دبي آية الإفلات من قبضة الأرض والزمن

دبي آية الإفلات من قبضة الأرض والزمن

ما أجمل أن تخلق من نبتة صغيرة حقول من النباتات المثمرة، وما أبدع أن تنطلق من فكرة مبسطة حزمة أفكار مثلى متعددة تفضي إلى عالم جمالي في مصلحة الأوطان والشعوب، يقينًا بأن الأفكار كالنبتة تنمو وتتشعب وتثمر، بيد أن هذا لا يتحقق إلا بعد عمل دؤوب وجهد متصل، يخدماهما الوعي والإرادة، العاملان المهمان اللذان يجسدان مقصد الفكرة وحجر الزاوية لبناء القدرات الابتكارية... وهذا السياق نجده أصفى ما يكون حينما يحط المرء رحاله على شط الخليج العربي في إمارة دبي، التي أخذت من الماضي بما لا يستوجب التوهان، عملًا بالمثل الشعبي «مَن نسي قديمه تاه»، ورسمت في الحاضر ما يبلغ سقوف العالم، وهي على خطى المستقبل بما يتجاوز الخيال البشري لتنافس نفسها بنفسها. 

 

 

لما كانت الأشعة الغائرة في أصيل ذلك اليوم، تنشر خيوطها الذهبية في الأرجاء، وقبل أن تحط بنا الطائرة القادمة من السودان في مطار دبي، كانت قد حلقت بنا لدقائق معدودات في سماء الإمارة، كنت أنظر من خلال النافذة الصغيرة إلى الأرض إن كان ثمة ترابها، حيث سوامق البنايات وشواهق العمارات، ومياه البحيرات المتعددة، والشوارع الأسفلتية، غطت على أديمها، وجزيرة نخلة الجميرة كما النخلة تمامًا، تقبع في المياه المنسدلة من الخليج العربي، مشعة كالبلَّور المتراص على سطح منضدة فضية، ما يشي بأن كل شيء مدروس ومخطط له بدقة وإتقان متناهيين، ما يفتح الذهن ونوافذ الخيال لاستكشاف مواطن الجمال في إمارة الأحلام.

 

جواد تاريخي

في تلك اللحظات كنت أتأمل القدرة المذهلة والإرادة الخلاقة التي حولت الإمارة الصغيرة إلى عالم كبير، مزدان بكل ما يروق الأعين، كادت عقاراتها أن تلامس أذيال الطائرة المحلقة بنا في الفضاء، وكنت أتخيل تلك الشخصية التي حوت الوعي الفكري الإيجابي على أن تجعل منها دنيا نابضة تكتسي بغلالة من الجمال، وتسوقها على طريق النهوض لتمتطي صهوة جواد عربي تاريخي جامح لبلوغ الكمال، وتقفز بها إلى مصاف العالمية، كأنما صممت لتكون وحدها دون سواها، على قناعة بأن المال وحده ليس كافيًا لعمليات البناء والتعمير، لا سيما أن كثيرًا من الدول والشخصيات المبعثرة لا تحسن استغلال الموارد وتدفق الأموال وإن كثرت. 

قبل أن يؤذن لنا بالخروج من جوف الطائرة، لاحظت من خلال النافذة الصغيرة عشرات الطائرات لمختلف شركات الطيران العالمية في حالاتي إقلاع وهبوط متتابع، وأخرى رابضة في المدرجات الرحيبة في المطار الوسيع، وما أن فارقنا الجوف حتى دلفنا إلى داخل المطار، لنشاهد كل شيء يتخذ من العولمة مأخذًا جديدًا فريدًا ومريحًا، ويتم برزانة، رغم أن حركة القادمين لا تهدأ، وتبدو على أكثرهم علامات التنقل بين مطارات العالم. 

كنت أرقب ذلك، على يقين بأنه العنوان الذي يجلي فحوى الخطاب، ألم يقل المثل «الخطاب أو المكتوب يكفيك عنوانه»، كل التعاملات تجري منسابة بهدوء وسلاسة، لا شيء يجرح الصمت إلا همهمات البعض بلغات متنوعة ومختلفة يصعب إدراكها. ويحدثنا التاريخ بأن المطار لم يكن قبل 40 عامًا أو يزيد إلا مطارًا صغيرًا، محدود المدارج، يستقبل ويودع عددًا ضئيلًا من الطائرات. لكن الاستغلال العقلاني والأمثل للموارد جعله قرة عين في وقت ليس بكثير، ومنافسًا قويًا صارخًا لأكبر وأعرق وأحدث مطارات العالم، يستخدم أحدث الأجهزة والأنظمة والمعدات الإلكترونية المختلفة لتسهيل الحركة والمراقبة فيه، ومزودًا بكافة وسائل الراحة التي يحتاجها المسافرون والزوار، الذين يبلغون عشرات الآلاف في اليوم.

