النِّضال من أجل الحياة

النِّضال  من أجل الحياة

لك أن تتصور امرأة وحيدة، في بطنها جنين يوشك على الخروج للحياة، محبوسة داخل صندوق حديدي مثقوب يحيطه ماء المحيط الهادر من كل اتجاه، ويحيطها الماء داخل الصندوق... صندوق عائم في قلب المحيط الشرس داخله حياة وخارجه موت، تريد المرأة أن تُنْقِذ الحياة التي تتحرك داخل بطنها، بينها وبين الموت جدار حديدي مثقوب تنفد منه ملوحة الماء لتغرقها من الداخل والخارج، تحمي المرأة الحياة التي في بطنها بجدار من لحم ودم، تريد أن تستخرج الحياة من أعماقها وتُنْقِذ جنينها من موت محقَّق، والماء يحيط الماء، يحيط المرأة الماء داخل الصندوق، والجنين يحيطه الماء داخل الرحم، والصندوق يحيطه ماء المحيط الشرس، الجنين يحيطه ماء الحياة، وفي الخارج ماء الموت، هل سَتُخْرِج المرأة جنينها من ماء الحياة لماء الموت؟! هل ستستطيع تجاوز غلاف الماء الذي يحتويها؟! هذا ما سوف تشاهده عند متابعة الفيلم الإسباني (Nowhere ليس في مكان ما) المنتج في سبتمبر 2023 من إخراج: ألبرت بينتو، بطولة: آنا كاستيلو، تامار نوفاس.

 

 

يبدأ الفيلم متوترًا بشدة مع مجموعة من الناس محشورين في خلفية سيارة مغلقة، ويد عنيفة لرجل تمتد بعصبية لمسدس يريد تهريبهم؛ فالأوضاع في إسبانيا غير مستقرة والمذياع يردد «في إسبانيا حاليًا وكذلك الدول المجاورة ستكون عاجزة عن إعالة المواطنين المحتاجين إلى دعم دون تحقيق توازن متساوٍ في الموارد». بدا أن في الأمر مجاعة يراد فيها التخلُّص من الحوامل والأطفال بعدما تخلَّصوا من العجائز؛ لأنهم لا يعملون في المجتمع، يرون أنهم عالة وكمّ زائد.

تتحرك المجموعة الهاربة وسط حاويات حديدية جافة توحي بالقساوة، والوقت ليل تشوبه إضاءة قمر خافت، وظهر على الشاشة أن حياتهم على حد شعرة، وأن بينهم وبين الموت لحظة كشف، فقط لو سطع الضوء عليهم سيموتون بطلقات الرصاص، وسمعنا أول اسم يُنْطَق في الفيلم (مايا) نطقه زوجها بخوف واضح على حياتها، وبدت مايا مرعوبة والكاميرا تلاحق وجهها الهارب بين الحاويات، صنعت الإضاءة مزيدًا من التوتر المتوجّس، ومع خلو الخلفية من الموسيقى لم نسمع سوى أصوات ارتطام الأجساد بالحديد؛ مما زاد المشهد تلاحقًا وإثارة، حتى إن ظهور كلب صغير صنع رعبًا مؤقتًا، وحين وصلت مايا وزوجها للرجل المُهَرِّب الذي سينقلهم لخارج البلاد طلب مزيدًا من المال، فتنازلت مايا مع زوجها عن خاتمهما وقال المُهَرِّب: «رحلة موفَّقة» وقال الزوج لمايا: «هل أنت بخير؟» قالت مايا بحزن: «كلا» وأُغلقت عليهم الحاوية بعنف السواد، وهنا ظهر اسم الفيلم مصاحبًا لصوت الحديد المزعج. 

 

بوسعك أن تُظْهِر مخاوفك 

فكَّت مايا الأربطة من على بطنها فاكتشفنا أنها حامل وأنها هاربة خوفًا على جنينها، وكان في الحاوية نساء حوامل ونساء أخريات معهن أطفال، في لفتة مميزة أعطاها زوجها قطعة من الحلوى المغلَّفة، وأخبرها ألا تأكلها الآن، يجب أن تؤخّرها لحين الوصول، وكانت هذه إشارة ذكية من صنّاع الفيلم بأن قطعة الحلوى سيكون لها دور في أحداث الفيلم، وفي إنقاذ حياة مايا فيما بعد.

على الرغم من قصر مساحة دور الزوج في الفيلم إلا أن علاقة الحب بينه وبين زوجته مايا كانت دافعًا رئيسًا في حفاظها على حياتها طوال نضالها في الفيلم، كان يداري مشاعر خوفه الشخصية من أجل تقوية عزيمتها حتى إن مايا لاحظت ذلك وأخبرته: «بوسعك أن تُظْهِر مخاوفك» وكانت مشاعر الزوج الداخلية تتحمّل مسؤولية حماية زوجته وابنته التي في بطنها، لذلك كان الزوج يقتل خوفه ويبتسم أمامها حتى لا يصيبها الوهن والانكسار، وهذا ما دفعها للحياة. 

