سان مارينو ومتاهة الأساطير
واحدة من أقدم الجمهوريات في العالم وأصغرها، منطقة جبلية تحيط بها إيطاليا من كل الجوانب. ربما لم يسمع عنها الكثيرون، أو حتى أولئك الذين سمعوا عنها عادةً ما يتجاوزونها عند الذهاب إلى إيطاليا لأماكن أكثر شهرة كميلان وفلورنسا والبندقية. وكنا سنفعل الشيء ذاته، لكن قررنا منح سان مارينو الفرصة هذه المرة.
هذه الجمهورية الصغيرة معروفة ببلداتها القديمة المسورة وشوارعها المتعرجة الضيقة المرصوفة بالحجارة، ومتاجرها الصغيرة، وقلاعها الثلاث التاريخية، التي تعود إلى القرن الحادي عشر، وتم إدراجها في عام 2008 ضمن قائمة التراث العالمي.
أسهل الطرق لدخول سان مارينو هو عبر مدينة ريميني الإيطالية التي يوجد بها مطار صغير وسيارات الأجرة وحافلات نقل من وإلى سان مارينو. لكننا وصلنا إليها عن طريق مدينة فلورنسا. استغرقت الرحلة فقط ساعتين بالسيارة. ليست هناك حدود بين البلدين، ولم نضطر إلى إظهار جوازات السفر أو حتى هوياتنا. فالدخول مجاني وليس هناك أي رسوم، وعلى الرغم من أنها ليست جزءًا من الاتحاد الأوربي ومنطقة شنغن، إلا أنه قيل لنا لن يستوقفنا أحد طالما كنا في إيطاليا بشكل قانوني. العملة المستخدمة هي اليورو، لذا التنقل كان مريحًا جدًا كأننا في إيطاليا.
أرض الحرية
بمجرد مرورنا أمام المدخل الرئيسي لسان مارينو ظهرت عبارة «مرحبًا بكم في أرض الحرية القديمة»، ثم ظهر لنا المركز التاريخي من بعيد على قمة جبل تيتانو، محاطًا بأسوار قديمة. يوجد على طول الطريق العديد من مواقف السيارات المدفوعة وغير المدفوعة، حيث من الأفضل ترك السيارة هنا، نظرًا لأن المركز التاريخي بالكامل مخصص للمشاة، وبالإمكان ركوب تلفريك سان مارينو الذي يؤدي مباشرة إلى وسط العاصمة من هذه المواقف.
كان أمامنا خياران لاختصار الطريق والوصول إلى القمة، إما عن طريق التلفريك أو ركوب القطار الأزرق الصغير، الذي يمر عبر الأنفاق والمعارض التاريخية، ويصل إلى المركز التاريخي، لبدء رحلة مليئة بالمرح واستكشاف أساطير العصور الوسطى، والأبراج، والمتاحف وحدائق الأشجار. فضلنا ركوب التلفريك لرؤية المدينة من الأعلى.
عند وصولنا إلى الأعلى كانت أمامنا ساحة كبيرة بها نصب تذكاري لبارتولوميو بورغيسي، توفر إطلالة بانورامية رائعة استطعنا من خلالها رؤية البحر الأدرياتيكي، والاستمتاع بالمناظر الطبيعية بأكملها، بفضل المنظار الذي يعمل بقطع النقود المعدنية.
على بعد مسافة قصيرة من التلفريك يوجد مكان تاريخي قديم «Crossbowmen's Quarry» كان يستخدم في أواخر القرن التاسع عشر كمقلع لاستخراج الحجر اللازم لترميم القصور والمباني.
وتقام الآن فيه مسابقات الرماية بالقوس، وهي رياضة تمثل تقليدًا تراثيًا في سان مارينو منذ قرون. يستضيف هذا المكان أيضًا كل عام مهرجان Palio dei Balestrieri، الذي يقام في الثالث من سبتمبر، خلال العيد الوطني لسان مارينو. هناك أيضا بطولة القلاع التي تقام سنويًا وهي عبارة عن مسابقة تحدي بين أفضل خمسة رماة من كل قلعة من قلاع الجمهورية.
