الإنسانية والخيال في «شغف أزرق» لأفراح مبارك الصباح

الإنسانية والخيال في «شغف أزرق» لأفراح مبارك الصباح

ثمّة رؤى ومواقف إنسانية عدة احتواها ديوان الشيخة الشاعرة أفراح مبارك الصباح الأخير، والذي ضمّنته بعنوان لافت «شغف أزرق»، وجاء كي يؤكد تجربة شعرية خاضتها الشاعرة نشرًا في الجرائد وإصدارًا في دواوين، حيث إنها انتهجت منذ البداية المبكرة أسلوبًا إنسانيًا، لم تحد عنه بل إنها كانت تؤكده وتصرّ على أن يكون عنصرًا أساسيًا في تجربتها الشعرية، وهذه المفاهيم يمكن ملاحظتها بسهولة في ديوانها الأول «عويل لصمت لم يسمع»، ثم الديوان الثاني «الصندوق»، والديوانان كلاهما، أصرّت من خلالهما الشاعرة على أن تكون روحها الإنسانية هي المحرك الأساسي لكل المشاعر التي تبثها عبر قصائدها.

 

وفي «شغف أزرق»، الصادر عن دار الفراشة للنشر والتوزيع في الكويت، أبدت الشاعرة في مجمل قصائدها الكثير من الأمور التي مصدرها الضمير الواعي، والقلب الشفاف، الذي يتفاعل مع الحياة، سواء كان هذا التفاعل فيه الفرح أو الحزن، وذلك وفق مضامين ومفردات منتقاة من الحياة بطريقة مُتقنة، فعنوان الديوان يشير إلى الـ«شغف»، الذي يعبر عن الحب الكبير، والتفاني في العشق، وهو أكبر درجات الحب، وأعظمها قدرًا، كما يعبّر عن الاستمرار في بثّ المشاعر وعدم التوقف عن التفاعل معه، بل إنه يحرص على التفاني فيه، ثم تأتي المفردة التالية من العنوان «أزرق»، وهذا اللون له مكانته البارزة في النفس حيث إنه لون البحر والسماء، كما أنه لون النقاء والصفاء، فإن كان الأبيض يعبر عن الشفافية، فإن الأزرق يحتكر في تدرجاته الحلم، والراحة والطمأنينة.

مشاعر صادقة
لذا فإننا أمام ديوان استطاعت قصائده أن تلج إلى المشاعر بتأنٍ وامتنان، وأن تأخذ المشاعر إلى حالات أشبه باللحظات التي يسعى فيها الإنسان إلى تأمل نفسه، كي يتقابل مع الأنفس الأخرى بالنقاء نفسه الذي وجده في نفسه. واستهلت الشاعرة ديوانها بقصيدة تستكمل بها ما بدأته في ديوانها الثاني «صندوق»، من خلال مشاعر صادقة توجّهت بها إلى أمّها، رحمها الله، مخلصة في كلماتها، التي جاءت من عمق مشاعر تحسّ بفداحة الفقد، وضراوته، ومن ثم فإن القصيدة عبّرت عن تلك الأحزان التي ألمّت بالشاعرة، لتقول:
لأنني ما بكيت يوم رحيلك
لأنني أعتقد أنني سأقف مرّة ثانية
لأنني فكّرت كثيرًا بهذا اليوم
لأنني كنت كصحراء صامدة أنتظر طيفك/ ديمتك
لأنني سرّحت شعرك قبل الرحيل
لأنني احتضنت كفّك
لم تكن دموعي دموعًا 
كانت عتابًا
عبارات وصور شعرية
إن النصوص الشعرية التي تضمّنها الديوان تزخر بالعبارات والصور الشعريّة التي يتبيّن فيها قدرة الشاعرة على الرصد والمحاكاة لما تحتويه مشاعرها من حزن وفقد وألم، وفي بعض الأحيان الفرح، الذي يأتي مغلفًا بالشجن.
تقول الشاعرة في نص «أنّة .. تعب»:
أطلّ عبر النافذة 
أصغي إلى همسات الشجر
بلون العشب بعد المطر
كانت رائحته..
كان النور الذي يملأ روحي بذور عشق وهيام
نسيم يروي حكايات مرّت...
من هنا...
من ذاك الغدير الباقي بُخاره بالأفق...
من افترش صدري وأضاء خوائي بجداول من فلّ وياسمين؟
من بعثر سكوني بخناجر الوله والتوق؟