 

ثقب في الحاوية

في قمة التوتر والرغبة في المحافظة على الثقة قال الزوج لزوجته مايا: «أنا على يقين من أمر واحد، أن حبي لك يزداد يومًا بعد يوم»، وأجابت مايا: «ولا حدود لعشقي لك في المستقبل»، هذه الجملة ستكون الرابط بين مشاعر الزوجين طوال الفيلم حتى وهما في مكانين مختلفين، سيكون للجملة وقع رومانسي دافع للحفاظ على حياتها حين تتذكرها في أوقاتها العصيبة.

من المشاهد البارعة التي تكشف الكتمة داخل الحاوية حين ثقبت إحدى الهاربات ثقبًا في الحاوية، تشمَّمت المرأة الهواء ونفذ الضوء للداخل وسطع الضوء على وجه مايا فبدا أن الخارج نعمة، وأن الشمس حياة.

معظم التفاصيل التي حرص الفيلم على إظهارها داخل الحاوية كان لها مردود درامي واستخدام جيد عبر رحلة نضال مايا داخل الحاوية (زجاجة الماء، قطعة الخبز، المثقاب، سكين الرحلات، سماعات الأذن، شاشة التلفزيون، الثقوب في الحاوية نتيجة الرصاصات التي أطلقها الجنود). 

كأن صناع الفيلم يهيّئون المُشَاهد لوجود أشياء ستساعد مايا في إنقاذ حياتها عبر رحلة نضال شاقة وسط المحيط، من التفاصيل الصغيرة المهمة حين أشارت مايا لفتاة داخل الحاوية وقالت لزوجها: «هل تظن أن هذه الفتاة حبلى وتسافر بمفردها؟»، فقال زوجها جملة الفيلم التي ستتكئ عليها مايا في نضالها وسط المحيط، قال: «إذا كانت حُبلى فليست بمفردها» وهذا يزرع في قلب مايا أنها وهي وحدها لن تكون وحيدة، فجنينها في داخلها.

 

الماء في كل اتجاه

 حين يتوتر الحدث، يقذف المهربون بمجموعة أخرى من النساء داخل الحاوية، ويخرج زوج مايا وتصبح بدونه وحيدة وسط نساء هاربات، وحين وصلوا للمكان المحدّد، كان الجنود يبحثون عن النساء المختبئات داخل الحاوية، وبدا المشهد مميزًا على الشاشة والجندي يحدثهم من خلف جدار الحديد، وعلامات القسوة المبتسمة تظهر على وجهه، وصوته يشع رأفة كاذبة، بدت الخديعة من داخله وهو يطمئنهن، ثم إنه حين خرجت النساء من مخبأ الحاوية، ظهرت القسوة مكشوفة على ملامحه وصوته، وأطلقوا النيران على النساء جميعًا، كانت مايا قد اختبأت فوق صندوق من الخشب، وشاهدت مشهد القتل العنيف وهي تتحسَّس بطنها؛ كي تطمئن على حياة الجنين داخلها، ونظفوا الحاوية من النساء، وغسلوا دمائهن كقذارة، وأصبحت مايا وحيدة داخل حاوية مغلقة، تُصْدر أنينًا يمزق القلب، والتساؤل يغزو المشاهد، كيف ستتمكّن مايا من الحياة وسط حاوية حديدية مغلقة؟

حين غَفَت مايا لحظة، أحاطتها الإضاءة الناعمة، لكن خبطة عنيفة وتَّرتْ المشاهد؛ كانت السفينة حاملة الحاويات تتخبط في المحيط، وبدا أن السفينة تتعرض للغرق بجميع ما فيها ومن عليها، رأينا التنقل الناعم في المَشَاهد بين الاصطدام داخل الحاوية، وبين الارتطام في الخارج للسفينة في المحيط، متناسقًا بما يوحي بخطر شديد، تنظر مايا من الثقب فترى الأمطار في الخارج، وتصرخ: «أنا هنا أنقذوني» والعاصفة تضرب بعنف، وحين اكتشف أحدهم وجودها مالت السفينة بجميع حاوياتها وأظلمت الشاشة، ثم انفتحت ووجدناها مجروحة تعاني من الألم، والماء في قاع الحاوية وعلمنا أنها نجت من الغرق.

