ذكريات القصبجي

ذكريات القصبجي

 

ظُلِمَ القصبجي في حياة محدودة، إلّا أنّ ألحانه تستمر منتصرة خالدة في حياة غير محدودة، بحيث بات يتبختر خلفها، وهو في غيابه، فخورًا بتفوّقها عليه، واشتهارها فوق ما اشتُهِر وراح وجاء.

 

أكثر ما يُظهِر التناقض بين شخصيّة القصبجي وفنّه هو ما ينّطلق من عودِهِ من أنغام. لقد نبتت في جسده الهزيل يدان متينتان قويّتان قادرتان على نقل ما يأمر به عقله من علم موسيقي، ومن تعبير جمالي، إلى خشب العود. بذلك، ليست المعالجة الموسيقيّة الرّاقية هي ما تميّز به فحسب، ولا البناء اللّحنيّ الغنيّ والمتنوّع، ولا الخلطة الفنّيّة المفعمة بالدّراية والاطّلاع، ولا الطّراوة والسّلاسة في التّنقّل بين المقامات الموسيقيّة في شرقيّها وغربيّها... إنّما أيضًا، السّيطرة والمهابة الصّادرتان من كلتا يديه. ففي اليمنى زخمٌ وثقة وجرأة، وفي اليسرى سرعة في التقاط الرّنين، ولباقة في الزّحف على زند العود، وغلبة في امتلاك الأوتار والبصم عليها، مع ميل واضح إلى تجنّب إخراج الأصوات من الأوتار المطلقة، وذلك بهدف توحيد الأصوات الصّادرة عن العود. 

ويكتب طارق عبدالله تحت عنوان «محمّد القصبجي مجدّد فنّ العود»: كان مما يُطلق على العوّاد في الماضي من صفات: زخمجي (هو من ينجح، من خلال الضّرب بريشته، في إصدار صوت قويّ واضح)، وممّن تميّزوا بذلك: سيّد السّويسي العوّاد. وبصمجي (وهو من يجد سهولة في الاستفادة من رنين الوتر ليتابعه في موضع آخر مجاور، من دون نقرٍ إضافيّ، وذلك بالبصم على ذاك الوتر، وإبقائه معقوفًا وغير مطلق)، وممّن تميّزوا بذلك: علي اللّيثي العوّاد. 

ويصف كامل الخلعي، وهو الموسيقيّ الأستاذ الّذي قدّم إلى القصبجي المعارف الموسيقيّة، ولقّنه فنّ الموشّحات، يصف تلميذه القصبجي العوّاد، بالقول: إنّه العوّاد السّاحر، والمتفنّن الماهر... ولولا أن يظنّ بنا غُلوّ، لزِدنا مَن استزاد. كما يقول عنه عبد الوهّاب (وقد تَتلمذ عليه في بدايته): كان يزحف بيده اليسرى على زند العود، يعفق الأوتار، في الوقت الّذي كان فيه عازف العود يضع تلك اليد على زندٍ جامدٍ لا تتحرّك فيه إلّا الأصابع (وفي الزّحف على زند العود تبرز تقنيّات العزف على البُزُق لما تتميّز به هذه الآلة من طول بارز في الزّند). ويُروى على هذا الصّعيد أنّ القصبجي قدّ تأثّر بعازف البُزُق التّركيّ، أو الطّنبور، المؤلِّف والعازف جميل الطّنبوري، كما أنّه من الطّبيعيّ أن يكون قد تأثّر بوالده الملحّن والعوّاد علي القصبجي، وهو أقرب النّاس إليه في أيّ حال، خصوصًا في نشأته الأولى. وكما يكتب كمال النّجمي: لقد كانت بيئته العائليّة هي مدرسته الأولى والطّبيعيّة، وهذه كانت حال السّنباطي من بعده. 