على ذكر المطار والطائرات لفت انتباهي أيضًا العشرات من الطائرات تحمل شعار «طيران الإمارات»، وبالمناسبة استطاعت دبي أن تحقق طفرة عالمية عالية في هذا المجال، وأن تخطو خطوات متصاعدة في عالم الطيران بامتلاكها لواحدة من أكبر شركات الطيران في العالم، بأسطول يتجاوز 250 طائرة، وكذلك الشركة الاقتصادية الرائدة «فلاي دبي».

 

الخيال المعماري

بعد اكتمال إجراءات الدخول للمدينة بأسرع مما نتوقع، اتجهنا على الفور إلى الباب المفضي إلى خارج المطار، وكان الخروج في حقيقته دخولًا إلى عالم جديد مختلف، وكان حالنا حال من وقف أمام شاشة سينمائية عملاقة تعرض المشاهد الأولية لفيلم من أفلام الفنتازيا والخيال المعماري الخلاق، لأحدث الأطرزة المعمارية في العالم، وسرعان ما أدركنا غرائب الحياة حينما تنقل المرء من القاع إلى القمة، من الشقاء إلى الراحة، ومن البؤس إلى الرغد والرفاهية، وعندئذٍ بدأ فصل جديد من فصول الرحلة الماتعة.

كنا نسير نحن الستة خلف ممثل الشركة التي نقصدها، لتأخذنا السيارة من بوابة المطار إلى الفندق المعد لإقامتنا، هذه الحركة العجولة أتاحت لنا الفرصة كي نتلمس السمات الأساسية لأوجه الحياة العصرية، واليقظة العمرانية التي تمثل نموذجًا حضاريًا باذخًا مبهرًا في دبي. 

حالة من الجذب والذهول تأخذ الناظر في ذاك المساء الآخذ بفرد جناحيه في الفضاءات الملونة من أول وهلة، حيث الأبراج العالية التي تناطح السحاب بتصاميم مختلفة وألوان جاذبة، وأنوار الثريات الساطعة في كل مكان. والسيارة تعبر بنا الشوارع العريضة المتوهجة، مخترقة غابة الأبراج والأضواء والزجاج، وكأننا موعودون بنهار آخر في ليل جديد، في مدينة قادرة على مخاطبة التفوق في أعتى البلدان.

 

العالم في إمارة

كانت زيارتنا لإمارة دبي خاصة بالتعرف على نظم الاتصالات البحرية الحديثة في إحدى الشركات التي تحتضنها المدينة، وليس بغرض الكتابة ولا النزهة، لكن ما العمل عندما يكون المرء كما الشاعر الذي يجد نفسه أمام هيفاء صارخة الجمال؟ 

لا أخفي شعوري بأنني منحاز في كل الأحوال لجماليات المكان، وحينئذٍ ما كان غريبًا أن أكون متنازعًا بين المقصد الرسمي، وبين ما هو شخصي وجمالي، علمًا بأن عامل الزمن هو الأهم في هكذا حالة، خاصة أنني من هواة زيارة المدن وتدوين انطباعاتي عن سر وتفاصيل جمالياتها، كما لا أخفي أن في كل رحلاتي للبلدان والمدن التي زرتها أحاول استغلال المركبات العامة، والتجول قدر المستطاع سيرًا على الأقدام، لكونه أقصر الطرق وأجداها لامتلاك القدرة على الاستئناس مع البيئات الجديدة، وللاستفادة من التجربة والتريض، فضلًا عن كونه الوسيلة الأنسب للتعرف على طبائع المدن، وإدراك مداخلها ومخارجها وشوارعها ومعالمها وحياة الأحياء فيها، ومجمل نشاطاتهم اليومية.  

 

على شط الخليج

قبل أن نطوف في أرجاء الغابة المترامية الأطراف من الزينة، كان لابد أن نغوص في بطون المظان والكتب حتى نستجلي وقائع التاريخ، ونستكشف صحائف الإمارة التي جاد الزمان بها على شط الخليج العربي، ولم نمض بعيدًا حتى أدركنا أنها قديمة لها تاريخ بعيد على الشط.

والحقيقة أن الإنسان عرف الخليج نفسه منذ أدرك عالم التجارة والملاحة البحرية، من عصور غابرة ترجع إلى عشرات القرون قبل الميلاد، وقد اتخذ أسماء عديدة خلال الحقب الزمانية التي مرت، وجاء في مؤلف (عمان وتاريخها البحري) ما يلي: «كان تجار الخليج يستخدمون الأختام لتحديد ملكية السلع، وكان أول من ابتدع طريقة تدوين المعاملات التجارية بالكتابة هم سكان العراق القدماء»، فيما يمتد تاريخ دبي إلى قرون عدة - كما أشارت بعض المصادر-، وذكرها لأول مرة عام 1095م العالم الجغرافي والمؤرخ الأندلسي عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي المعروف بـ(أبو عبيد البكري 1014م–1094م) في كتاب (الجغرافيا)، ثم ذكرها بعده المؤلف (ياقوت الحموي (1179-1229م) في «معجم البلدان» - الجزء الثاني - ص 435 - بقوله (الدبا بفتح أوله والقصر؛ والدبا الجراد قبل أن يطير، قال الأصمعي سوق من أسواق العرب)، بينما أورد ذكرها الأديب المؤرخ محمدأبوالفضل جمال الدين (ابن منظور 1232 - 1311م) في «لسان العرب» (الدبي... الجراد قبل أن يطير، وقيل الدبي أصغر ما يكون من الجراد والنمل) إلى أن يذكر أن (دُبَيّ... موضع لين بالدهناء يألفه الجراد فيبيض فيه.. ودَّبَي موضع واسع... ودَبَي سوق من أسواق العرب)، فيما لم تخل الأقاويل والسير الشعبية من ذكر اسمها، وهذا يبين أن لدبي تاريخًا قديمًا. 

