الكتابـة وفعلـها فـي ثلاثيـة عصمـت حسّـان «نهر الحبر» و«عكاز النّوايا» و«شمس البيوت»

الكتابـة وفعلـها  فـي ثلاثيـة عصمـت حسّـان «نهر الحبر» و«عكاز النّوايا» و«شمس البيوت»

«نهر الحبر» و«عكاز النّوايا» و«شمس البيوت» ثلاثيّة شعريّة للشّاعر اللّبنانيّ عصمت حسّان صدرت في العام 2023 عن منتدى شواطئ الأدب، تحملنا معها للولوج في عالم الشّاعر، متسائلين عن هذا الفيض الواسع بشعره، فاللّغة تنساب وتترقرق لديه، ولا تعجز الكلمة أمامه، بل هي طيّعة بين يراعه تراوده فيستجيب لها، ليتمخض النّصّ من رحم دلالات لغويّة بديعيّة، واتّحاد بين التّعبير والمضمون في إطار البيئة التّجريبيّة للشّاعر.

 

والإبحار في غمار هذه الدّواوين يرسو أوّلًا على العتبات النّصيّة لهذه الدّواوين، فيلفت اختيار العناوين التي تتكوّن من كلمتين، تعتمد المضاف والمضاف إليه، وبات مثبتًا أنّ العتبات النّصيّة تترك أثرًا في المتلقي، فهي بوابة العبور التي يمكننا أن نفتح عقولنا، ونمهد إحساسنا لما سيرد في المدونة الشّعريّة.

«نهر الحبر» فيه تعبير عن عظمة الكتابة، وتدفق التّعابير، فأضاف الحبر إلى هذا النّهر، ولم يقف هذا الانسياب مع العنوان، إنّما ترد العتبة النّصيّة الأخرى وهي الإهداء، لتعبّر عن هذا الدّفق الكتابيّ، ويرى أنّنا جميعنا نقف على ضفة النّهر لنحمل أنينَنا عبر ثقوب النّاي للرّيح.

أمّا ديوان «عكاز النّوايا» فيبحث فيه عصمت حسّان على ما يسنده ويتوكأ عليه، ولم يعد يكتفي بالبوح بل إنّ النّوايا تتعكّز على الظّل كما جاء في الإهداء.

وفي ديوان «شمس البيوت» دلالة على هذا النّور السّاطع الذي ينير البيت، وتحمل كلمة بيوت دلالة مهمة، يكشفها لنا الإهداء الذي يوجّهه إلى شقيقه الرّاحل مهاب، ويرى أنّ البيوت مضاءة بالمحبة، ويعتمد مفارقة شاعريّة بين غياب شقيقه وحضوره، وفي ذلك يترك للمتلقي مساحةً واسعةً ليتخيّل تأثيرَ المُهدَى إليه في هذا الدّيوان.

ومن خلال عناوين هذه الأعمال الشّعريّة نرى أنّها تمثّل النّصوص الموازية، فالعنوان مفتاح أساسيّ يتسلّح به المحلّل للولوج إلى أغوار النّص العميقة قصد استنطاقها وتأويلها. ومن المهم أن يكون فيه إيحاءٌ وإيجاز وقصد. 

واستنطاقُها يقودنا إلى اكتشاف أنّها مزيج لفنونٍ وآداب وتجارب مرّ بها الشّاعر، واختزلها في عقله الباطن مكونةً له نبراسًا وضوءًا، تنير له المعاني كلما أراد أن ينسج منها نصًا فنيًّا مميزًا. فالكلمات تتبع الصّورة الشّعريّة وهي في الوقت نفسه داخلةٌ في اللّغة.

والأدب يتعامل بالكلمة، فهي أكثر الوسائط الفنيّة قدرةً على تصوير واقع الإنسان وتشخيصه، والقارئ لدواوين عصمت حسّان يكتشف تأثير الكلمة وكتابتها، فيقول الشّاعر في قصيدة عكاز النّوايا التي وسم الدّيوان بها:

قم إذًا فالحرف

عكاز النوايا

واجترح عشقًا ولا تنس الصّهيلا 

يتحوّل الحرف لديه إلى السّند الذي تتكئ عليه النّوايا، ومن خلالها يجترح العشق، فيكون قادرًا على امتشاق القلب، ويغدو الدّليل. لا يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل نراه في قصيدة شمعة من الدّيوان نفسه، يجعلُ المبدعَ هو الخير الذي نجني منه السّنابل:

متوقّد الأفكار يمشي

بيننا

تثري السّنابل والجنى كفاه 

يؤكّد عصمت حسّان على هذا الفعل الذي يتركه الشّاعر، فهو صاحب الكلمة الطّيبة:

هو أطيبُ الشعراء 

لو جفّ الثّرى 

لسقى الوجود بما هَمَتْ عيناه 

بل إنّه هو الأكثر طيبةً وعطاء، فعند الفقد والتّصحّر نجد الشّاعر هو من يقدّم التّرياق والطّيب، ومن عينيه يسقي الوجود، وفي ذلك تعبير عن تأثير فعل الكتابة التي يقوم بها الشّاعر.

