عبق البحر واللؤلؤ يزين مجالس أهل البحرين والخليج

عبق البحر واللؤلؤ يزين مجالس أهل البحرين والخليج

 

ارتبط أهل البحرين والخليج العربي قديمًا بالبحر وصناعة السفن التي كانت تمثل مصدر رزق أساسيًا لهم قبل ظهور النفط والغاز في المنطقة، حيث كان أهل الخليج يعتمدون عليها في رحلات الغوص على اللؤلؤ وصيد الأسماك والتجارة مع الهند وشرق إفريقيا، وقد أولت مملكة البحرين وأبناؤها المخلصون اهتمامًا خاصًا في حفظ هذه الحرفة الأصيلة، التي ترتبط بتراث أجدادهم، من الاندثار. التقينا بأحد القلائل الذين لايزالون محافظين على هذا الموروث السيد عبدالله بوزبون في متجره بسوق المحرق القديم المختص بصناعة السفن والمشغولات التراثية، الذي حدثنا عن هذه الحرفة التي تذكرنا بعبق الماضي. 

 

التقينا بالسيد عبدالله محمد بوزبون في متجره الواقع بسوق المحرق القديم، الذي يقع في نفس موقع عمارة جده الراحل خليل إسماعيل بوزبون، التي كانت لها شهرة واسعة في البحرين، وتمثل معلمًا من معالم مدينة المحرق، حيث اختصت في بيع مستلزمات صناعة السفن كالأخشاب والمسامير بأحجامها وأنواعها المختلفة والحبال ومواد البناء التي كانت تستورد من الهند. 

ويذكر السيد بوزبون أن وزارة الثقافة في مملكة البحرين أعادت إحياء عمارة بوزبون في المحرق وحولتها إلى جزء من تراث البحرين، حيث تمت إعادة بنائها على النمط البحريني القديم ضمن مشروع طريق اللؤلؤ التراثي الذي تشرف عليه وزارة الثقافة لتعزيز المشهد السياحي والثقافي في مملكة البحرين. 

 

مجسمات السفن التراثية

وعن سبب تعلق السيد بوزبون بهذه الحرفة وتمسكه بها قال إن أهل البحرين والخليج أهل بحر ومولعون بالسفن، لأنها مرتبطة بطفولتهم وتراث آبائهم وأجدادهم، ويروي مبتسمًا: عندما كنت صغيرًا اعتدت الذهاب مع والدي إلى عمارة جدي لأشاهده وهو يعمل، وبعد أن أنهيت دراستي الثانوية في منتصف سبعينيات القرن الماضي كان الاختيار هو العمل في بناية جدي الراحل خليل بوزبون الذي تعلمت منه الحرفة، وأسست هذا المحل في عام 1988 تخليدًا لذكراه، وبدأت العمل في التراث بعد أن تعلمت المهنة من جدي ومن القلاليف «صناع السفن»، الذين كانوا يأتون للبحرين من سلطنة عُمان، حيث كنت كثير السؤال والاستفسار منهم عن تفاصيل صناعة السفن وكيفية التعامل مع الأخشاب ومراحل إتمام السفينة إلى أن أتقنت الحرفة بمهارة.

ويسرد السيد بوزبون أبرز أنواع السفن التقليدية التي يصنع مجسماتها، ويبدأ بأشهرها «البوم»، الذي كان يستخدم في رحلات الغوص على اللؤلؤ في البحرين ونقل البضائع وللأسفار البعيدة، و«السنبوك» و«البتيل» و«البقارة» و«البغلة» وهي من أكبر أنواع السفن حجمًا والتي تحمل حوالي 2500 طن من البضائع، و«الجالبوت» التي كانت تستخدم لأغراض التجارة والغوص وصيد الأسماك ونقل الركاب. وعن صناعتها قال بوزبون إن السفن كانت تصنع من خشب الساج المستورد من الهند كما تدخل في صناعة تلك السفن مواد أخرى تجلب من الهند وإفريقيا كالحبال المصنوعة من ألياف جوز الهند والمسامير بأنواعها والقطن وزيت الصل المستخرج من السمك الذي تطلى به السفينة لحمايتها من التلف.

وعلى الرغم من تطور تقنيات الصناعة فلايزال بوزبون يحرص على العمل بالطريقة التقليدية، حيث يسعى جاهدًا من خلال متجره إلى إبقاء الهوية البحرينية الأصيلة، فيصنع نماذج السفن التي تحاكي السفن القديمة بنفس التصاميم ونفس نوع الأخشاب المستخدمة في الماضي. أما عن الإقبال على مجسمات السفن التقليدية فأفاد بوزبون بأن غالبية أهل الخليج عمل أجدادهم في المجال البحري، لذا شاعت بينهم محبة السفن ورؤيتها، لذلك يزيّنون بها مجالسهم ويهدونها لمن يحبون، ومن هنا راجت هذه التجارة التراثية. ويشير إلى أنه تعامل ولا يزال مع الكثير من الشخصيات والمسؤولين ومحبي التراث من مختلف دول الخليج العربي الذين يأتون إلى متجره في المحرق أو يتواصلون معه عن طريق حسابه في الإنستقرام، حيث يطلب البعض مجسمات سفن بمواصفات خاصة.

 وأضاف: قمت بعمل طلبيات خاصة خارج البحرين، منها تصميم دروع تكريم على شكل سفن لمهرجان الساحل الشرقي في المملكة العربية السعودية، كما لدي مشاركات في دولة الإمارات مثل مهرجان الشيخ زايد التراثي في أبوظبي في منطقة الوثبة، حيث أعرض المنتجات التراثية، وأيضًا مشاركات في إمارة الشارقة وفي مملكة البحرين بالقرية التراثية، كما لدي تعاون مع أصحاب الهواية في الخليج والكويت المهتمين بصناعة مجسمات السفن والأبواب الخشبية والصناديق، حيث أزود أغلبهم بالمواد المستخدمة في صناعتها، ومن أبرز الأشخاص الذين تعاونت معهم متحف بيت العثمان في الكويت، وقد تم تكريمي بالكويت من قبل فريق «إكسبو 965». 