وكان قد زارها عام 1580م تاجر اللؤلؤ الرحالة الايطالي (جاسبيرو بالبي 1550-1624م) وذكّر اسمها وكانت تشتهر حينذاك بتجارة اللؤلؤ، ويعتمد سكانها في حياتهم على الصيد البحري وبناء القوارب وما يتصل بمياه الخليج.

فيما يعود تأسيس دبي كإمارة - كما تشير الأدبيات - إلى عام 1833م عندما استقرت مجموعة من قبيلة بني ياس بقيادة آل مكتوم عند منطقة الخور، ثم صارت مع بداية القرن العشرين ميناءً مميزًا، ومقصدًا تجاريًا دائمًا لكثير من التجار. ولما أصدر سمو الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم قرارًا بتعميق الخور وتنظيفه ازدادت قدرة الميناء على استيعاب المزيد من السفن، ما أدى إلى ازدياد حجم البضائع الواردة، وانتعاش الحركة التجارية، لتكون مركزا مهمًا رائدًا لإعادة التصدير.

وفي عام 1966م بلغت دبي مبلغًا مشهودًا ومشعًا في تاريخها، باكتشاف منابع النفط، إذ شكل نقلة نوعية وطفرة هائلة في مسيرتها، وكان له تأثير قوي على أهل المنطقة، حين جعلت حكومة دبي الذكية أن أهم أولوياتها استثمار الواردات النفطية في تطوير البنى التحتية بتشييد المدارس والمستشفيات، وشق الطرق، وإرساء دعائم شبكة المواصلات والاتصالات الحديثة، كما تم تطوير وتحديث مطار دبي الدولي.

في مطلع سبعينيات القرن العشرين عمل الشيخان راشد بن مكتوم وزائد بن سلطان آل نهيان بإرادة قوية وعزيمة لا تلين عملًا خالدًا، بتحقيق الوحدة لإمارات الخليج دون استثناء، وانضواء دبي تحت لوائها بجانب إمارات أبو ظبي والشارقة وعجمان وأم القوين والفجيرة، ليتم الإعلان في عام 1971م عن تأسيس (دولة الإمارات العربية المتحدة) لتنضم إليهم بعد عام في (1972م) إمارة رأس الخيمة لتصير الإمارة السابعة المكونة للاتحاد، فيما بات لكل إمارة نظام خاص بها في إدارة شؤون حكمها واستغلال مواردها وما إلى ذلك في إدارة الحكم. 

لكن الأخذ بناصيتي الاسم والتاريخ، لا ينسينا أن نقف مليًا نتأمل جغرافيا ثاني أكبر الإمارات العربية المتحدة، إذ تقع على الساحل الشرقي للخليج العربي بطول يبلغ نحو 72 كيلو مترًا، وتحدها أبو ظبي من الجنوب، والشارقة من جهة الشمال الشرقي، بينما تبلغ مساحتها ما يربو على 4000 كيلومتر مربع، وتعد دبي العاصمة الاقتصادية لدولة الإمارات العربية المتحدة، والمركز التجاري الأول لأهل الخليج قاطبة. أما في طبيعة تكوينها فهناك «خور دبي» الذي يخترق المدينة ممتدًا إلى الداخل بنحو خمسة عشر كيلومترًا، وكان في الماضي يشكل ميناءً طبيعيًا للمنطقة، وأدى لاحقًا إلى بروز دبي كمركز لصيد الأسماك واللؤلؤ والتجارة، ثم غدا الآن معرضًا مائيًا سياحيًا وتجاريًا فسيحًا لا يجارى، غنيًا بكل ما يفرض الإعجاب والدهشة.

