الفكر الأكاديمي الجامعات العربية من التصدع إلى التحصين
لا يحتاج تراجع الجامعات العربية إلى من يدلّ عليه؛ فقد بات واضحًا لكل ذي عينين، فلم تعد الجامعة بقادرة على تقديم الخريج المثقف الذي يمكنه تثقيف غيره وتنويره والارتقاء به، لم تعد معنية بما يمور في المجتمع من قضايا وانشغالات، لقد انقطعت الصلة أو كادت بين ما يُدرّس داخلها وبين المجتمع... وهذا أمر قد طال بأكثر مما ينبغي، ويحتاج إلى النقاش حوله، فمن الضروري أن نعي خطورة ما نحن فيه، ومن الضروري أن نبحث عن حل للخروج منه. هذا بالضبط ما يقوم به كتاب «الفكر الأكاديمي... الجامعات العربية من التصدع إلى التحصين» للدكتور عبدالرحمن عبدالسلام، الذي صدر قبل أيام عن دار البشير في القاهرة.
يصارحنا الدكتور عبدالرحمن بأزمة الجامعة ويضع بوصلة للخروج منها عبر قسمين متصلين ينقسم إليهما الكتاب: يضم الأول منهما ثلاثة فصول، يناقش الأول الفكر الأكاديمي في الجامعات المدنية، ويتناول الثاني: الفكر الأكاديمي في المعاهد العسكرية، ويقدم الفصل الثالث مقاربة للفساد الأكاديمي وطرق مقاومته... أما القسم الثاني من الكتاب فيضم مجموعة من المقالات الحرة التي تتناول تفصيلًا بعض المفاهيم والقضايا التي تتصل بكثير مما طُرح في فصول القسم الأول، مثل ثقافة أستاذ الجامعة، والتفكير النقدي، وفلسفة التعليم وعودة الروح كيف نصنعها... إلخ.
وعلى امتداد الكتاب يؤكد الدكتور عبدالرحمن على أن الجامعة لم تكن يومًا مجموعة من المعاهد المنفصلة عن قضايا المجتمع وشؤونه، ولم تكن مجرد مؤسسة تلقن طلابها المهارات التي تمكنهم من الالتحاق بسوق العمل فحسب، وإنما هي قبل ذلك وبعده مكان لغرس القيم الثقافية والعصرية والحضارية، ولم يكن الأستاذ الجامعي مجرد معلم، وإنما هو إلى جوار ذلك باحث قادر على التفاعل الخلاق مع حقله المعرفي وما يجري فيه من تحديث، وقادر في الوقت نفسه على مناقشة قضايا المجتمع وتناولها في بحوثه... بل إن عبدالرحمن عبدالسلام يمنح الأستاذ دورًا رسوليًّا لا تقوم الجامعة برسالتها إلا به.. إذ يقول:
«القول الحق في حق أستاذ الجامعة، هو أنه رسول المعرفة التي ينتجها أصيلة من لدنه، وهو نبي العلم الذي يتحنّث في محرابه، وهو منبع الرؤى والنظريات، والأفكار والإيديولوجيات، وهو منظومة الأخلاق، وأنموذج القيم السامية، وهو بيت الخبرة ومبتدع المنهج، ومعبدُ السبل إلى استشراف المستقبل وتأطير آفاقه المأمولة» (ص14).
فالفرضية الأساسية التي يقوم عليها هذا الكتاب هي أن الجامعة تقوم بدور تنويري، وأنها قاطرة التمدن والتحضر والرقيّ، وأن هذا الدور ليس مجرد طموح أو تصور مثاليّ، ولكن هذا ما يؤكده تاريخ الجامعات في العالم، ومنها الجامعات العربية في عقودها الأولى، ولكنها اليوم لم تعد تقوم بهذا الدور... وهذا يعني أننا إزاء فرضية تتساءل حول أسباب التحول والتغير التي جعلت الجامعة معزولة على هذا النحو.. فرضية تتساءل حول الأستاذ «ما هويته؟ وأي فكر يحمل في رأسه؟ وما الفلسفة التي يؤمن بها؟ وما العقيدة التي تعتمل في صدره في حرمه الجامعي؟ ما مبادئه؟ وما مقاصده؟... إلخ» (ص16).
