نظرة في مستقبل البشرية

المؤلف: فيديريكو مايور
ترجمة: د. محمود علي مكي

ليس هذا العنوان مجرد تلخيص تجريدي لمضمون الكتاب، بل هو لب هذا المضمون ذاته. فالقضايا الفكرية المهمة التي يزخر بها تستلزم بالفعل حلا عاجلا غير تقليدي، حتى يتسنى لنا الوصول إلى عالم الغد، والذي يحوي بدوره قضايا ومشكلات جديدة خاصة به.

فاليوم- حسب الشاعر "انتونيو ماتشادو"- ما زال لدينا وقت، لكن غدا سوف يكون الوقت قد فات، كما يصرح "فيديريكو مايور" مؤلف هذا الكتاب. بيد أن أهمية هذا الكتاب لا تكمن في إشارته للعديد من القضايا والإشكاليات الحادة التي تواجه عالم اليوم فحسب، وإنما أيضا في المقترحات الجديدة التي يطرحها كحل لهذه القضايا والإشكاليات، والتي تمثل الخطوط العامة لتوجهات المؤلف في إدارته لمنظمة اليونسكو العالمية.

ورغم أهمية تلك القضايا التي عالجها المؤلف عبر أربعة فصول في هذا الكتاب وهي بالترتيب: الواقع والأمل، في آفاق حقوق الإنسان، من منظور العلم، التربية من أجل المستقبل؛ فإن هناك قضية محورية تدور حولها معظم هذه القضايا على تنوعها وتعددها وهي قضية "التنمية الثقافية"، والتي تعد - من وجهة نظرنا- حجر الزاوية في هذا الكتاب، إن هدف الكتاب هو "الشعور الفردي بالرضا في عالم حر" وذلك لا يكون إلا بالاستقلال القومي والفردي، وأسس الاستقلال الجديد في عصرنا الراهن هي القدرات المعرفية من علم وفكر وإبداع ثقافي، وذلك لمواجهة نوع جديد من الاستعمار له اسم محدد هو "الاستعمار التكنولوجي". والسبيل الوحيد لهذا- من وجهة نظر المؤلف- هو تنمية هذه القدرات المعرفية للأفراد والشعوب ولكن بمنظور جديد ومفهوم جديد للتنمية.

فقد أثبتت التجارب خلال العقود الأخيرة أن التعريف التقليدي للتنمية والمعيار الذي يتخذ لتحديدها وهو القائم على الاستهلاك المادي لا يرتبط بسعادة الإنسان، ولا حتى في البلاد القليلة التي بلغت أعلى مستوى من القدرة على الامتلاك والاستهلاك.

ومن هنا فإن الأسئلة التي يصوغها المؤلف حول موضوع "التنمية"- والتي تكاد تطوق الكتاب كله- بالغة البساطة شديدة العمق مثل: أية تنمية؟ والتنمية من أجل من؟ وكيف؟. وهو لا يكتفي بطرح هذه الأسئلة- والتي تولدت عنها أسئلة أخرى لا تقل أهمية- ولكنه يقدم مفاهيم ورؤى ومقترحات جديدة في محاولته للإجابة، فهو يطرح تصوره لما ينبغي أن يسلكه العالم حتى يمكن لنا جميعا أن نصل إلى عالم جديد تتحقق فيه للإنسان حياة أفضل، متخطيا في ذلك حواجز القوميات دون أن يلغي ذاتية الثقافات المختلفة باعتبارها روافد لنهر التقدم والحضارة العظيم.

مفهوم جديد للتنمية

على مدى التاريخ الطويل لمفهوم التنمية تعددت المواقف من هذا المفهوم. وسادت خلال عشرات السنين فكرة تجعل هذا المفهوم مرتبطا بالنمو الاقتصادي باعتباره عاملا أساسيا- بل وحيدا- لكل ما يتصل اتصالا وثيقا بالكفاءة العلمية والتكنولوجيا. ولهذا فقد كانت المعايير المطبقة لتحديد درجة الرقي أو التخلف تنحصر مثلا في: مجمل الإنتاج القومي أو معدل الإنتاجية، أو نسبة الأميين في البلاد... إلخ. غير أن هذه النظرة تكشف عن قصور واضح في تصور المشكلة، فلقياس الرقي أو التخلف- في رأي المؤلف- ينبغي أن تستخدم معايير متعددة وعلى قدر كبير من المرونة، ومن الخطأ أن نعتمد في ذلك على معيار منفرد نعزله عن العوامل الأخرى ونضفي عليه أهمية تجعله المتحكم الوحيد في القضية، ولا سيما إذا كان هذا المعيار مرتبطا بحجم النشاط الاقتصادي.