 

لؤلؤة الخليج

في وسع الذين يزورون إمارة دبي أن يتعرفوا على الكثير في أي وقت ممكن، ويشاهدوا أكثر الإنجازات إشراقًا وجاذبية، وهذا ليس أمرًا عسيرًا، فمنذ اليوم التالي لوصولنا خرجت لأتجول في المدينة، لم أكن أحتاج إلى من يحدثني أو يدلني على شوارعها ومعالمها، إذ إن هناك دليلًا سياحيًا يمكن الحصول عليه من مراكز الاستعلامات السياحية، كما أن اللافتات التعريفية المعلقة تبين الشوارع والدروب واتجاهات المناطق التي يمكن أن يمر عبرها الزائر، أو التي يريد الوصول إليها، كما يمكن له أن ينطلق من المكان الذي هو فيه إلى حيث يريد بأحدث وسائل النقل وفي زمن وجيز، غير أن نظام التموضع العالمي أو تحديد المواقع الـ(GPS) كفيل بأن يقود المرء إلى حيث يريد متى ما شاء، وفوق هذا وذاك فإن كل شارع أو معمار أو متجر أو محطة يمثل معلمًا بارزًا. 

ولما كنا مقيمين بأحد الفنادق على شارع خالد بن الوليد في منطقة «بر دبي»، لم يكن أمامي إلا الطواف مع أحد رفاقي مشيًا على الأقدام في الشارع الطويل العريض، فوجدناه من أكثر الشوارع حيوية، حركة السيارات والمارة لا تهدأ نهارًا أو ليلًا، خاصة حيث توجد في أغوار أرضه محطتا مترو الأنفاق «برجمان»، وعلى مسافة غير بعيدة «شرف دي جي»، وعلى جانبيه الأبراج العقارية والبنايات الضخمة، ومبانٍ شاهقة يغلب على تصاميمها الحديد والزجاج وأعمال الديكور، غالبيتها من البنوك والشركات والفنادق والمولات، والمطاعم الكبيرة والصغيرة، والأماكن التجارية الأخرى.

غُصنا في بحر من المتعة، ونحن ما بين الفرجة والتأمل والتبضع لعدة ساعات حتى وجدنا أنفسنا دونما نشعر على شارع السطوة، ومن ثمّ على حافة «خور دبي»، ومجرد نظرة إلى ضفتي الخور تؤكد للزائر أن دبي لم تكن مجرد إمارة تجارية فحسب، بل عالم متنوع من الأحياء والإحياء، ودنيا في التراث والسياحة، وميدان فسيح للتنمية، وسوق رائج للعقارات، وكم كان محقًا من أطلق عليها «لؤلؤة الخليج» أو «عروس الخليج».

وقفنا مليًا على حافة الخور في منطقة «العبرة» من الجهة الجنوبية التي تسمى «بر دبي»، وهي تموج بالحركة، وذات طابع وسمات عظيمة، تحمل تراث الإمارة وجل أوعية الماضي الثقافية، وفي الوقت نفسه هي بوتقة النشاط الرسمي للإمارة، حيث يوجد مكتب صاحب السمو حاكم البلاد، ومعظم الإدارات الحكومية، كالجمارك والموانئ والإذاعة والبريد والمياه وغيرها. أما إذا نظرت إلى الجهة الشمالية من الخور، والذي يعرف بـ «بر ديرة» تراه وجهًا باهرًا من أوجه الحداثة والمعاصرة التي غمرت الإمارة.

حاولنا عبور «خور دبي» بـ«العبرة» كي نصل «بر ديرة»، لكن رفيقي حدثني بقوله «من الأفضل أن نطوف على بر دبي ونزور كل الأماكن التي يستوجب زيارتها حتى لا نشتت أذهاننا. دبي بما فيها من أماكن ومناظر ساحرة مبهرة تجرك جرًا كي تقف عندها وتتأملها». فعلًا على بعد خطوات من هذا السوق الكبير، متحف دبي وقلعة الفهيدي التاريخية، وحي الفهيدي التاريخي. ثم أضاف قائلًا: «هذه المنطقة تحتاج لأيام بل لأسابيع عديدة حتى تكمل التنزه والتمتع بمناظرها، وأؤكد لك زيارة واحدة لا تكفي».

 

بين الأزقة والمتاجر

أخذنا نتجول على طرف الخور في «بر دبي» فاكتشفنا أننا نمشي في منطقة غنية بالتاريخ حيث المباني التقليدية القديمة والمتاحف والمواقع الدينية، أما الطواف في سوق البر الكبير، طواف بين صروح ومبانٍ قديمة، معمار يدل على ذوق وإبداع أمة خلت، أما المتاجر وأماكن البيع فنجدها موزعة على امتداد السوق وذات طابع شعبي، لمعروضات غالبيتها تقليدية وشبه تقليدية.

والتجول في السوق أشعرني بأنني أتجول في «خان الخليلي» بالقاهرة، فالمتاجر الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، فيها كل ما يملأ ويروق الأعين من لوازم النساء والرجال بمختلف أعمارهم، بجانب المفروشات، والعطور، والعطارة، والتوابل، وأدوات الزينة من مصنوعات الفخار والخشب والجلود، كلها معروضة بإتقان، تدل على مهارة وإبداع في الصنع والعرض معًا، فضلًا عن الرقة والدقة في التعامل لأناس يتحدثون «لغة عربية مكسرة»، جلهم كما تراءى لنا من دول شرق آسيا، وبلاد فارس.

