الأساطير بصمات الشعوب

الأساطير بصمات الشعوب

كانت الأسطورة ولاتزال رافدًا يثري منابع الإبداع لدى الأدباء والشعراء والفنانين، لأنها غنية برموز متغيرة الدلالات، وهي مناسِبة لنقل أفكار مختلفة دون الإفصاح عنها مباشرة، وهذا ما يجعلها تتفوق عن باقي أنماط الإنتاج البشري في نطاق التراث، بمرونتها وعالميتها وتطويعها للزمان والمكان، مما يتيح لها ديمومة التجدد والتناغم على الرغم مما تعاقب على نشوئها الأول من تعدد الأزمان. والأسطورة بوصفها معطـًى إنسانيًّا وعصارة فكرية تأملية، ولها جذور عميقة في عمق التاريخ، وترتبط ارتباطًا موضوعيًّا بالمحيط الذي ولدت فيه ونشأت، ورغم غلبة نسج الخيال عليها، إلا أنها تكشف عند دراستها عن البنيات ذات الدلالات النابعة من الواقع، فهي ليست في أصلها قصة وهمية كما يسود الاعتقاد بذلك. ومهما كان موضوعها غريبًا ومضمونها عجيبًا، فلابد أن تكون معبرة عن مسألة فكرية، أو ظاهرة كونية أو طبيعية أو اجتماعية أو عقائدية، ولابد كذلك أن تكون لها خلفيات موضوعية، وهي في كل الأحوال ذات وظائف تخدم المجتمع الذي نشأت فيه وانتشرت. 

 

لقد ساعدت الأساطير كثيرًا من الأمم على تخليد أسمائها على صفحات الحضارة الإنسانية، فالشعوب القديمة كاليونان مثلًا، قد أوصلت رصيدًا من أساطيرها إلى شتى أقطار الدنيا، وترجمت إلى العديد من اللغات، وأغنت الآداب العالمية، وعند دراسة حياة الأمم وتاريخها وفكرها، لابد أن نمر على أساطيرها، لأنها تعد ميزة معتبَرة لعقلياتها. فعلى غرار التاريخ، كانت الأسطورة تعبر عن وقائع محددة، بل إن هناك من يرى أن الأسطورة هي التاريخ نفسه في صورة متنكرة.
 ولكن على الرغم من ارتباطها بالتاريخ، فلا يمكننا الاعتماد عليها في تقييم الأحداث ودراستها، فالأسطورة لا تقدم لنا الحقائق بشكل مباشر، لأنها نوع من الإبداع، وكل إبداع من هذا القبيل لا يفترض فيه أن يكون خاضعًا لسلطان العقل. لذلك لا يمكننا الاطمئنان إلى الأسطورة بوصفها مرجعًا موثوقًا، ولكن يمكن استجلاء مؤشرات الحقائق عن طريق التحليل والقراءة، وهذه القراءة غير ثابتة، بل تمتاز بخاصية التغير التي يتسم بها الإبداع، نظرًا لاعتمادها على عناصره. 

الميلاد والنشأة 
تتنوع الأساطير حسب الأسباب والعلل التي أدت إلى ظهورها، كما تنوعت حولها الآراء واختلفت وتباينت، وظهرت نظريات متعددة تنتمي إلى مدارس أنثروبولوجية مختلفة. وهذا الاختلاف حول أسباب نشوء الأسطورة، يصاحبه اختلاف حول تعريفها، وإن كان الباحثون يكادون أن يتفقوا على مفهومها واصطلاحها. فهي في عدد من اللغات الأجنبية تعني كلمات Myth  أو Mythe أو Mithos نوعًا من القصَص له سماته ومميزاته التي تكتسي طابع الغرابة، ويختلف عن أنواع أخرى من القصَص. 
وفي كل أحوالها وأنواعها فإن الأسطورة تعد جزءًا مهمًّا من تراث الشعوب، هذا التراث هو ذلك القوام الحضاري وتلك الخلاصة الصافية لتجربة الإنسان ولفعله في الزمان والمكان. والأسطورة ليست هي أصل التقاليد والشعائر، بل العكس هو الصحيح. وفي غياب أبحاث تروم دراسة الأسطورة بصفة شمولية، فستبقى إشكالية نشوئها مثيرة للنقاش الذي قد تغذيه التيارات الأيديولوجية والفكرية والعقائدية. 

الأسطورة الكونية
لقد شغلت الظواهر الكونية الإنسان القديم، فعبر عن ذلك في حكايات تجسد موقفه من الكون ورؤيته لظواهره، وجوابًا على تساؤلاته الوجودية، على الرغم من أن بعض الباحثين أنكر أن الإنسان القديم قد شغل نفسه بقضايا الكون ومشاكله، وكيف خُلِق ومن أين أتى؟ إلا أن ذلك الإنسان، على الرغم من بدائيته، يتأمل محيطه، مما جعله يبحث عن الأسباب التي أوجدت هذه الظاهرة أو تلك. فأخذ يتساءل عن مصدر الأرض والسماء والنجوم والشمس والقمر، ولما لم يسعفه عقله في التوصل إلى جواب مقنع عن تساؤلاته الميتافيزيقية، لجأ إلى التفسير الأسطوري لخلق الكون، ونتيجة لذلك نشأت الأسطورة الكونية التي تكشف لنا عن بعض سمات تفكير الإنسان في مراحل تطوره الأولى، وتجعلنا نكوِّن بعض الانطباعات عن بدايات تشكل نواة التفكير الفلسفي. وهذا في حدّ ذاته دليل على أن الأسطورة لابد أن تحمل لنا شيئًا عن المكان والزمان اللَّذيْن ألفت فيهما، ولو أن الأمر في غالب الأحيان يكون على شكل انطباع غامض عن زمان ومكان معيّنين. 