تذكرنا محاولة عبدالرحمن عبدالسلام هنا بمحاولة طه حسين التي سجلها كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» 1938م، حيث قدم العميد أفكارًا كبيرة حول الجامعة ودورها، وحول المتعلم والمعلم ودورهما الثقافي والحضاري، كما قدم برنامجًا للنهوض عبر التعليم وبالتعليم، وناقش هوية الأمة المصرية بما هي جزء من ثقافة البحر المتوسط... إلخ. لقد تخلص كتاب «الفكر الأكاديمي» من كثير من القضايا السجالية التي انشغل بها طه حسين، واكتفى بالكلام حول الجامعة بما هي وحدة ملموسة، وبما أن الكلام حول دورها ونهوضها لا خلاف حوله.
الأمية الأكاديمية
لعلّ هذا المفهوم يكون السبب المباشر في تراجع الجامعة، والأمية الأكاديمية طبقًا لـ «أسعد وطفة» هي «عدم قدرة أعضاء الهيئة التدريسية على التفاعل الفكري الإنساني في الوسط الأكاديمي، الذي يترافق عمليًا بعدمية الإنتاج العلمي، وغياب إمكانيات التفاعل والتخاصب بين الذات والآخر في الوسط الأكاديمي وفي محيطه الخارجي، كما تعني عدم القدرة على مواكبة مستجدات المعرفة الإنسانية الحية في مختلف جوانب الحياة الإنسانية، وعدم القدرة على التجاوب المعرفي والأخلاقي مع معطيات الحضارة ومنجزاتها الإنسانية. وتمثل هذه الأمية نسقًا من سمات التصلب الفكري والجمود العقائدي، وهيمنة اللامبالاة وضيق الأفق، مع ضعف وتيرة الإنجازات العلمية في ميدان التخصص، وغياب الإبداع في المجال الثقافي والمعرفي العام» (ص42).
ويربط المؤلف بين هذه الأمية الخاصة والأمية الثقافية، باعتبارها الأمية الأوسع، التي بسببها يعجز الفرد عن فهم المعطيات الثقافية للمجتمع الذي يعيش فيه، فضلًا عن التفاعل مع قضاياه... والحديث عن الثقافة يقتضي بالضرورة الحديث عن المثقف بما هو فاعل حقيقي في تنمية الوعي العام على كافة المستويات وفي مختلف الحقول والفنون، ومن هنا يأتي الفرق بين السياسي الذي يسعى إلى السيطرة على الجماهير عبر شعار «ليس في الإمكان أبدع مما كان»، وبين المثقف الذي ينزع نحو الكمال أو نحو مقاصد عليا لا تتوقف عن النمو والتسامي على الواقعي الذي ينغمس فيه السياسي.
فالمثقف هنا مشغول بالدور الاجتماعي، أو هو مشغول بقضايا مجتمعه، بقدر ما هو مشغول بالبحث عن الحقيقة وتشكيل الحلم العام نحو دوائر الارتقاء والتقدم. والوعي «الذي يعتمل في ضمير المثقف ذو سيرورة تحوليّة وتغيرية تنمو وتطرد باستمرار؛ لأنه مسكون بهاجس الحلم، وطامح إلى الأمثل الذي لا يتحقق بالكلية ولا يكتمل بتمامه» (ص45).
الفكر الأكاديمي
وهذا أهم مفهومات الكتاب، حيث تتأسس عليه وتتفرع عنه مقاصد الكتاب ومقاصد النهوض الأكاديمي المرجوّ معًا، والفكر الأكاديمي أكبر من مجرد الرؤية والرسالة التي تصنعها الجامعات والمعاهد، إنه يتجاوز ذلك إلى المقاصد العليا للجامعة في علاقتها بالمجتمع، وعليه فالفكر الأكاديمي هو ذلك الوعي الخاص «المؤسس على مرجعية فلسفية تربط الجامعة بمشروع نهضة مجتمعها، بل وأمتها ضمن سياق الدولة محليًّا، وضمن سياق العالم في تنازعه الصراعي والحضاري الإنسانيين، حيث تنفتح الآفاق فيه على ما هو أكبر من أغلوطة سوق العمل وسد حاجيات الوظيفية للمجتمع؛ إنه الفكر المتوثب صوب صناعة الإنسان، وصقل عقله وبناء شخصيته العامة، وتمكينه من منهجية البحث واكتشاف الحقائق؛ دونما لبس، ومقارعة الأباطيل ودفع الأراجيف، وإنتاج المعرفة والثقافة والعلم...» (ص52).
