بروتين من النفط!
للطعام في مختبرات مراكز البحوث حكايات وطرائف. ففي الأربعينيات من القرن الماضي، مثلاً، كان حلم كل من المستهلك ومربيي الدواجن أن تتطور وسائل تربية وإنتاج الدواجن لتعطي حجما أكبر من لحم الدجاج؛ وعبر الزعيم السياسي البريطاني ونستون تشرشل عن هذا الحلم فقال: آن الأوان لأن نكف عن إصرارنا على تربية الدجاجة كاملة، فنحن لا نأكل إلا صدرها أو فخذها؛ فلماذا لا يقتصر اهتمامنا على إنتاج هذه الأجزاء من الدجاجة؟
ولم تلبث فكرة تخليق لحم بالمختبر أن بدأت تداعب خيال وطموحات العلماء، وعلى نحو خاص في قطاع أبحاث الفضاء، على أمل إيجاد طرق توفر لرواد الفضاء لحوماً طازجة يستغنون بها عن اللحوم المحفوظة المخلوطة بالحبوب.
ولعل أغرب وأطرف محاولات إنتاج البروتين هي تلك التي اتجهت لاستخلاصه من النفط؛ وقد بدأت تلك المحاولات، كما في كثير من الاكتشافات العلمية، بملاحظة ظاهرة طبيعية؛ عندما تكررت شكاوى العاملين في حقل الطيران من أن خزانات الوقود في الطائرات تتعرض جدرانها الداخلية لهجوم مكثف من كائنات دقيقة تمثل خطرا حقيقيا على حياة المسافرين جواً؛ إذ إن هذه الكائنات تؤدي إلى انسداد مجاري الوقود في الطائرات، وتسبب الكثير من حوادث الطيران. وعلى الفور، بدأ علماء الأحياء الدقيقة (الميكروبيولوجي) في دراسة الظاهرة؛ فكان من الطبيعي أن يتم التعرف، أولاً، على ماهية هذه الكائنات، فوجدوا أنها أنواع من الخمائر والفطريات، لها القدرة على النمو في هذا الوسط النفطي. وهنا، اتخذت الأبحاث اتجاهاً آخر: فلماذا لا ندرس إمكانيات واحتمالات زراعة هذه الكائنات على مشتقات النفط، ونتعرف على العوامل المساعدة على نموها وتكاثرها، بحيث تمثل فتحاً جديداً في تكنولوجيا النفط، وفي نفس الوقت، تحمل البشرى لملايين الجوعى في العالم، حالياً ومستقبلاً؟
وتوصلت التجارب إلى أن الغاز الطبيعي هو أهم مشتقات النفط التي يمكن استخدامها في إنتاج البروتين النفطي. واكتشف العلماء أكثر من ألف نوع من الكائنات المجهرية التي لها قابلية النمو على مشتقات النفط. فمن المعروف عملياً أنه لا يمكن تخليق البروتين من مكوناته الأساسية، في المختبر، بشكل كيماوي خالص. إننا نحتاج إلى وسيط لهذه العملية، وهذه الكائنات الدقيقة التي تشتهي مشتقات النفط هي التي تقوم بدور الوسيط؛ ويمثل معدل نموها الكبير عاملاً كبيراً في تأكيد أهميتها في عملية تخليق البروتين من النفط. وإذا قارنا معدل نمو هذه الكائنات بمعدل نمو بعض الحيوانات الكبيرة نجد أن:
1 – العجل الذي يصل وزنه إلى 400 كجم، ينتج نصف كجم من البروتين يومياً، يضاف إلى وزنه؛ بينما وزن 400 كجم من الخميرة تنتج ألف كجم من البروتين في نفس الفترة الزمنية، عند توافر الظروف الملائمة للنمو.
2- يتضاعف وزن الكتكوت خلال الأسابيع الأولى من عمره، بينما تضاعف الخميرة وزنها خلال ساعات قليلة.
وقد ثبت بالتحليل أن هذه الكائنات الحية الدقيقة تحتوي على بروتين بنسبة 60-70% من وزنها؛ ووجد أيضاً أن هذا البروتين لا يقل جودة عن الأنواع الأخرى، فلم تظهر أية أعراض ضـارة أو تسمم على الحيوانات التي تقتات عليه، ولا على الإنسان الذي يأكل لحوم هذه الحيوانات. كما توصلت التجارب في المعهد المركزي لبحوث الطعام والتغذية، في هولندا، على العجول والدواجن، إلى أن بروتين النفط مقبول لدى الحيوانات، بعد خلطه مع أنواع البروتين الأخرى في العلف، وأن هذا البروتين الجديد مشابه في تركيبه الكيماوي للبروتين النباتي المنتج من فول الصويا، وقريب إلى تركيب البروتين السمكي.
وتتلخص عملية التصنيع في أن الكائنات المجهرية تقوم بتحويل المواد الأولية الموجودة في الوسط الذي تعيش فيه، كغاز الميثان، إلى مواد كيماوية أكثر تعقيداً، تنتهي بالبروتين. وبعد هذه العملية، التي تشبه في طبيعتها عملية التخمر العادية، يتم فصل النواتج باستخدام أجهزة الطرد المركزي، حيث نحصل على البروتين الخام الذي يتم تنقيته وتجفيفه بعمليات ميكانيكية وطبيعية، تحافظ على صفاته الكيماوية وقيمته الغذائية.
وهكذا، نرى أن العلم لم يتوصل، بعد، إلى تقديم طبق من اللحم البترولي للإنسان، ولكنه يقدم نفس القيمة بشكل غير مباشر؛ ولا نستبعد أن يصبح هذا البروتين صالحًا للاستخدام المباشر في مطابخنا، مستقبلاً.