وتسجيلات التّقاسيم المطوّلة من القصبجي قليلة، نعرف منها وصلات من معهد الموسيقى العربيّة، ووصلات من سهرات بعض المتذوّقين. أمّا في حفلات أمّ كلثوم فيُحصي المتابعون: تقاسيم في مطلع أغنية «الأوّلى في الغرام» في أكثر من حفلة. تقاسيم في مطلع موّال «اللّيل أهو طال». تقاسيم ضمن أغنيات: «أروح لمين»، و«رباعيّات الخيّام»، و«يا ظالمني». وتبرز منه نقرة واحدة في تسجيل مونولوغ «منّيت شبابي» (ضمن فيلم «نشيد الأمل»)، يؤدّيها بريشة مقلوبة ترتفع بها يمناه إلى الأعلى، بهدوء وجلال، لتعود تلك النّقرة وتهبط في آذان المتذوّقين آخذة مداها في تتابع تدفّقات الصّدى، تمامًا كما كانت حال رقاقة العجين وهي تتنقّل بين يديّ خبّاز ابن الرّومي، وموقد النّار الّتي عادت منه خبزة شهيّة قوّارة كالقمر، وقدّ تخيّلها الشّاعر حصاة صغيرة تسقط فوق سطح الماء: 

 

في صفحةِ الماءِ يُرمى فيهِ بالحجرِ

إلّا بمقدارِ ما تنداحُ دائرةٌ

 

عن المطربات والمطربين

كانت للقصبجي آراء إيجابيّة في من أعجبه من المطربات والمطربين، لكنّه لم يتطرّق بشكلٍ بارز إلى الملحّنات والملحّنين: «أنا ملحّن، وليس من حقّي أن أميّز بين الملحّنين»، قال ذلك خلال مقابلة قديمة في إذاعة لبنان. 

وهو يستهلّ تلك الآراء بالقول في مكان آخر: «لا يسعني إلّا أن أقول إنّ غناء زمان كان مبنيًّا على الطّرب وحده، فلم يعتمد على الموسيقى كغناء هذا الزّمان. كان الملحّن يلحّن الدّور الواحد لتؤدّيه المطربة أو يؤدّيه المطرب سنوات وسنوات بلا انقطاع، وكان السّمّيعة يستمعون إليه في كلّ مرّة كأنّه لحن جديد». 

وبين مطربي ومطربات عصره الأوّل، يتحدّث القصبجي عن ميله إلى أصوات: يوسف المنيلاوي، وسلامة حجازي، ومحمّد سالم، وتوحيدة. كما تحدّث عن عبدالوهّاب بالقول: «المرّة الأولى الّتي عرفت فيها محمّد عبدالوهّاب كانت في العام 1920. لم أكن قد سمعت عنه شيئًا. زارني صديقاي محمود وعلي شكري ومعهما شاب نحيل الجسم، رقيق الحال، نظيف الملبس، يرتدي بذلة رخيصة الثّمن، لكنّها أنيقة. قدّماه إليّ على أنّه مطرب ناشئ، سمع عنّي ويودّ التّعرف إليّ. دار بيننا حديث. لاحظت أنّه يريد الاطمئنان إلى مستقبله كمطرب. غنّى. أحسّست أنّه سيدخل المجد من أوسع الأبواب (وكان آنذاك يعمل في فرقة عبدالرّحمن رشدي مؤدّيًا بعض ألحان سيّد درويش بين الفصول). درس العزف على العود لديّ، وأصبح من أمهر العازفين في فترة وجيزة. كان ينصت إلى ألحاني ويردّدها بعد دقائق وكأنّه هو ملحّنها. صاحبني إلى شركة أوديون حيث كنت أسجّل ألحاني. أذكر أنّ لحنًا ضاع منّي إلى حين، وإذا بي أسمعه منه وكأنّه إبرة تدور فوق الأسطوانة».

وفي ختام الآراء يقول عن أمّ كلثوم: «عرّفني بها أبي (وكان صديقًا لمتعهّد حفلاتها) حين صحبني للاستماع إليها. صعدت إلى المسرح لأراها عن قرب، وحييّتها فردّت التّحيّة من دون أن تعرفني. لكنّها كانت قد سجّلت لدى شركة أوديون أغنية من تلحيني كنت قد أعددّتها لنعيمة المصريّة: «قال إيه حلف ما يكلّمنيش». بعد ذلك تعرّفت إلى أحمد رامي وكانت قصيدة «إنّ حالي في هواها عجب»... وكرّت سبحة الألحان، ورحت أتجوّل وإيّاها في الأقاليم لإحياء الحفلات وإقامة الموالد، وكم كانت تحصل الخناقات بين السّمّيعة هناك، وكنت دائمًا في خلال عمليّات الانسحاب والهرب، أخاف على قيمتين: أمّ كلثوم أمسك بها بيسراي، والعود أمسك به بيمناي. ويؤثّر عن رامي قوله: «القصبجي هو إمام الألحان. هو اللّي عمل أمّ كلثوم في الأوّل خالص». 