ولا يمكن استيعاب مثل هذا التصور للفكر الأكاديمي بمعزل عمّا يصفه الدكتور عبدالرحمن بـ»البعد الرسولي» للجامعة، أي غياب الإيمان الأكاديمي بأن له رسالة سامية، تتصل بالقدرة على إصلاح الفرد وتثقيف عقله وإصلاح المجتمع وتنويره، وإذا كان الواقع الأكاديمي قد غابت فيه هذه الغاية على نحو غير مسبوق فإن هذا يضعنا مباشرة أمام المفهوم النقيض، وهو «الأمية الأكاديمية» التي يعود إليها تراجع الجامعة وتراجع المجتمع معًا.
وفي فلك «الأميّة الأكاديمية» تنبثق أكثر من «أمية» تدور حولها وتتداخل معها في الوقت نفسه، وهي:
- «أمية التفكير» ويقصد بها غياب التفكير النقدي أو المنهجي بما هو مجموعة من الآليات والأداوت العقلية والمنطقية التي تفضي بنا إلى الكشف عن الحقيقة، فنقبل لعلة ونرفض لعلة.
- «أمية الثقافة» ويقصد بها الخروج من ضيق المقررات المنهجية إلى براح الثقافة وسعة المعرفة.
- «أمية التدريس»، وهي أمية أفضت إلى مركزية الأستاذ المعرفية، ودفعت الطلاب إلى استظهار ما يلقنه إياه من معلومات ومعارف، ويدور حولها عدم إتقان اللغة الأم فضلًا عن إتقان لغة أجنبية أو أكثر.
- «أمية القياس»، وتدور حول الجهل بالمقاصد وغياب الرؤية عن فلسفة الامتحان التي تعمد إلى قياس الحفظ والاستظهار، وعليه فالقياس الحق ينبغي «أن يتوجه إلى معيارية الشخصية العامة في كفاءاتها المختلفة: فكرًا وتفكيرًا وقيادة وتخصصًا وثقافة وحضارة ومنهاجية... إنه قياس للصلاح... الصلاح بمعنى الكفاءة والقدرة والنوعية والتميز، والفرادة والنقد، والإبداع، ورباطة الجأش في حل المشكلات والقدرة على حلها... إلخ» (ص62).
العقيدة الأكاديمية... المبادئ والمقاصد
مفهوم «العقيدة» شائع في كثير من حقول المعرفة: الدينية والسياسية والفكرية والعسكرية وإن شاع اقترانه بالأخيرة في زماننا، وربما لهذا احتاج الدكتور عبدالرحمن إلى تعريف المفهوم في الحقل العسكري، لينقله بعد ذلك إلى الحقل الأكاديمي، فإذا كانت العقيدة العسكرية هي «مجمل المفاهيم والمبادئ والسياسات والتكتيكات والتقنيات والتدريبات والأساليب المستخدمة أو المتبعة لضمان كفاءة تنظيم وتدريب وتسليح وإعداد وتوظيف المؤسسة العسكرية لوحداتها التكتيكية والخدمية» إذا كان ذلك كذلك، فإن العقيدة وفيما يخص الفضاء الأكاديمي هي: «جملة المبادئ ذات الأمد الإستراتيجي البعيد؛ التي تحكم المخيال الأكاديمي، وتقع منه موقع اليقين اللازب، وما يتفرع عنها من مقاصد تكتيكية، وإجراءات تنظيمية، تكون واضحة في أهدافها، متضافرة فيما بينها، بحيث تُنجز رسالة الجامعات تجاه مجتمعاتها ودولها وإنسانيتها في العلم، والثقافة والحضارة، وفي صناعة الإنسان والمكان على النحو العصري الأمثل» (ص65).