جبل تيتانو
على قمم جبل تيتانو تقع عاصمة سان مارينو التي تحمل نفس الاسم. وعلى الرغم من أن الجمهورية تغطي مساحة جغرافية قدرها 61 كيلومترًا مربعًا فقط إلا أن أراضيها تزخر بمجموعة متنوعة من البيئات، مثل المرتفعات الصخرية والوديان والمراعي الخضراء والجداول والغابات الصغيرة والنباتات والحيوانات المحلية.
الموارد الرئيسية للبلاد هي الصناعة والتجارة والزراعة والحرف اليدوية. وتهيمن السياحة على اقتصاد الدولة الصغيرة التي تستضيف أكثر من ثلاثة ملايين زائر كل عام. وتشكل الطوابع البريدية والعملات المعدنية التي يبحث عنها هواة جمع العملات مصدرًا ثابتًا للإيرادات ومهمة للدخل. وتعد المصنوعات الخزفية والحديد المطاوع، بالإضافة إلى الأثاث الحديث والتقليدي، من بين المنتجات الحرفية التقليدية في سان مارينو، بالإضافة إلى الصناعات الإلكترونية والطلاء ومستحضرات التجميل والملابس.
الشيء المدهش والمثير للاستغراب أن هناك رئيسين للجمهورية يتم انتخابهما من برلمان الحكومة لمدة ستة أشهر فقط. ويعملان كرؤساء دول وحكومات لتلك الفترة. هذه العادة مستمدة من عادات الجمهوريات الرومانية بوجود رئيسين للدولة، مثل القناصل الرومان. وينص دستور سان مارينو، الذي نشأ عام 1600، على تشكيل برلماني للحكومة. يتألف المجلس الأعلى العام (البرلمان) من 60 عضوًا، يتم انتخابهم كل خمس سنوات من قبل جميع المواطنين البالغين، وله صلاحيات تشريعية وإدارية. ويتم انتخاب كونغرس الدولة المكون من 10 أعضاء من قبل المجلس الأعلى العام ويمارس السلطة التنفيذية، ويتولى كل عضو وزارة محددة.
أبراج سان مارينو الثلاثة
الأبراج الثلاثة هي الصورة الأولى لجمهورية سان مارينو التي تظهر للزائرين على الطريق المؤدي إلى جبل تيتانو، وهي تمثل رمز هذه الجمهورية القديمة. يمكن زيارة البرج الأول (Guaita) والثاني (Cesta)، بينما البرج الثالث (Montale) ليس مفتوحًا للجمهور. وهناك ممر يطلق عليه «ممر السحرة» وهو الطريق الذي يربط بين الأبراج الثلاثة. وبمجرد المشي خلاله، ستستمتع بالمناظر القريبة وينقلك على الفور إلى أجواء القرون الوسطى الساحرة.
بدأنا الجولة من البرج الأول الذي يُسمى جواتيا الذي يعود تاريخه إلى عام 1000. تكلفة تذكرة الدخول لهذا المكان هي 8 يورو. يبدو واضحًا أن المكان تم ترميمه فهو يبدو بحالة ممتازة. في داخل البرج السجون القديمة، وقريب منه برج الجرس وبرج بينا وبئر وكنيسة القديس يوحنا باربرا. عند الصعود إلى أعلى نقطة في البرج، يمكنك الاستمتاع بمشاهدة المنطقة المحيطة بأكملها، بما فيها الساحل.
واصلنا السير حتى وصلنا إلى البرج الثاني، وعند المدخل هناك كانت عبارة «احترس من ممر الساحرات». كان يستخدم هذا البرج الثاني «سيستا» حتى القرن السابع عشر كبرج مراقبة وهو محصن، ويوجد بداخله متحف الأسلحة القديمة، الذي تم افتتاحه عام 1956، مقسم إلى 4 غرف داخل البرج، ويضم أكثر من 1000 عينة من الأسلحة التاريخية، بدءًا من الشفرات إلى الأسلحة النارية، وتمت إضافة بعض الأشياء الغريبة، مثل المسدس الخنجر الذي يعود تاريخه إلى عام 1730، والسيوف ذات اليدين، والبنادق ذات الزناد المزدوج والبراميل.
أخيرًا وصلنا إلى البرج الثالث، مونتالي، الذي كان لابد من تسلق الكثير من الدرجات الحديدية لرؤيته عن قرب والاستمتاع بالتصميم الخارجي، لكن لم نتمكن من زيارة الجزء الداخلي بسبب إغلاقه. عند الصعود إلى أعلى نقطة في البرج، يمكنك مشاهدة المنطقة المحيطة بأكملها حتى الساحل.