كانت الممثلة آنا كاستيلو بارعة في تجسيد حالة الألم والمعاناة والحيرة وهي تنظر من ثقب الحاوية فلا ترى غير الماء حولها والحاويات الأخرى تغرق، والكاميرا وهي تنظر من داخل الحاوية للخارج كشفت مدى وحدتها في المحيط، ومدى اتساع المسافة بينها وبين الحياة، فلم تكن هناك يابسة قط، ماء يحيطها من كل اتجاه وظهر الرعب متجسدًا داخل الحاوية، وهي تتحسَّس بطنها لتستمد الحياة من جنيها كي تقاوم الماء الذي يحيطها.

 

نقرة الجنين 

حين تحرك الجنين داخل بطن مايا بدت مقاومتها في قمة الإصرار، وظلت تكشف جميع ما في الصناديق من أجل الاستمرار في الحياة كي يعيش الجنين (علب فارغة، ملابس، سماعات أذن، زجاجات كحول) بدأت تحصي الأشياء وتجمعها؛ كي تستمر حياتها، وسمعت صراخًا شديدًا فنظرت من الثقب، في مشهد من مشاهد الفَقْد الحسّاسة رأت مايا الحاوية 107 التي بها زوجها تغرق في المحيط أمام عينيها، وظلت تتصل به في مشهد إنساني لزوجة تفتقد زوجها وحبيبها والهاتف يكرر الرد الآلي: «مرحبًا، أنا نيكو، لا يمكنني التحدث حاليًا، حاول الاتصال لاحقًا»، وظلت مايا تعاود الاتصال؛ لتسمع الرسالة المسجلة، تريد أن ينفذ صوت زوجها داخلها؛ لتشعر أنه معها، وأن روحه تحميها في وحدتها وسط المحيط، والظلام يحيطها والدموع في عينيها تشتاق إليه، في لمعة فَقْد واضحة، والحاوية تتحرك في الماء مع الصوت الآلي وكأن صوت زوجها يهدهدها كي تسترخي أعصابها، وفي لحظة يأس أمسكت مايا السكين وأرادت أن تقطع شرايينها، أن تتخلَّص من حياتها، لكن نقرة الجنين في بطنها نبّهتها وقالت للجنين: «مرحبًا» حركة داخل بطنها أنقذتْ حياتها.

 

الحياة تخرج وسط العواصف

قررت مايا أن تعيش؛ لتحافظ على جنينها، وغطَّت بطنها لتحمي جنينها من الموت، وبدأت تستخدم كل ما في الحاوية لتستمر أكبر فترة ممكنة في الحياة، وحين جاءها اتصال زوجها وكأنه هاتف يدفعها للتماسك «اصمدي، تماسكي من أجل الطفلة، يمكنك الصمود، أنت أقوى شخص سبق أن قابلته، لا تدعي اليأس ينال منك»، كرر كلمته الأثيرة التي كشفت عمق العلاقة في أول الفيلم: «تعلمين أن حبي لك يزداد يومًا بعد يوم»، وأجابت: «لا حدود لعشقي لك في المستقبل» بث فيها القوة وقامت العاصفة وراحت تتشمَّم الهواء من ثقب الحاوية وكانت لحظة الولادة في غاية التميُّز، في الخارج مطر ورعد وبرق والحاوية يدخل منها الماء، والأم تعاني آلام الولادة؛ كي يخرج جنينها في هذه القسوة بين الحياة والموت.

كان المشهد في غاية البراعة، لحظة ميلاد ولحظة ترقب الموت، معاناة وتحمُّل، رعد وخروج جنين، وخرج الجنين في الماء، وتجلَّت لحظة العذاب الإنساني حين بدا الجنين صامتًا لا يتنفَّس، في مشهد متميز وكأنه خرج ميتًا، وكانت مايا تصرخ في الجنين: «أرجوكِ تنفسي» تضرب على ظهرها الطري والمشاهد قلبه مع الجنين الذي ولد في هذا الجو العاصف، وحين صرخ الجنين شهقت مايا وتنفّس المشاهد، كان مشهدًا بارعًا لخروج الحياة وسط العواصف والرعود، حياة جديدة تخرج على الرغم من كل تلك القساوة والصعوبات، نضال حقيقي من أجل الحياة، وهي تحتضن جنينها وسط الماء، ودخل الضوء الباهر من الثقب وكأنه قمر منير، والموسيقى شاعرية تحيط القساوة بالرحمة. 