بعد جولة طويلة في السوق توجهنا عبر شارع الحصن نحو «حي الفهيدي التاريخي» التراثي، فكان «حصن دبي» يقف شاهدًا على تاريخٍ الإمارة، مرورًا بـ«متحف دبي» إلى أن وصلنا عالم الماضي، حيث المعالم التاريخية البارزة، ودنيا من التراث المعماري، ومجريات التاريخ تجري بين الأزقة، وحياة الناس والأحداث والأذواق تحدثنا بها تفاصيل المباني، لم ندرك زقاقًا إلا مررنا به، ولم نر بابًا إلا ولجنا من خلاله لمعلم تراثي، لتنتهي رحلة يوم كامل، لنعيد الكرة من جديد في صبيحة اليوم التالي، حتى يتسنى لنا النفاذ إلى قليل من الروح التي تعكس جوهر الحياة في الإمارة قبل ظهور النفط.

تحركنا في المرة الثانية من محطة (شرف - دي - جي) إلى زيارة الحي التاريخي عبر شارع «المصلى»، ولكن على بعد مسافة قصيرة عرجنا على (الفهيدي مول) أو كما يناديه الأعاجم (الفهيدي سوق)-Alfahidi Souk -، وهو غير بعيد عن «سوق القماش» أو «سوق بر دبي الكبير»، طفنا على كثير من المتاجر التي يحتويها، يا له من مجمع عصري بديع مفعم بالنشاط والحيوية، إذ يتيح للزبائن التسوق والحصول على مستلزماتهم الحياتية والمعيشية، من خضراوات، وأزياء، وإكسسوارات، وأحذية، وأجهزة إلكترونية، وأطعمة، وخلافه.

خرجنا من «الفهيدي مول» لنواصل السير حتى «دوار المصلى»، توقفنا عند الهيكل المنصوب على تلة من الخضرة نتأمل بساطته وجاذبيته بمتعة بالغة، ثم دلفنا إلى «حي الفهيدي التاريخي»، الذي يعود إنشاؤه إلى عام 1890م، محازيًا لخور دبي بقدر (300) متر تقريبًا - حسب بعض المصادر- وكان يسمى في السابق بـ«حي البستكية»، حيث كانت تسكنه خلال تلك الفترة عائلات بستكية من مقاطعة بستك جنوب إيران، ولما لديهم من ثراء واسع استطاعوا أن يشيدوا المباني الراقية في ذاك العصر، وأن يحافظوا عليها.

والمتجول بين أزقة الحي يجده أكثر امتلاءً بالتفاصيل والأكثر تبيانًا للتاريخ الخاص بدبي، ما يؤكد أنه رغم التوسع والمتغيرات الكبيرة الكثيرة التي طالت الإمارة إلا أنها لم تتغافل عن ماضيها، وكانت إحدى اللوحات المعلقة خير شاهد ومعين لنا للتنقل في داخل الحي التراثي الضخم، لمطالعة معالم دبي القديمة التي كانت تشكل في زمان ما نمطًا سائدًا لمجمل مساكن الإمارة، إذ جاء فيها حي الفهيدي التاريخي، عبق التاريخ والثقافة الإماراتية... على طول خور دبي يتربع حي الفهيدي التاريخي موفرًا للزائر فرصة معايشة نمط الحياة التقليدية الذي كان سائدًا في دبي منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى سبعينيات القرن العشرين، بما تحمله من قيم وتراث يستشف من تصميم مباني الحي وتوزيعها فيه، حيث المباني ذات البراجيل الشامخة والمشيدة بمواد البناء التقليدية والمتراصة بشكل تلقائي تفصل بينها الأزقة والسكيك والساحات العامة التي تضفي على الحي تنوعًا جماليًا طبيعيًا. وقد لعب الحي بحكم موقعه الاستراتيجي على خور دبي دورًا مهمًا في إدارة دبي وتنظيم علاقاتها التجارية العابرة للبحار، كما لا يزال الحي مجاورًا لديوان سمو حاكم دبي.

تحتضن مباني حي الفهيدي التاريخي حاليًا العديد من الأنشطة الفنية والثقافية المتنوعة (العامة والخاصة) في معارض فنية ومتاحف متخصصة، وجمعيات ثقافية وفنية ومراسم للفنانين، ومراكز ثقافية، ويستضيف الحي العديد من الفعاليات الثقافية والفنية الموسمية، وفعاليات اليوم الوطني والمناسبات الدينية، وتتوزع في الحي المطاعم والنزُل ذات الأجواء التراثية الخلابة المريحة.