إنّ مبدع الكلمة هو الذي يضيء الطّريق، ولا يقتصر الأمر عند ذلك، بل يربط عصمت حسّان بين الكلمة وحقيقة الوجود، فيقول في ديوان نهر الحبر:

أنا لست من طين

ولا أَصلي 

كما زعموا تراب...

أنا منشأي حبرٌ

وأوراق

ومنبتي الكتابة والكتابْ  

إذا العلاقة طرديّة بين أصل وجود الكاتب وإبداعه، فأصل الشّاعر الكتابة والكتاب، فكلّما زاد من إبداعه، يدلّ هذا على أصله ومنبته، بل إنّ هذا الشّعر يمنح صاحبه العقل والفراسة، فلا بدّ أن يكون هو المعادل الطّبيعيّ للوجود، فيقول في قصيدة من ديوان شمس البيوت:

الشّعر أعطاك الفراسة

والنّهى

فاجعله يعدلُ في الوجود وجودك  

وهذا الأصل يؤكد ثبات عصمت حسّان على إحساسه بقيمة ما يقول، وأنّ حروفه هي الرّاسخة والباقيّة على الرّغم من الصّمت المحيط: 

أنا قدميّ فوق الرّمل 

خطواتي مبعثرةٌ

وصوتي رغم كل الصّمت

يبقى الصّارخ العالي  

هذا الصّوت الصّارخ هو في وجه كل ظالم، وفي وجه الفساد والحكّام، ويظهر جليًّا أنّ الكلمة الصّادحة هي الصّامدة:

والصّدى صوتي

إذا علّيتُ رمح الصّوت

كي يرتاح حقلي 

 ويكرّر ذلك في موضع آخر من ديوان نهر الحبّ:

فقومي يا حروف الضّوء

شِعّي

وعلّي الصّوت كي يعلو المنادي 

هي دعوة من عصمت حسّان إلى التّمسّك بالحرف، فهو جوهر الكلمة التي يجب أن تصل إلى كلّ محفل، وعبره يمكن للمنادي أن يعبّر عن مكنوناته، وفي ديوان شمس البيوت يؤكّد الشّاعر قيمة الحرف: 

وحرفي مثلما القنديل 

توّاق 

إلى الألق  

وأدّى التّشبيه الذي استخدمه الشّاعر دوره في تمثيل المعنى المراد، فعكس صورة الحرف الذي ينير العقول والنّفوس كما القنديل الذي ينير المكان، والتّركيز هنا على وجه الشّبه، أي الفعل الذي يؤدّيه الحرف.

وعلى الرّغم من هذا الموقف الإيجابي من الكلمة، فإنّنا نراه في موقف آخر يتساءل عن قيمة ما يكتبه الشّعراء، ويبدي استنكاره لقلّة من يقرأ، فالكلمة مع ما لها من قيمة، لم تعد تجد المتلقي السّامع، وكأنّ الشّك بدأ يتسرّب إلى قلبه فيقول في قصيدة «الحالمون» من ديوان عكّاز النّوايا:

لمن تكتبون

 لمن تكتبون؟...

 وتنزف حبرا ولا يقرأون 

ونحفر في الظل دربا

 وشمسًا 

ولا ينظرون ولا يفهمون 

هي نظرة تشاؤميّة تعبّر عن ألم الشّاعر الذي يرى بأنّ كلماته تضيع هباء، وأحسن الشّاعر باستخدام لفظة (تنزف)، فالكلمة عندما تصدر هي نتيجة معاناة ونحيب وألم لهذا تتحوّل إلى سيلان للحبر، ومن هنا تكرّر استفهامه عن الكتابة، فمن حوله لا يُقدّر هذا التّعب، لكن لأنّ عصمت حسّان مؤمن بتأثير الكلمة كما رأينا في الأبيات السّابقة، لهذا يختم قصيدته بموقف مضاد لما بدأ به فيقول:

أظنّ بأنّا سنكتب فجرا

 لغير زمان 

وغير مكان 

هكذا يتّضح الانتقال من المشاعر السّلبيّة السّوداويّة إلى المشاعر الإيجابيّة، أي من اللّاجدوى إلى جدوى الكتابة، وإن كان لزمان غير زماننا، ولمكان غير مكاننا، وفي ذلك يؤكّد الشّاعر في قصيدة اليقين من ديوان «نهر الحبر» تأثير الكلمة في النّفوس:

فعل الكتابة فينا

بدءُ خطوتنا

والحرف فينا يقينُ العمرِ والشّرفُ 

ونسأل هنا كيف تجسّد دور الكلمة عند الشّاعر، وهل استطاع التّعبير عن قضايا عديدة، وهل جعله صراخًا كما قال؟ إنّ قصائد الشّاعر تبرز لنا ذلك، فهو الصّارخ المدافع عن قضايا وطنه وأمتّه، فيقول في قصيد «الجرح الرّاعف» من ديوان شمس البيوت:

حبري هنا جرحٌ كبيرٌ

راعفٌ

وهناك حرفي زانه استبسال

وعلى فلسطين النبيّة

صرختي

لا بد يومًا يسقط الدّجال  

نرى الشّاعر يجعل من حبره مدادًا ينقل فيه نضال فلسطين التي يسمها بالقداسة، واللّافت هنا أنّ الشّاعر استخدم الجزء/الحبر ليعبر عن الكلّ/القلم الذي يكتب به الحرف، وأرفقه بكلمة راعف، فباتت الكلمة لديه كالرّمح الرّاعف الذي يقطر دمًا، لكنّ حرفه هنا يقطر دعوة واضحة تنادي بانتهاء الدّجال/ الظّالم المغتصب أرض فلسطين. 

وحروفه تكرّم اللّغة التي يكتب بها، ويراها لغة البلاغة والحكمة والجمال، بل إنّها نهج يمكن السّير على منوالها، لهذا استحقّت أن تكون أمّ اللّغات، فيقول في قصيدة بعنوان «أمّ اللّغات» من ديوان نهر الحبر:

أمّ اللّغات 

شراييني أنا لغة 

قوم اقرأيني 

فأنت العيد يبتسم 

ولأنّه يمجّد هذه اللّغة فإنّه في قصيدته «اللّهاث» من ديوان «عكّاز النّوايا» يوجّه نقدًا إلى الذين ضلّوا في الشّعر، وحسبوه منبرًا للظّهور والتّباهي: 

يعشقون الضّوء

لا مصباح فيهم 

يقنصون المجد، والمجد انبعاث

يلهثون العمر

 خلف الصّوت لكن 

صوتهم وهم، وأرواح خِناث 

إنّها صرخةُ شاعرٍ في وجه هذا الزّيف الجديد الذي حلّ بمحفل الشّعر، فلم يعد يجد فيهم شاعرًا فذًّا، بل إنّهم سبب هروب النّاس من الشّعر، ولم تكن صرخة الشّاعر إلّا حرصًا على هذا الشّعر وعلى قيمة الكلمة فيه، خصوصًا بعد أن وجد أنّ اللّاهثين كثرٌ يركضون وراء البريق والضّوء المزيّف، لهذا يعلن في ختام القصيدة: 

فاعذروا حبري

إذا ما صار سوطا

 قيمةُ الأزهارِ ما أوصى الحِراثُ 

إنّ حبره/ قلمه سيكون في مواجهة كلّ مدعٍ باحث عن زيف القصيدة، عن كل ناشدٍ للمنبر لا للكلمة الصّادقة، عن كل دخيلٍ على هذا الإبداع الجميل، فهو لن يقبل الصّورة الهزيلة. والشّاعر بذلك يرى أنّ العلاقة بين المبدع والكلمة/ الشّعر هي علاقة محبة:

أنا والشّعر 

قصتنا غرام 

عناق سرمديّ وانتساب 

لهذا حافظ الشّاعر في دواوينه الثّلاثة على نهج واحد، فظلّ للكتابة وهجها وبريقها، وآمن بأن للكلمة تأثيرها الفعّال في النّفوس والأمم، ولأجل ذلك سعى البعض إلى أن يتسلّقوا هذه الموجة مدّعين إبداع الكلمة، ولأنّ للكلمة تأثيرها وأهميتها فلا بد من أن تكون صادقة قادرة على تصوير قضايا المجتمع والأمة. فإذا وُسم أحد الدّواوين بـ «نهر الحبر»، فقد كان هذا الحبر المعبّر عن الكلمة شغل الشّاغل للشّاعر في دواوينه كلّها، ففاضت لغته مشيرة إلى تأثيرها ودورها في المتلقي وفي الشّاعر نفسه. 

في الختام يمكن القول إنّ الشّاعر عصمت حسّان رأى في الكلمة والكتابة الشّعر حاجة ملحّة تسيطر على الإنسان وتحفّزه ليكتب شعرًا أو سردًا أو أيَّ نوع كان، وبرأي شاعرنا فإنّنا بكتابة الشّعر نبزر كمال إنسانيّتنا مكثّفًا باللّغة والخيال، ونترك في المتلقي إحساس المتعة والجمال، بل إنّ الكتابة تقدّم لنا رؤية للعالم، ويرى بأنّ كتابة الشّعر طريقة عيش وتعبير عن الذات ■