا تقرأني 
من اليمين إلى اليسارْ
على الطريقة العربية 
ولا من اليسار إلى اليمينْ
على الطريقة اللاتينية
ولا من فوق.. إلى تحت 
على الطريقة الصينية  
إقرأني ببساطة 
كما تقرأ الشمس أوراق العشب 
وكما يقرأ العصفور كتاب الوردةْ».
هذه هي القراءة العاشقة لقصائد هذه الشاعرة العربية الكبيرة، ذلك أن القراءة العاشقة هي ما يمنح لأشعارها ألق الوجود ويجعل من هذه الأشعار تحظى لما يليق بها من الانتشار والذيوع بحيث تنتقل من قارئ إلى آخر بدون انقطاع. فالشعر قد كُتب من أجل أن يجد له قراء عديدين في كل بقاع العالم، والشعر قد كُتب من أجل أن يبقى ومن أجل أن يحظى بالخلود ■