والطواف بين أزقة الحي ومتاجره يزيد من متعة النظر إليه أنه مازال محافظًا على طراز بنائه الأصلي، بينما تتجلى مظاهر الحداثة خلال الأنظمة والتقنية الحديثة المستخدمة فيه. وأثناء مرورنا داخل الحي لاحظنا أن السوق يشمل متاجر مختلفة لأسماء غير عربية، ومكنوزًا بالعديد من الأدوات والمشغولات التراثية، والمتاجر التقليدية المتخصصة في بيع الأقمشة، الإكسسوارات، الأشغال اليدوية، المطرزات التراثية، والتحف لمصممين محليين، وكلها معروضة بأسعار لا تنافس، فاشترينا بعض ما يتصل بأذواق أهلنا بأسعار متهاودة.

غير أن الحي يضم كثيرًا من المواقع الأثرية: «مطعم البيت المحلي»، «مطعم ومقهى تي أربيان»، «مجلس جاليريا»، «دار الخط العربي»، و»متحف القهوة»، مثالًا، ومن مظاهر التراث يجد الزائر نموذجًا رائعًا للخيمة التي تظهر لمحة عن الحياة البدوية، ما يكشف أن لدى أهلها ذاكرة تستطيع أن توغل في الماضي، بجانب ثمة من يستعرض بالصقر ويتلاعب به كنموذج للهوايات الممارسة في المدينة، كما أن هناك معارض وفنونًا وتراثًا يفوح منه عبق الماضي وسحر التاريخ.

والحي بحكم أصالته الضاربة في أغوار الماضي صار محطًا للأنظار، فكثيرًا ما شاهدنا خلال جولتنا مجموعات كثيفة من السياح من مختلف الجنسيات تتوزع بين الأزقة والمعارض والأبنية لتستنشق مثلنا من ذلك العبق الذي لا ينتهي، ولتقضي احتياجاتها من السوق التراثي، كما لاحظنا أفواجًا من طلاب المدارس يطوفون في أرجائه للتعرف على المعالم المهمة، وعلى جذور تاريخ المدينة القائمة.

و«حي الفهيدي» في موقعه ما هو إلا واحد من عشرات الأحياء التي يضمها «بر دبي»، منها أحياء البرشاء، القرهود، الحمرية، الجداف، المنارة، المنخول، الكرامة، الشندغة، القوز، الرقاعة، الصفا، الصفوح، الوصل، مدينة دبي العالمية، أم هرير، زعبيل، وغيرها، بعضها قطعناه بأقدامنا، وبعضها مررنا به على ظهر المركبات العامة.

 

مترو دبي

على الرغم من أن طقس دبي في أيام شهر سبتمبر تهيمن عليه الرطوبة العاتية، إلا أنها لم تمنعنا من الحركة، ولم تعق لنا أمرًا مهمًا كان فوق طاقتنا، وكانت زيارتنا هذه المرة لوجهة أخرى من واجهات المدينة، إذ تحركنا مشيًا على الأقدام من محطة «شرف دي جي» نحو «برجمان»، لاستغلال المترو والتوجه نحو «برج خليفة»، والحق يقال إن المشي أو الانتظار في داخل نفق أو قبو المحطة يبدد كل منغصات الرطوبة للتكييف العالي الذي يغطي مساحات المبنى، وكذلك مقصورات المترو.

وفي هذه الزيارة لا نستطيع أن نتجاوز مترو دبي نفسه كأحد المعالم الأسطورية المهمة والفاعلة الأكثر حداثة على مستوى العالم، وأن ما يلفت النظر أن كثيرًا من الجنسيات تعتمد في سعيها اليومي على رحلات المترو السريع الذي يقطع الإمارة من محطة الراشدية حتى محطة الصرافة في جبل علي، وهو ما يعرف بالخط الأحمر بطول يجاوز (52) كلم محازيًا شارع الشيخ زايد، مرورًا بأكثر من (30) محطة يشكل أغلبها معالم بارزة وأحياء شهيرة ذات جذب سياحي وتجاري بالغ الأهمية، مثل المركز التجاري العالمي، أبراج الإمارات، برج خليفة، ودبي مول، ومول الإمارات، وأبراج مارينا دبي، وهناك ما يعرف بالخط الأخضر بطول يزيد عن (22) كلم، ويبدأ من محطة الاتصالات في منطقة القصيص حتى خور دبي في منطقة الجداف، ويعبر (20) محطة، يشكل معظمها أيضًا أماكن مهمة وذات شهرة كبيرة، أبرزها ديرة، وسوق الذهب، ومنطقة الفهيدي التاريخية وغيرها، ويمكن للراكب لإكمال رحلته إلى حيث يريد أن ينتقل من خط إلى آخر عند محطتي «الاتحاد» و«برجمان». 