«بعد تكوين التّخت المرافق لها (منّي ومن سامي الشّوّا الكمانجي، ومحمّد العقّاد القانونجي، ومحمود رحمي الإيقاعي) بدأت أمّ كلثوم تغنّي بشكل منتظم، تلات مرّات أسبوعيًّا في صالة سانتي بحديقة الأزبكيّة (كانت تغنّي أحيانًا بين فصول روايات علي الكسّار)».

وفي ذكرياته عن تلك الحفلات يقول القصبجي: في إحدى الحفلات، كان من المقرّر أن تغنّي من ألحاني «خلّي الدّموع دي لعينيَّ» (وهي أغنية تتضمّن مقامات منخفضة ومقامات عالية). ولا أدري ما السّبب الّذي دعاها لأن تطلب منّي قبيل الحفلة بقليل أن أخفض الطّبقات العالية لأنّها كانت تشعر بالتّعب. رفضتُ بادئ الأمر، لكنّها أصرّت، فخشيت غضبها ووافقت.

خفضتُ الطّبقة، وحاول العقّاد أن يعدّل دوزان قانونه لكنّه لم يوفّق (بسبب كثرة أوتاره)، ووقفت أمّ كلثوم تغنّي. إلّا أنّها راحت تبحث عن صوتها في القرار (عند الطّبقة المنخفضة)، إنّما من دون جدوى، فاضطرّت لرفع صوتها، وحصلت اللّخبطة. وفي أسرع من البرق أصلحت الطّبقة فاستقامت الأمور، ونظرتْ إليّ وابتسمت. كان ذلك اعترافًا برأيي. قلت لها بعد الحفلة: ابقي اسمعي كلامي. قالت متكبّرة: «ما تطلعش فيها بأه».

أنا كنت أتنبّأ بمستقبل عظيم لأمّ كلثوم. إنّ لها جاذبيّة غريبة، في الرّوح وفي الصّوت. وأعتقد أنّ لهذه الجاذبيّة أثرًا في نجاح حفلاتها. إنّها تستطيع أن تكيّف المستمعين وفق هواها. 

 

على من عتب القصبجي

عتب القصبجي على الدّولة، خصوصًا في إذاعتها وتلفزيونها، بسبب تجاهله، وعدم إنصافه كملحّن كبير، وعدم تكليفه تلحين جانب من مختاراتهما الغنائيّة، وعدم إيلاء أعماله الاهتمام الكافي، وعدم إسناد مركز تعليمي إليه في المعهد الموسيقي الذي أنشأته وزارة الثّقافة في أواخر الخمسينيات... والخلاصة: إهمال القيام بما يساعده في مواجهة أعبائه الحياتيّة، خصوصًا في الفترة الأخيرة من العمر. وقد بلغ به شعور الأسى حدّ القول: «إنّني إن كنت نادمًا على شيء، فندمي ينحصر في مخالفتي لأبي. لقد أراد لي حياة أخرى». 

وكان القصبجي، كما يذكر محمود كامل، محبًّا لزملائه، لا ينافسهم، بل يشجّعهم ويتضامن معهم: حين علم أنّ فريد غصن يرغب أن تغنّي أمّ كلثوم لحنه «وقفت أودّع حبيبي»، أخّر تقديم لحنه «رقّ الحبيب» بحجّة عدم الانتهاء من صياغته، وذلك إفساحًا لزميله. وقد غنّت أمّ كلثوم اللّحن في الحفلة المقرّرة، لكنّها عادت وأعلنت عدم اقتناعها به، ولم تسجّله (ووجّهت اللّوم إلى القصبجي في ذلك). 