معانٍ كبيرة
وتسير الشاعرة وفق مسالك شعورية تتباين فيها الأشكال والصور، وذلك في رصد شعري متواصل مع النفس التواقة إلى الطمأنينة والحلم، وبكل ما تحمله الجوارح من معانٍ كبيرة للحب والشوق لنجدها تقول في «شغف أزرق»:
يؤرجحك ذلك الحنين
ما بين غرابة غرام وإباء مزعوم
رسائل في الهواء لا تصل
لا تصل
الحنين يعقد صفقة مع نفسه
يتجدد كلما مرّت بي ذكرى مشؤومة
لا مفرّ من البتر
المنافي والأغاني أوطانٌ تَتصدّع!
خيطٌ من شوقٍ
 أُوصِله إلى البدر
 في ليلةٍ غاص بعُتمتِها عتاب
ظلُّ يسبق الكلمة
 بحارٌ لازوردية
 أنا... عندما أسكُن عينيك

نبضات ورسائل
وكلما توغّلنا في نصوص الديوان سنجد أننا قد تلمّسنا عمق الحقيقة، وعرفنا ما يجول في المشاعر من نبضات ورسائل تبدو في سياقها قريبة من روح الواقع، وفي الوقت نفسه متعلقة بأهداب الخيال، لنقرأ ما يتضمنه نص «جنون عاقل»:
لا أتنفس من هذياني
لا من انقطاع أنفاسي
لا من خضوع كبريائي
انحناء رقبتي تمنّعًا
وتصويب إبهامي لوجهك رافضًا
كلٌ أتى في غير موعده
كلٌ أتى متأخرًا
يحمل قلبه العطب بيده
ويناوله لشراهتي هدية
إن اللغة الشعرية التي تستخدمها الشاعرة الشيخة أفراح مبارك الصباح، تندرج ضمن ما يطلق عليه السهل الممتنع، حيث إنها تأتي بلغة بسيطة ومفردات سهلة وليست عصية على فهم القراء، ولكنها في الوقت نفسه متقنة وذات تأثير كبير على النفس الإنسانية القريبة من الواقع، وحتى تلك المحلقة في فضاءات الخيال، لنجدها تقول في نص «خريف كسروان»:
في محاذاة لون حائر
ولعبة طفل مشطور الرأس
طيفك الذي يحبو
غيمة من تجلّ ونقاء
أو
شرفة تلعب لعبة الإغواء
هطل المطر
رويدًا رويدًا
وتبعه الدم
زخاتٌ زخات
حتى تناثرت زنابق الشرفة
حلّ الخريف
بعريٍ مشهود
تتحلّله الأشجار من أثقالها

«في حضرة المتاهة العمياء»
إن ما يميز ديوان «شغف أزرق»، ذلك الإحساس الذي تتبناه نصوصه، تلك التي يتبدى فيها الإنسان كاشفًا عن أحزانه وشجونه، متطلعًا إلى الحياة بكل ما فيها من حلم وأمل وتمنّي، ورغم هذا الكشف إلا أن الاستسلام لتلك المشاعر المؤلمة لم يكن واردًا، حيث إنه كشف ينمّ عن الكبرياء والصبر والتمرّد، والعناد في بعض الأحيان، إلا أنه لم يكن فيه الرضوخ والقبول بالأمر الواقع، وقد بدا ذلك جليًا في نص «في حضرة المتاهة العمياء»، والتي تعدّ من القصائد العميقة فكرًا ومضمونًا، تلك التي تتسامى فيها الرؤية الفلسفية، من خلال مفرداتها التي أحسنت الشاعرة في اختيارها لتتناسب مع المسارات الحياتية التي تحاول الشاعرة سبر أغوارها للوقوف عند حقيقتها لتقول:
هي التي...
احتار السؤال في إجابته..
هي التي..
اقترن الشك باسمها...!
واختلج الخاطر بنعاس قسوتها
تاهت الفكرة بقتام أعمى...
والظل ظلّ يبحث عن جسد فارغ...
في حضرة المتاهة العمياء...
 الكلٌ ينتظر دوي السقوط
إنها عشرون قصيدة... تضمنها ديوان «شغف أزرق»، للشيخة الشاعرة أفراح مبارك الصباح، عبّرت عن مكنون النفس، واستطاعت أن تخترق شغاف القلب بسبب ما تحمله من مفردات رقيقة، وصور بلاغية تتوه بالفكر في فضاءات الخيال، ولقد أضافت لوحات الفنانة ديمة الغنيم التي رافقت النصوص الشعرية، الكثير من البعد الجمالي للمعاني ■