الذي يشاهد الجموع الغفيرة من الداخلين والخارجين من قبوات المحطات، والذين على مقصورات المترو الخمس، العامة والخاصة، يعتقد أن ليس لسكان دبي وسيلة نقل إلا المترو، ومن يشاهد الأعداد الهائلة من السيارات المتدفقة في شوارع المدينة يخيل إليه أن لا أحد يحفل بركوبه، علمًا بأنه ليس هو الوسيلة البرية الوحيدة التي تنقل الناس، فثمة من يستخدمون التاكسي أو الأتوبيس والسيارات الخاصة، ولكن ما كنا نشاهده في كل مرة أن أفواج البشر تزداد وتقل خلال الخمس دقائق التي لا يتعداها على أكثر تقدير انتظار المرء في المحطة، ولم نُدهَش حينما علمنا أن تعداد الذين يتنقلون عبره في اليوم الواحد ما يفوق 

الـ (500) ألف نسمة، خاصة أنه من أرخص وسائل النقل البري في المدينة، بأسعار زهيدة وفق البطاقة الإلكترونية (نول) المتواجدة في داخل المحطات وخارجها أو في مواقف الحافلات ومحلات السوبر ماركت.

والمتجول بين محطات المترو التي في ظاهر الأرض أو باطنها يشعر بأن عجلة التغيير تجري بسرعة شديدة، على يقين راسخ بأن دبي خطت خطوات متقدمة جدًا في تطوير البنى التحتية، فلا توجد محطة من المحطات التي فوق أو تحت الأرض مكشوفة في العراء، وجميعها مزودة بتكييف عالٍ، ومصاعد وسلالم السير الكهربائية، وأحدث الوسائل التقنية لمراقبة وضبط الحركة، ومجهزة بما يحتاجه الفرد من خدمات خلال حركته العادية، وكلها على درجة عالية من النظام والرقي، ولا عجب فالمترو نفسه يقطع تلك المسافات بدون سائق، موجهًا في حركاته وسكناته إلكترونيًا، ولعل من المواقف التي قد لا تبرح الذاكرة، وجعلتني في موقف لا أحسد عليه، بعد أن نزلنا داخل محطة «برجمان» مررت عبر الردهات المؤدية صعودًا وهبوطًا إلى الأبواب الزجاجية الإلكترونية لموقف المترو الذي لا ينتظر سوى بضع دقائق، لسوء الحظ وجدت نفسي في المقصورة الخامسة والأخيرة، ووقتئذٍ رأيت أن كل ما بداخلها سيدات وفتيات بعضهن جالسات، وأخريات واقفات، جميعهن ينظرن لي صامتات، وكأن وجودي بينهن أضفى عليهن حيرة لم يألفنها من قبل، وفي الأثناء اكتشفت أنني أخطأت التقدير، حين وجدت ما يشير إلى أن هذه المقصورة مخصصة للنساء والأطفال فقط... يا له من موقف محرج، غطى عيني بأسف شديد، ولكنني فوجئت بمن تلح عليَّ بالجلوس في مكانها، لعلها أدركت ما بي من حرج، بالطبع رفضت ذلك، وما كان عليّ إلا أن أنتقل إلى مقصورة أخرى عند أول محطة قادمة، وفي النفس قول «يا لها من مدينة تجعل المرء يتوارى خجلًا عندما يشعر بأنه أخطأ، أو لم يحسن التقدير».

وما يثير الانتباه بصورة جلية عند استغلال المترو حالة الصمت التي تغطي مقصورات الركاب من الجنسين مهما كان الزحام شديدًا، والاحترام بين الركاب رغم أنهم من بقاع متناثرة، ودائمًا ما نشاهد كثيرًا من الشباب يتبرعون بالجلوس لمن هم أكبر سنًا، وغير هذا والأغرب أن الأكثرية التي صادفتنا خلال فترة إقامتنا هي من الشباب وغيرهم من الذين لم يبلغوا سن الشيخوخة.

 

الأعجوبة الحديثة

نزلنا في محطة برج خليفة، وكان لنا حق الاختيار بين السير عبر الجسر الأنبوبي الطويل، أو المشي بالأقدام في الشارع، فضلنا السير على السيور الكهربائية في الجسر المغلق الرابط بين المحطة والبرج، وهذا في حد ذاته مشهد من مشاهد الأناقة والرقي، التكييف العالي يمتص رطوبة الجو السبتمبري، سرنا مع الحشود المتقاطرة في طابور طويل، وكلهم يسيرون بأدب جم ذاهلين صامتين، يرتدون أحدث موضات الملابس، وبعد دقائق معدودات كنا داخل ردهات دبي مول، ثم خرجنا ودلفنا نحو قاعدة «برج خليفة» الضخمة، إنه لمعمار يفوق الوصف، ما كان مجرد بناية تناطح السحاب، وإنما لوحة معمارية مذهلة تلاطف وجه الشمس، تسحر العيون وتملك العقول، خليط متنوع من البشر يحتفلون بفرح عميق لمشاهدة تلك اللوحة البلورية الفريدة، ويسعون سعيًا لتوثيق لحظات وجودهم بقربها، عالم يتيه فيه العالم من الخارج، بينما يحار ويتوه في باطنه، دنيا غنية بالنفائس وحافلة بكل متع ومباهج الحياة من مساكن فاخرة، ومطاعم زاخرة بكل أصناف الأطعمة التي تلائم مستوى الرواد وأذواقهم، وعدد لا يحصى ولا يعد من الشقق والمكاتب ومجموعات الغُرَف والأجنحة الفندقية الفاخرة، موزعة على نحو أكثر من (150) طابقًا من جملة حوالي (200) طابق تقريبًا، وثمة كثير من الأرقام القياسية الخيالية العالمية التي تغطي ما يلمس البرج فوق سطح الأرض، أما ما دونه فيكفي أنه يحوي موقفًا للسيارات قادرًا على أن يستوعب لحظة واحدة حوالي (3000) سيارة.