ولم يتغير هذا المفهوم للتنمية إلا منذ سنوات قليلة حينما أدرك العالم بعد وقوع عدد من الأحداث السياسية الخطيرة، الأهمية الجوهرية للعامل الإنساني ومدى أثره في الوصول إلى تنمية أصيلة حقيقية. ولا يعني ذلك أن العوامل الاقتصادية قد فقدت أهميتها، غير أنها لم تعد كافية، فلا يمكن اليوم التفكير في تنمية حقيقية بغير الإشارة إلى الجوانب الثقافية والعلمية والتربوية.

تحديد المفاهيم المرتبطة بالتنمية

يفترض مفهوم التنمية في صورته الجديدة تصحيح بعض المفاهيم المرتبطة به وتحديدها. فعلى سبيل المثال يجب أن ندرك أن التخلف التكنولوجي لا يعني بالضرورة تخلفا حقيقيا إذا وضعنا في الاعتبار مجموعة الظواهر الروحية التي تتألف منها الثقافة. فقد كان الفيلسوف الإسباني "ميجل دي أونا مونو"- Unamu no ينوه- فيما يبدو مفارقة غريبة- دائما ب "الثقافة" العميقة التي يتميز بها الفلاح الإسباني الأمي.

وهذه إشارة مهمة تعيننا على تحديد مفهوم لما يسمى "محو الأمية" وتلقي ضوءا جديدا على ما نستخلصه من ذلك التغير الذي طرأ على مفهوم التنمية وتعريفها. فلا توجد علاقة لازمة بين "الأمية" و"الجهل" على الأقل في كثير من الثقافات التي تعتمد على التداول الشفهي. فما أكثر "الجهال" بين من يعرفون القراءة والكتابة، وما أكثر الأميين الذين يحتقبون قدرا عظيما من المعارف (فضلا عما يمكن أن يختزنوه من حكمة).

واليوم بعد انتشار وسائل الاتصال السمعية والبصرية نرى كيف تلقي هذه الوسائل بدورها ظلالا كثيفة من الشك حول المفاهيم التقليدية لما اصطلح على تسميته بمحو الأمية، إذ إنها تستطيع نقل مقدار هائل من الأخبار والمعارف بشكل واضح جذاب إلى أشخاص لم يعرفوا القراءة والكتابة على الإطلاق، ولكنهم يتمكنون من اكتساب كثير من المعارف.

وعلى ذلك فإن تعليم الأميين القراءة والكتابة لا يؤلف بالضرورة المرحلة الأولى من التعليم بل إن إنشاء المدارس ليس بالضرورة الوسيلة الوحيدة للتعليم.

وحسب هذا التصور الجديد لمفهوم التنمية والمفاهيم المرتبطة بها، فإن العالمين الأول والثاني محتاجان أيضا إلى قدر كبير من التنمية، بل إن عليهما أحيانا أن يتعلما الكثير من العالم الثالث في هذا أو ذاك من مجالات الحياة. ومن هنا فإن مفهوم التنمية الجديدة لا ينسحب على العالم الثالث فحسب، بل يتسع ليشمل العالم كله بشكل نسبي وبقدر كبير من التداخل والتشابك. ومن خلال هذا السياق تكون المناهج الخاصة ببناء الإنسان (لا تعليمه فقط) ذات دور أساسي.

التنمية النابعة من الداخل

ينبغي ألا نخلط- حسب رأي المؤلف- بين "التنمية النابعة من الداخل" وبين "التنمية الذاتية"، فهما مصطلحان غير مترادفين كما يبدو للوهلة الأولى. فالتنمية الذاتية تعني أن يعيش المجتمع منكفئا على نفسه متقوقعا في داخل حدوده، وهو شيء سلبي فضلا عن أنه غير ممكن.

أما التنمية النابعة من الداخل فهي أن يعنى كل بلد بتشجيع الكفاءات الثقافية والعلمية والتكنولوجية بين أبنائه، وهذا عامل رئيسي يحدد قدرة الشعب على بلوغ الأهداف الاجتماعية والاقتصادية التي وضعها لنفسه. وبغير تشجيع هذه الكفاءات المتولدة من داخل صفوفه وتنميتها، فإن البلاد النامية سوف تصبح دائما في وضع أدنى من التبعية للبلاد ذات المستوى الأعلى، وسوف تكون في حاجة لا تنقطع إلى التكنولوجيا. وأسوأ من ذلك وأخطر أنها ستظل أسيرة للمصادر الخارجية المبدعة للأفكار التي تقوم عليها برامج تنميتها القومية. إن خلق مناخ لتأصيل العلوم الأساسية في بلد ما هو الخطوة الأولى التي لابد منها للنمو العلمي الحقيقي العام، ثم لتطبيقات العلوم. ولهذا فإن أجدى استثمار يقوم به المجتمع وأصدقه وعدا بنتائج مؤكدة هو الاستثمار في ميدان البحث العلمي.