وإذا تجاوزنا عن الدلالة الفضفاضة لمفهوم العقيدة هنا فإن تنزيل المفهوم نفسه على الفضاء الأكاديمي يحتاج إلى مراجعة، ليس لأن دلالة العقيدة ذاتها لا تلائم هذا الفضاء فحسب وإنما لأن ما يقدمه هذا التعريف هنا تنجزه اللوائح والقوانين التي تنظم سير العمل الجامعي وتربط بين الآليات والأهداف فيما يتعلق بطبيعة عملها وفي رؤيتها لما يجب أن يكون عليه الدارسون بها... ورغم ذلك فمن المهم الإنصات جيدًا لما يقدمه الكاتب هنا من مبادئ تحكم هذا التصور وما يتفرع عن هذه المبادئ من مقاصد وغايات.
العقيدة الأكاديمية تقوم على ثلاثة مبادئ هي:
1 - الفكر الأكاديمي... والكلام فيه يطول والغاية منه أن تصبح الجامعات كيانات طليعية ناهضة، بوصفها معاقل تضم النخب الفكرية والعلمية، وأنها معنية بصناعة الإنسان العصري وفق شرائطه الحضارية، وأن تصقل شخصيته، وأن يسود بها التفكير النقدي الذي يصل طلابها بمحيطهم المحلي والعالمي (ص83).
2 - الاستقلال الأكاديمي.. يرتبط هذا المبدأ بالحرية الأكاديمية، وهو المبدأ الذي حاولت الجامعات العربية في أوائل القرن الماضي ترسيخه، ونجحت في ذلك إلى حد بعيد.
3 - الحرية الأكاديمية... يتصل هذا المبدأ بسابقه، وكان يمكن أن يجمع معه، ورغم ذلك، فإننا نلاحظ أن هذا المبدأ ينزع إلى التأكيد على استقلال الجامعة عن السلطة التنفيذية إداريًّا، وذلك لتتمكن من صقل طلابها على النحو الذي يمكنهم من اكتساب مهارات التفكير النقدي.
وهذه هي مبادئ العقيدة الأكاديمية، وعنها تتفرع سبعة مقاصد وهي:
أ- مقصد العلم والمعرفة (الجامعة دينها العلم).
ب- مقصد التفكير النقدي (أي حرية التفكير والنقاش المنطقي الحي والحر بعيدًا عن الحشو والتلقين).
ج- مقصد المنهجية والبحث العلمي.
د- مقصد الثقافة والحضارة.
هـ- مقصد التربية والأخلاق.
و- مقصد المشاركة الاجتماعية الإيجابية.
ز- مقصد التأهيل للمستقبل.
خلاصات
لا شك أن الجامعة وحدة مهمة من وحدات التنوير والتفكير المؤثرة، ولكنها ليست الوحيدة ولعلها ليست الأكثر تأثيرًا، فنحن نعيش في عالم مختلف عن بدايات نشأة الجامعة في القرن الماضي، هناك مؤثرات عديدة دخلت على خط تشكيل الوعي الفردي والجمعي، منها ما كان موجودًا من قبل إنشاء الجامعة، وظل موجودًا ومؤثرًا حتى الآن، كالجوامع والكنائس مثلًا، وهي مؤسسات تقدم في مجتمعاتنا رموزًا مؤثرة- بصرف النظر عن تقييمنا لهذا التأثير- في بنية الوعي العربي، ومنها ما هو جديد، كالصحف والمجلات والفضائيات بتنوعاتها ومواقع التواصل الاجتماعي والأندية وبيوت الموضة... إلخ.
ما أقصده تحديدًا أن الجامعة باتت الآن وحدة من ضمن شبكة هائلة من وحدات تشكيل الوعي، ومن الصعب أن نعول عليها وحدها في إحداث النهوض المنشود.
ورغم ذلك فالكتاب يقدم على مستوى المفاهيم وعيًا كبيرًا بتراجع الجامعة وواجهة بشجاعة ما ينال منها ومن دورها العلمي والاجتماعي، فأفرد فصلًا كاملًا لبحث العلاقة الدقيقة بين الفكر الأكاديمي على نحو ما بيناه ومظاهر الفساد الإداري والعلمي التي تحول دون إنجاز هذا الفكر، ولهذا وغيره يستحق هذا الكتاب النقاش الموسع حول ما جاء به ■