ساحة ديلا ليبرتا
عدنا إلى شوارع المركز التاريخي، واتجهنا نحو ساحة الحرية. في الوسط يقف تمثال الحرية، رمز الحرية لجمهورية سان مارينو، والمناظر الطبيعية المحيطة رائعة. أثناء التجول، صادفنا العديد من الأماكن المثيرة القريبة، مثل قصر بابليكو، ومقر حكومة سان مارينو، في نفس الساحة، الذي لا يبعد كثيرًا عن كنيسة ديل سانتو. بعض المباني الأثرية مع مرور الوقت، جرى عليها بعض الترميم وإعادة الإعمار وهي تعكس بالطبع تغيير أساليب الحفاظ على التراث وعرضه مع مرور الوقت.
على الرغم من عدم وجود دين رسمي إلا أن أغلب مواطني سان مارينو هم من الروم الكاثوليك، واللغة الرسمية هي الإيطالية.
أصبحت سان مارينو دولة مستقلة منذ القرن الرابع الميلادي وحافظت على سيادتها منذ ذلك الحين. إنها أقدم دولة ذات سيادة وجمهورية دستورية باقية في العالم. وتمثل جمهورية سان مارينو مرحلة مهمة في تطور النماذج الديمقراطية في جميع أنحاء العالم. كانت أراضي الجمهورية مأهولة منذ العصور البعيدة، يشهد على ذلك اكتشاف العديد من البقايا الأثرية التي يعود تاريخها إلى العصر الحجري الحديث (الألفية الثالثة قبل الميلاد) وما بعده. وتم العثور على آثار مهمة للوجود البشري في العصرين البرونزي والحديدي، وكذلك في العصر الفيلانوفي والروماني والقوطي. ويوجد بعض من هذه الآثار في متاحف المدينة.
يعود تاريخ أقدم مخطوطة في سان مارينو إلى القرن العاشر، وهي محفوظة اليوم في مكتبة تورينو الوطنية. وعلى الرغم من وجود آثار للوجود البشري من عصور ما قبل التاريخ والعصر الروماني في المنطقة، إلا أنه من المعروف أن جبل تيتانو ومنحدراته لم يكن مأهولًا بالسكان إلا بعد وصول القديس مارينو إلى جبل تيتانو، قادمًا من جزيرة راب، دالماتيا، في عام 257م، هربًا من الاضطهاد، برفقة الأشخاص الذين آمنوا به، حتى وفاته عام 301م. وتقول بعض الخرافات إن الناس كانوا يتعبدون في هذا الجبل أحد الآلهة التي كانت تمتلك قوى عظيمة.
أساطير وحكايات
تقول بعض الأساطير إن جبل تيتانو تشكل عن طريق أكثر الآلهة رعبًا، وهم آلهة أبناء زحل وزيوس، حيث أرادت جميع الآلهة مهاجمة الإله زيوس بينما كان نائمًا على جبل أوليمبوس، وللوصول إلى السماء فوق الجبل الذي يعيش فيه، بدأوا في تكديس الحجارة فوق الحجارة، لكن زيوس علم بخطتهم، وبقوة جبارة أسقطهم وأعادهم إلى الأرض. وكل ما تبقى من الحجارة والصخور، هو جبل تيتانو.
إحدى الأساطير الأكثر شهرة هي أسطورة سان مارينو والدب، فيقال بينما كان القديس وحماره يجتازون الغابة هرباً من الاضطهاد الروماني ضد المسيحيين، ترك مارينو حماره مربوطًا بشجرة بحثًا عن الماء والطعام. وعندما عاد، اكتشف أن الدب قد أكله حياً. وبدلاً من الهروب، اقترب القديس من الدب بلطف، وطلب منه أن يأخذه مكان حماره. أصبح الدب، بأعجوبة، سهل الانقياد مثل الحمل. وعندما هاجمت عصابة القديس، أخافهم الدب وأنقذه من الموت. لذلك سترى في كثير من الأماكن في سان مارينو صورًا للدب والحمار، وحتى في الطوابع البريدية، هناك إصدارات خاصة تحمل صورهما تخليدًا لهذه الأسطورة.