وقد قام بوزبون بتنفيذ العديد من مجسمات السفن بمختلف أحجامها التي يصل طول بعضها إلى أربعة أمتار لأفراد وشركات وجهات حكومية، يذكر منها عملًا معروضًا في مطار البحرين الدولي في قاعة المسافرين، بطلب من محافظة المحرق، وتم تقديمها كإهداء لوزارة المواصلات عبارة عن مجسم سفينة بشراع يحمل صورة جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك مملكة البحرين، وصورة سمو ولي العهد الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة. ويذكر بوزبون أنه قدم مجسم سفينة تقليدية للملك تشارلز ملك المملكة المتحدة خلال زيارته لمملكة البحرين في عام 2016 في احتفاليه أقامتها السفارة البريطانية، وكان الملك تشارلز معجبًا ببراعة صناعتها وتصميمها، وقدم بدوره رسالة شكر للسيد عبدالله بوزبون على الإهداء. ويلفت إلى أن حبه لصناعة السفن ليس هواية فحسب بل للحفاظ على التراث البحريني وبعثه من جديد وتطويره والارتقاء به، فالاهتمام بالفولكلور يساهم في نهضتنا الحديثة على أسس وقيم وعادات وتقاليد المجتمع الأصيلة.

 

الصندوق المبيت 

الصناديق المبيتة هي صناديق كانت تستورد في السابق من الهند وزنجبار، وشاع استخدامها في البحرين ودول الخليج العربي في الماضي، لحفظ الملابس والمصوغات الذهبية والأموال والوثائق وغيرها، أما عن سبب تسميته بالمبيت فذلك لأنه كان يحوي الملابس والحلي والعطور وحاجيات العروس، ويوضع في بيت الزوجية الذي ستنتقل إليه العروس قبل الزفاف، فسمي بهذا الاسم كونه يبيت في المنزل قبلها ثم يسلم لها في اليوم التالي من الزفاف كما كان متبعًا في البحرين والخليج. وقد برع أهل البحرين في صناعة تلك الصناديق حتى أصبحت جزءًا من تراثهم، وأصبح اليوم كقطعة ديكور تزين بيوتهم. ويشير بوزبون إلى أن صناعة الصندوق المبيت تحتاج إلى دقة وحرفية في الحفر على الخشب، حيث إن زخرفة الصندوق بالمسامير والنحاس تتطلب جهدًا وعملًا دقيقًا، وتصنع في الغالب من خشب السيسم والصاج، وهي أخشاب جيدة قادرة على المقاومة.

إلى جانب صناعة الصناديق المبيتة يقوم بوزبون بصناعة الأبواب الخشبية التراثية وسجاد الخوص والحصر بمختلف أنواعها وأحجامها المصنوعة من خوص النخيل، مع إضافة ألوان عليها، كما يقوم بصناعة أثاث المكاتب وغرف النوم على التصاميم القديمة، بالإضافة إلى توفير كل ما هو مرتبط بشكل أو بآخر بالبحر والغوص وتجارة اللؤلؤ والمقتنيات التراثية ومجسمات بعض الرموز التراثية المصغرة كدلال القهوة والفخاريات، وغيرها، التي يتم استخدامها كتوزيعات في مناسبات القرقيعان والولادة والأعياد وغيرها من المناسبات الاجتماعية. كما ينفذ بوزبون بعض الطلبات التراثية مثل توفير مستلزمات المجالس الكبيرة من مقاعد تراثية أو الأبواب الكبيرة المنحوتة والمنقوشة يدويًا وزينة المجالس، مثل السقوف والكراسي التراثية وجميع أنواع الإضاءات المصنوعة من الزجاج الملون. 

 

تحويل التراث إلى شيء خالد

تسعى مملكة البحرين للحفاظ على تراثها الشعبي من خلال إنشاء بعض المبادرات التي ترعى الثقافة الشعبية والحرفيين، ومنها مشروع طريق اللؤلؤ الذي يوثق تاريخ حقبة زمنية مهمة في تاريخ مملكة البحرين، حيث كان اقتصادها يعتمد على اللؤلؤ. ويعكس المشروع هوية المجتمع البحريني ويوثق صور الحياة البحرينية القديمة وينقل إلى الأجيال الحالية والقادمة قصة الحياة على أرضه، والكشف عن القدرات الإبداعية للإنسان البحريني، ليتناقلها جيلًا بعد جيل، وهو أمر له أهميته في تأكيد روح الانتماء الوطني لدى الجيل الناشئ والاعتزاز بتراثهم الشعبي.

 يقول بوزبون إن فنون العمارة الحديثة في البحرين جمعت لمسات من عناصر الفن الشعبي سواء في البناء أو الزخرفة والنقوش. وأضاف أن بعض الفنانين التشكيليين يستلهمون من الفلكلور الشعبي ويضيفونها إلى أعمالهم، وأنه يحرص عند الاقتباس على الحفاظ على أصل الشيء وروحه وطابعه من غير تشويه، وأفاد بأنه سبق وأن اقتبس بعض النقوش من الأبواب القديمة التي شاهدها في متحف البحرين الوطني، ويأمل بوزبون أن يزيد الاهتمام بما تبقى من مفردات حياة البحرينيين وأن يتم جذب الجيل الحالي لهذه الموروثات ■