الأسطورة التعليلية
لجأ الإنسان إلى التعليل الأسطوري لتبرير وجود ظواهر معينة لا يجد لها تفسيرًا مقنعًا، وكلما لفتت نظره ظاهرة محيرة، ألف حولها قصة أسطورية. ونجد هذه الأساطير التعليلية التي تفسر الظواهر الطبيعية في بعض البلدان العربية، وكمثال على ذلك، الاعتقاد بأن ملاكًا يضرب بجناحيه فيحدث الرعد، ويرمش بعينيه فيحدث البرق. والشيء نفسه نجده عند الإغريق وكذلك عند الشعوب الإسكندنافية القديمة حيث ساد الاعتقاد بأن «الإله ثور» هو الذي يتسبب في ظاهرة الرعد والبرق عندما يضرب أعداءه على الأرض بمطرقته. ونستطيع أن نؤكد أن الأسطورة التعليلية مازالت حاضرة في عدد من بلدان العالم، ومازالت تتوالد وتنتشر بسبب الأمية والجهل، وبخاصة في ما يتعلق بالأمراض والأوبئة، والظواهر الطبيعية كالزلازل والفيضانات، والكسوف والخسوف وغيرها من الظواهر التي كشف العلم أسرارها.

الأسطورة الحضارية
إن الظروف التي استجدت في حياة الإنسان القديم دفعته إلى الخروج من بدائيته، ليجد نفسه أمام متطلبات حياة جديدة. هذا الانتقال الحتمي لابد أن يؤثر على العطاءات الفكرية والإبداعية للشعوب، وقد كانت الأسطورة من بين المجالات التي تجلّت فيها تلك التأثيرات. فبعدما كان الإنسان يتساءل عن ماهية الكون، تحول إلى التفكير في نفسه وماهيته، وتوصل إلى أنه يتميز عن الحيوان ويسمو عليه، وأنه قادر على صنع حياته بحيث ينتقل من المرحلة الطبيعية التي تسم حياة الحيوان إلى المرحلة الحضارية التي يصنعها الإنسان بنفسه. فاستطاع أولًا أن يضع بعض الأدوات البسيطة كالرمح والقوس ويتخذها وسيلة للصيد. وكان أكبر اكتشاف بلور حياته وطورها هو اكتشاف النار التي استخدمها في طهي طعامه.
كل هذه العوامل والظروف الجديدة لابد أن تُسَجَّل في الذاكرة الجماعية في العصور القديمة، ولكي تبقى راسخة، لابد من تقييدها على شكل روايات وقائعها وأحداثها. ولما كان الإنسان في ذلك الوقت لم يبلغ درجة تخوّل له التحليل العقلي والمنطقي للأشياء، فإنه لجأ إلى التفسير الأسطوري، فظهرت الأسطورة الحضارية كنتيجة حتمية لتطور حياة الإنسان وفكره.  

 الأسطورة الرمزية 
تطور التفكير الإنساني وظهر الإبداع الفني وتضافرت كثير من الظروف والعوامل، لتجعل التعبير بلغة مباشرة أمرًا غير مستساغٍ إما لظروف سياسية أو اجتماعية أو دينية، أو لضرورة من ضرورات الفنّ نفسه. لذلك أصبح الإنسان يعبّر عن نفسه وحياته اليومية ومشاغله الفكرية والعقائدية تعبيرًا غير مباشر، فظهر الرمز مقترنًا بنوع آخر من الأساطير، أطلق عليه علماء الأنثروبولوجيا مصطلح الأسطورة الرمزية. 
وإذا كانت الأسطورة الحضارية تعبّر عن نضج نوعيّ للإنسان، وتنمّ عن إرهاصات ببدء التفكير المنظّم والعلاقات المضبوطة والمنضبطة بين الأفراد والمجتمعات، فإن الأسطورة الرمزية تعد تعميقًا للحضارة، وتدلّ على أن الإنسان قد تقدّم ودخل مرحلة الإنتاج الفكري والخلق الإبداعي.

بصمات راسخة
إذا أمعنا النظر في ما نستطيع الإلمام به من تراث الإنسانية، فسوف نجد أنه لا يكاد يخلو من بصمات الأسطورة. ويمكن أن نقول إن التكنولوجيا الحديثة لم تنجُ هي أيضًا من خلفيات التفكير الأسطوري في عقلية الإنسان ولو بشكل رمزي، مثل تسمية المشاريع الفضائية بأسماء تحيل على الأساطير مثل أبولو وديانا وأوديسا وهرقل وغيرها وقل ذلك في أسماء السيارات ومختلف الآلات الحديثة. بل نستطيع الذهاب إلى أن جلّ العلوم الحديثة قد مرّت في قناة التفكير الأسطوري، فقد كانت أغلب الظواهر الطبيعية تفسّر تفسيرًا أسطوريًا قبل أن تتخذ شكل التخصّص العلمي الذي يدرس تلك الظواهر انطلاقًا من النظرة العلمية التجريبية. 
وإذا كانت الأسطورة نتاجًا إنسانيًا نشأت وظهرت وأدت أدوارها ووظائفها في مراحل سابقة، فإنها الآن قد استنفدت مبررات وجودها وانحصر توظيفها في ميادين الآداب والفنون. وقد ساهم في ذلك توصل الإنسان إلى وجود الله عن طريق الأنبياء والرسل والكتب السماوية، كما أن تقدم العقل البشري والتطور العلمي لا ينظر إلى الأسطورة إلا كمساعد تراثي قد يسعفنا في معرفة ملامح مختلفة لحياة أمم سادت ثم بادت  ■