أنشأ مارينو مجتمعًا صغيرًا على الجبل. ويقال عندما وصلت الأخبار إلى سمع الرومانية فيليسيسيما، التي كانت مالكة الأراضي التي استقر فيها المجتمع الصغير. وأرسلت ابنها فيريسيموس لمطاردتهم وإبعادهم عن أراضيها. وخوفًا على حياة شعبه، صلى مارينو طالبًا من الإله المساعدة. في تلك اللحظة، سقط فيريسيموس عن حصانه، غير قادر على الكلام والحركة. ركضت فيليسيسيما المذهولة إلى القديس متوسلة إليه أن ينقذ ابنها، وأن يطلب أي شيء منها بالمقابل. طلب مارينو شيئًا واحدًا وهو أن تصبح هي وابنها مسيحيين وأن يتعمدا. وافقت فيليسيسيما، واستعاد فيريسيموس صحته. واعتنقت المرأة الرومانية وعائلتها المسيحية وأهدت جبل مونتي إلى مارينو ومجتمعه.
ونظرًا لأن المحاجر التي استمرت لقرون طويلة استنفدت أحجار جبل تيتانو وأنهت الحرفة التي كانت تشتهر بها، أصبحت المنطقة الآن من دون موارد معدنية. ويتم نقل كافة الطاقة الكهربائية عبر الشبكة الكهربائية من إيطاليا، الشريك التجاري الرئيسي لسان مارينو.
رغم أن الزراعة لم تعد المورد الاقتصادي الرئيسي في سان مارينو، إلا أنها تظل حيوية. والقمح والعنب والشعير هي المحاصيل الرئيسية، وتعتبر منتجات الألبان والماشية مهمة أيضًا. وحوالي ثلاثة أرباع الأرض مخصصة للزراعة الدائمة.
متاحف سان مارينو
يوجد جزء كبير من ثقافة أقدم جمهورية في العالم في متاحفها، وهي تمتلك تراثًا متحفيًا رائعًا، يصل إلى 12 متحفًا، وهي كثيرة بالطبع نظرًا لصغر حجم المنطقة. تحكي جميع هذه المتاحف القصص عن سان مارينو من الفن والأنثروبولوجيا والإثنوغرافيا من خلال شهادات العصور المختلفة والاكتشافات الأثرية في المنطقة. ولم يسعفنا الوقت إلا لزيارة متحف الدولة ومعرض الفن الحديث والمعاصر. وتوجد أيضًا متاحف مخصصة للأطفال، مثل متحف الفضول، ومتحف مخلوقات الليل.
متحف الدولة
تم إثراء متحف الدولة بمرور الوقت بفضل الإهداءات والتبرعات من أهالي سان مارينو، والمشتريات العديدة من حكومة سان مارينو. يتكون المعرض من مجموعة فنية تبلغ 5000 قطعة، بدأ تجميعها في وقت مبكر من النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ويعرض التحف الأثرية التي تتراوح من العصر الحجري الحديث إلى أوائل العصور الوسطى. ويمكن أيضًا الاستمتاع ببعض اللوحات الإيطالية التي تعود إلى القرن السابع عشر وعملات سان مارينو القديمة. تم افتتاحه عام 1899، ويقع الآن في قصر بيرجامي بيلوزي.
متحف الفن الحديث والمعاصر
يقع متحف الفن الحديث والمعاصر في مبنى تم تجديده يعود تاريخه إلى ثلاثينيات القرن العشرين في لوغي دي فولونتاري، تم افتتاحه عام 1956 وقد استضاف أعمالاً لأكثر من 500 فنان، ويضم حاليًا أكثر من 1000 عمل يعود تاريخها إلى الفترة ما بين العقد الأول من القرن العشرين وحتى الوقت الحاضر. ومن بين الفنانين المعروضة أعمالهم ريناتو جوتوسو وإنزو ماري وإنزو كوتشي وجيان ماركو مونتيسانو وغيرهم.
سان مارينو هي وجهة مثيرة للاهتمام لجميع السياح، من عشاق الفن والآثار ومحبي تجميع المجموعات الباهظة من العملات والطوابع النادرة، إلى المستكشفين الذين يبحثون عن كل ما هو غامض. وبفضل صغر حجم سان مارينو، يمكن الاستمتاع بالمعالم السياحية والتعرف على جمهورية كاملة في يوم واحد ■