وفي الوقت نفسه ينبغي أن يكون هناك وعي كامل بحاجة المجتمعات المحلية إلى تنمية نشاطها التكنيكي الملائم لمتطلباتها الأساسية.

ولا يمكن لمجتمع أن يوفر جيلا جديدا من العلماء والخبراء في التكنولوجيا- وهذا هو المهم في نهاية الأمر- إلا على أساس من تشجيع الإبداع وتهيئة الجو الملائم له والفراغ اللازم للانقطاع إليه والحوافز المادية المشجعة عليه. من هنا يمكن تفجير الأصالة والتلقائية في العمل العلمي. وبهذا الجيل من العلماء والمتخصصين، مهما يكن تواضع عددهم ما دامت مواكبة للطابع المتميز والسمات الخاصة لمجتمعهم، يمكن للبلد أن يشارك مشاركة الند في ركب التقدم العلمي والتكنولوجي العالمي، ولا يهم ما إذا كانت هذه المشاركة من ناحية الكم كبيرة أو ضئيلة؛ لأن المهم هو أن يعرف ذلك المجتمع ما يريد، وأن يختار جهوده العلمية بحرية ووعي ما يلائم ظروفه.

وإذا لم يتم ذلك فإن الذي يخشاه المؤلف أن تصبح عملية نقل المعارف والتكنولوجيا جهدا عشوائيا لا يستفيد منه المتلقي، لأنه على غير وعي حتى بمخاطر العمل الذي ينساق إليه. وكثيرا ما يكون ثمن هذا الجهل باهظا جدا، وهو بغير شك ثمن أعلى بكثير مما كان يتكلفه تكوين مجموعة ولو قليلة من العلماء والخبراء القادرين على أن يبدوا رأيهم فيما ينفع مجتمعهم وما يضره. وذلك لأنه ينبغي أن يكون واضحا أن المقولة المنادية بأن "المعرفة تراث وملك للإنسانية كلها" لا تعني بوجه من الوجوه أن جهد الواعين المجتهدين في العمل ينبغي أن تصبح ثمراته مأكلا سائغا للنائمين الكسالى.

إن اكتساب المعارف والتكنولوجيا من الخارج يمثل مشكلة حادة بالنسبة لكثير من البلدان النامية. فالخطر كل الخطر في ذلك يصيب بطريق مباشر وغير مباشر مجالات الحرية والسيادة الوطنية لتلك البلدان التي تجد نفسها في النهاية محكوما عليها بتبعية عاجزة إزاء الذين تقبض أيديهم على مقاليد السلطة الكبرى في عصرنا الراهن، وهي سلطة المعرفة، وهي عاجزة عن أن تقدم شيئا لقاء ما تتلقاه، بل ترى كيف تعود خالية الوفاض حتى من ثمرات ما تستطيع طاقاتها الإبداعية أن تنتجه.

الأمل يكمن في المعرفة

التنمية- كما يراها المؤلف- من أجل الإنسان كله، ومن أجل كل إنسان- ومعنى ذلك أن التنمية الحقيقية هي التي تضع في اعتبارها بل وفي طليعة أهدافها الارتقاء بالكائن البشري سواء من الناحية الروحية أو الخلقية أو المادية. وطبقا لهذا المفهوم فإن المجتمع والاقتصاد يكونان في خدمة الإنسان، لا أن يكون الإنسان في خدمتهما. وفي ذلك يقول "إيريك فروم": إن أهم ما يجب أن يشغلنا هو "ذات" الإنسان لا ما يملكه، فذلك هو الطريق إلى الرقي بالبشرية.

إن الاسم الجديد للسلام هو التنمية، كما قال بابا الفاتيكان الأسبق بولس السادس، وعلى ذلك فإن نقل السيطرة على المعارف والعلوم من أيدي القليلين إلى أيدي الكثيرين هو ما يعد أعظم عمل ثوري يمكن أن نضطلع به في الوقت الحاضر. والثورة العلمية والمعرفية ستتحقق بالفعل حينما لا تعود المعرفة خاضعة لسلطة السياسة وإنما تكون مشاركة لها.

فالمعرفة اليوم خادمة للقوة بشكل مبالغ فيها، والوضع السليم هو أن تكون خادمة للعقل. والثورة التي يريدها المؤلف في النهاية تكمن في المعرفة، وفي استخدام هذه المعرفة بحكمة، والسبيل الوحيد لذلك هو "التنمية الثقافية".