إلّا أن عتبه الكبير، والمخبّأ بين الضّلوع، كان على أمّ كلثوم هذه المرّة، خصوصًا وأنّه أستاذها الثّاني بعد أبي العلا محمّد، ورفيقها الدّائم على مدى سنوات العمر والفنّ: «لقد بعثت بالألحان على شفتي أعظم مطربة في الشّرق في القرن العشرين، لترتفع بها إلى ذروة المجد، حتّى إذا ما استوت على عرشها، آثرتْ أن تُعرِض عن هذه الألحان، ظنًّا منها بأنّها قد لا تبقيها عند تلك الذّروة. هي حرّة».

ويقول في موضع آخر: «محمّد القصبجي صاحب الأمجاد الطّويلة، هو الآن مجرّد عازف على العود في فرقة أمّ كلثوم. لم تعد أمّ كلثوم تهضم مدرستي. قذفت بي إلى الصّفوف الخلفيّة. لم أعد ألحّن. أكاد أشعر بأنّ أصابعي فقدت مرونتها. قد تطلب منّي أن أفرّد إن عنّ على بالها. أنا عبد في طاعة مولاته. هكذا تحتّم عليّ لقمة العيش». 

ويعيد الكثيرون ذلك الجفاء إلى الخلاف الّذي حصل بعد تقديم فيلم «عايدة» (1942) الّذي فشل، وأعادت أمّ كلثوم فشله إلى عدم تقبّل الجمهور لألحان القصبجي فيه. ويرى عبد الوهّاب أنّ القصبجي مجدّد في الموسيقى العربيّة، لا بل من أخطر المجدّدين. لكنّ أمّ كلثوم وضعت حدًا له. هي رأت، وفق خبرتها، أن نمط الألحان الّتي تنشدها يوافق عليه الجمهور ويرفع «طرابيشه» إلى الفضاء طربًا، فلِمَ تغيّر في طبيعة تلك الألحان؟ 

وتربط رتيبة الحفني بداية إعراض أمّ كلثوم عن ألحان القصبجي بإصراره على التّلحين لأسمهان. هي شعرت بخطورة صوت أسمهان، فعملت على حصر ألحانه بها، إلّا أنّه تعلّق بأسمهان واستمرّ يمدّها بالألحان في خلال عمرها الفنّي القصير. 

لكنّ ذلك لا يلغي أبدًا أنّ أمّ كلثوم كانت تقدّر القصبجي حقّ قدره، في ما مضى على الأقل: القصبجي سابق لعصره... إنّه يسابق الزّمن. والقصبجي بدوره كثيرًا ما كان يقول: «إنّ لأمّ كلثوم فراسة غريبة، وهي تحتفظ بصداقة الأصلح لها في عملها، وإنّها في سعيٍ دائم نحو القمّة»، بذلك لا يمكنه أن ينتظر منها أن تكون مشغولة بأمورٍ قد تحيد بها عن تلك المسيرة الصّارمة. وهو كان يشعر بسعادة غامرة حين يعمل إلى جانبها، وحتّى حين وصلت العلاقة معها إلى فتور، كان يصرّ على أن يبقى عاملًا في فرقتها: «ح أفضل أشتغل معاها لغاية ما أموت جنبيها على خشبة المسرح». هذا عدا ما كان يُحكى عن شعور عاطفي تجاهها. 

ويكتب عبدالوهّاب بازرباشي عن محنة عزلة القصبجي: لم يكن القصبجي صاحب صوت يُسعى لصاحبه. ولم يكن نصير الأغنية الشّعبيّة، ولم يهوَ التّعامل مع الإعلام. ولو رحل باكرًا لاعترف زملاؤه وتلامذته بتفوّقه، أمّا وأنّه استمرّ منافسًا حيًّا فالمسألة معقّدة. 