 

رحمة الرب

بدأت مايا تفكر في الخروج من الحاوية من أجل إخراج طفلتها للحياة، كانت رغبتها عارمة في إنقاذ حياة الصغيرة، وقالت لطفلتها وكأنها تسمعها: «يجب أن تتغذي، من واجبي الاعتناء بك»، وحين بدأت الطفلة ترضع، شعرنا أن الحياة دبَّت في الحاوية، وحدثت سكينة طارئة ونامت الطفلة وشعرنا أن الرحمة تمتد للصغيرة وأكلت مايا بعدها كل ما وجدته بشراهة، وأصرت على شق فتحة أعلى الحاوية؛ لتنجو طفلتها، كانت متعبة ومجروحة، وطفلتها تصرخ، وقوة الأمومة تحثها على الاستمرار في الحياة؛ لإنقاذ قطعة اللحم الحية التي بين يديها. 

في لحظة ضعف واستسلام إنساني جاءها طيف ابنتها التي تركتها قبل أن تدخل الحاوية، وكأن الفتاة تعاتبها حتى لا تترك الصغيرة تموت مثلها، شد طيف ابنتها الميتة من عزيمتها، وفي لحظة بارعة وهي تعتذر لابنتها الميتة أنها السبب في تركها تموت وأنها غلطتها طبطب طيف زوجها على شعرها «إنها ليست غلطتك، الذنب ليس ذنبك يا عزيزتي»، وكأن السماء أرادت لها أن تعيش، وكانت مايا تحتاج للماء بشدة فتساقط المطر الحلو من أعلى الثقوب في سقف الحاوية، فشربت وكانت تغوص في الماء المالح داخل الحاوية وهي تقول بتصميم لصغيرتها: «سأخرجك من هنا» وتعلَّقت بحديد سقف الحاوية وشدته بقوة الرغبة في إنقاذ طفلتها، ودخل النور قلب الحاوية، كان المشهد بارعًا وظهرت السماء للمرة الأولى مشرقة وصافية، تدعو لرحمة الرب والموسيقى في الخلفية تحمل هدوء الراحة.

 

لقد أنقذتني يا صغيرتي 

وأخيرًا خرجت مايا مع طفلتها الرضيعة إلى  ظهر الحاوية، ودارت الكاميرا تكشف إحاطة ماء المحيط من كل جانب، لكن بدا أن في الأفق أملاً، وقالت للصغيرة التي بدا عليها نعمة الشمس: «حالك أفضل في الخارج، تشعرين بسعادة عارمة؛ لأنك تحت الشمس، وفي الهواء العليل»، وغفت مايا للمرة الأولى براحة وبدأت تتدبَّر أمورها، صنعت من أسلاك السماعات شبكة صيد؛ لصيد السمك، واستخدمت كل ما هو متاح لإنقاذ صغيرتها والاستمرار في الحياة. 

ورن هاتفها وكأنه جفّ من الماء بتعرضه للشمس وتحدث زوجها في حوار نهائي وهو مصاب بطلق ناري تكاد حياته تنتهي، ووضعت مايا الهاتف على فم الصغيرة كي يسمع زوجها صوت ابنته قبل رحيله عن الحياة، كانت مايا في حالة يأسها تبث القوة لزوجها، في حالة ضعف تبث الأمل، في حالة تشبه الموت تبث الحياة، كان المشهد ناعمًا في ضوء القمر والطفلة صامتة سارحة كأنها تسمع صوت والدها، وقالت مايا: «يزداد حبي لك يومًا بعد يوم»، وقال الزوج: «لا حدود لعشقي لك في المستقبل»، وانقطع الهاتف وفقدته للأبد، وبكت بحرقة وتحول كل شيء لظلام، لكنها مع شروق الشمس صنعت طوافة من الأوعية الفارغة ووضعت عليها طفلتها، وكانت الحاوية تمتلئ بالماء وتكاد تغرق، ورأت مايا نورسًا وشعرت أن الأرض تقترب، وكانت لحظة غرق الحاوية وابتعاد ابنتها عنها من اللحظات الصعبة وهي تردد لابنتها: «بقيت مسافة قصيرة فحسب، كدنا نصل، علينا الصمود، علينا أن نروي قصة نجاتنا، لن يصدقونا، لكنا نعلم أنها حقيقة، نعلم أننا ناضلنا من أجل الحياة، بذلنا ما في وسعنا، لقد أنقذتني يا صغيرتي، أنقذتِ حياتي». كانت تمسك الصغيرة وهي تكاد تستسلم للموت، مشهد مفعم بالحياة والأم تعطي لصغيرتها القوة وتستمد منها الحياة في الوقت نفسه، والنوارس تطوف حولهما، وحين وجدهما صياد وأنقذ حياتهما، كانت مايا تتنفَّس الحياة وهي تحتضن ابنتها، وتترك الماء وراءها، تتجه نحو اليابسة، نحو الحياة، وتُقَبِّل ابنتها، تشكرها لأنها ساعدتها على المقاومة والنضال من أجل الحياة ■