وعتب القصبجي على الصّحافة الفنّيّة، إذ تحامل بعضها عليه، وزاد من الكتابة عن شؤون شخصيّة لديه، وهي شؤون لا تهمّ الموسيقى، ولا تهمّ الآخرين، إضافة إلى أنّها، سواء كانت صحيحة أو خاطئة، قد تكون موجودة لدى غيره من الفنّانات والفنّانين... ومن البشر. ففي إحدى المرّات زاره أحد الكتّاب لإجراء مقابلة لصالح مجلّته. مقابلة مع ملحّن له تجربة وثقافة وتطلّعات، ومع ذلك يروح الكاتب يسأله عن صباغة شَعره، وكأنّ ما حصل كان بهدف التّرويج لإحدى أدوات التّجميل، وليس للحديث عن الموسيقى بنظريّاتها وتطبيقاتها وتطلّعات العاملين فيها. وفي مرّة نشرت إحدى المجلّات صورة للقصبجي وهو يشتري بعض حاجيّاته من أحد الحوانيت، وكأنّ في ذلك إشارة انتقاديّة إلى بساطة عيشه، وعدم وجود مرافقين يتولّون القيام بتلك الأمور. 

ولعلّ سمحة الخولي قد واست القصبجي قليلًا في كتابها «من حياتي مع الموسيقى»، حين كتبت: لم يكن نعي القصبجي مفاجأة لأصدقائه وتلاميذه، فقد شهدناه في الشّهور الأخيرة وهو يذوي، وكان أشدّ ما أشفقنا عليه منه هو ذلك الشّعور الأليم بأنّ الحياة أنكرت فضله في شيخوخته. والآن بعد أن تحرّرت نفسه الوديعة الطّيّبة من الآلام كلّها، فإنّ من حقّه علينا أن نقيّم فضله، ونذكّر الأجيال بقيمته في الموسيقى الّتي مارسها ملحّنًا، وعازفًا، وأستاذًا خلال نصف قرن مجيد. 

 

ردّ اعتبار

كثيرًا ما نسمع بأنّ فلانة أو فلانًا من النّاس، قد رُدّ إليهما الاعتبار بعد سنين وسنين من المحاكمات، أو الإقامات في السّجون، أو التّغريمات المادّيّة، أو التشهيرات الإعلاميّة... الّتي حصلت بسبب تقصيرٍ، أو إهمالٍ، أو خطأ في الحكم، أو الضّياع في الدّلالات. وقد يحصل ذلك أحيانًا بعد الرّحيل عن الحياة. أستاذنا القصبجي تعرّض على مدى فترة غير قصيرة من عمره لمثل هذا الإجحاف. وهو كان يشكو من ذلك عبر المقابلات القليلة الّتي كانت تتمّ معه. 

كما أنّ الاطّلاع على مصاعب حياته، ومتابعة صيامه الموسيقي، وانعدام تكريمه... تستوجب كلّها أن يتمّ إحياء ذكراه، بغضّ النّظر عن ذكرياته، بإقامة صرح موسيقي باسمه، ومحاولة لملمة كتبه وأوراقه، وجمع تسجيلاته، والسّعي إلى استعادة أعواده من الأماكن أو البيوت الّتي انتهت إليها، مع تقديم الشّكر الوافي والتّعويض الكافي لكلّ من له علاقة بذلك، إذ لولا اهتمام الحافظين باقتناء تلك الأوراق والأعواد، لما تيسّر بقاؤها، ولما صحّ التّعرف إليها، والتّفكير بإعادة جمعها. 

ونتذكّر هنا خبرًا ورد في مجلّة «الأسبوع العربي» (اللّبنانيّة) بتاريخ 20 يونيو 1966، عن أنّ المشرفين على مهرجان للموسيقى الشّرقيّة في اسطنبول، قد تطرّقوا إلى موسيقى الملحّن العربي الرّاحل محمّد القصبجي، فأجمعوا على ضرورة إنشاء مكتبة خاصّة باسمه، تضم أشهر ألحانه الّتي وضعها خلال الأربعين سنة الماضية، بالأخص تلك الّتي تأثّر فيها بالأنغام التّركيّة الأصيلة.

وأخيرًا، إنّ القصبجي هو فلذة في كبد الموسيقى العربيّة، ولا بدّ من إعادة إحياء، أو على الأقل إنشاء، علاقته مع الجمهور، في سعي إلى استمراريّة وجوده التّلحينيّ والعزفي، وفي محاولة لإعطاء الموسيقى الآليّة قسطًا من المكانة الّتي تبلغها في العادة الموسيقى الصّوتيّة البشريّة التي لا ينكر رفعتها إنسان، فالحنجرة المغنيّة هي في كل حال الآلة الموسيقيّة الرّبانيّة الأولى ■