والبرج الذي بدأ تشييده في بداية عام 2004م في مساحة تقدر بنحو (4.000.000) متر مربع، هو معلم بارز لشعوب العالم وسط مساحة كبيرة متعددة الاستخدامات، يبلغ ارتفاعه (829) مترًا، فيما اكتمل بناؤه خلال ستة أعوام تقريبًا، وحسبما عرفنا كان يسمى «برج دبي»، لكن تكريمًا للشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات وحاكم إمارة (أبو ظبي) سمي باسمه، وتم افتتاحه في يناير 2010م ليكون المبنى الأعلى ارتفاعًا يشيده الإنسان منذ بدء العالم وطوال تاريخ البشرية، والمعجزة المعمارية التي تغازل النجوم مساء كل يوم، ليحوز المهندس المعماري «أدريان سميث» ومن معه من المهندسين والاستشاريين المعماريين والشركات الاستشارية الدولية على قصب السبق في بناء هذه الأعجوبة الحديثة. 

وما يزيد الإدهاش أن واجهات البرج العملاق تتكون من زجاج بلوري عاكس لا يقل عن (140) ألف متر مربع، وعلى درجة عالية من تحمل الحرارة الشديدة التي تصادف نهارات صيف الخليج أو غيره، ويحدثنا البعض بأن ثمة من يشير إلى أن درجة الحرارة الخارجية في الجزء العلوي من المبنى مختلفة بأكثرية البرودة من عند قاعدته بـ (C.6) درجة، وثمة فرق في زمن بزوغ أشعة الشمس وغروبها ما بين أسفل البرج وقمته.

حدقنا وتفرسنا وتأملنا مثل الكثير من المجموعات البشرية المتنوعة التي تحملق بإعجاب مفرط في ذاك الصرح العملاق الذي تلفه المرايا، ولم تترك عدسات كاميرات التصوير المختلفة شاردة أو واردة إلا التقطتها ووثقتها لأعلى وأفخم مشهد معماري عرفه العالم على الإطلاق، الشأن الذي جعله ملتقى أهم لأغنى أغنياء العالم، ومحط أنظار النجوم والمشاهير في مختلف المجالات ليهرعون لمشاهدته والوقوف عنده. 

لم يتوقف طوافنا عند حد البرج، لقد كنا كما الفراش الذي يتنقل من زهرة إلى زهرة، ننتقل من هنا إلى هناك لنمتع أنظارنا بما حوله من روائع الطرز المعمارية والأبراج العملاقة التي تخترق السحاب، والبحيرة الصناعية التي تحوي أكبر نافورة راقصة في العالم، ولو تلمس الزائر بإمعان يجد أن المنطقة الساحرة التي تقع قبالة مول دبي لها أوجه عدة، فللنهار وجه، وللمساء والليل وجهان يختلفان في الحسن والأناقة.

لم تكتف الأعين بما حققت من مشاهدات، ولكن مع ذلك عرجنا عبر الجسر الذي يقطع البحيرة إلى «سوق البحار»، وفي داخله العديد من المحال التجارية والمطاعم والمقاهي المطلة على نافورة دبي، والزائر لهذا السوق يلمس الذوق الذي يماثل أذواق السوق العربي التقليدي، غير أن السحر والألق لا يقفان عند حد معين.

 

التوهان الجميل

عبرنا الجسر ثانية نحو «دبي مول»، أو «مول دبي»، احترنا من أين نبدأ وكيف ومتى ننتهي، وكأننا جئنا من عالم جديد إلى آخر أجدّ، ما أن تطأ أقدام المرء أي باب من أبواب الدخول المتعددة حتى يشعر بأنه في سعادة لا تقاوم، فكل شيء معد بإتقان فائق الوصف، والناس بسحناتهم المختلفة عرب وعجم يتهافتون لزيارته كما النحل بلا انقطاع، ولا أبالغ إن قلت على رأس كل دقيقة، وأنهم يبلغون الآلاف يوميًا، لمشاهدة ما بداخله من محتويات.

كانت الأعين، كل الأعين، ترنو في كل الاتجاهات، حالة من النشوة، في دنيا تذهب إلى ما وراء الدهشة والإبهار، وحالة من الهدوء والصمت، تشعرك بأن العيون تتكلم بلغتها الخاصة، يقينًا بأن التحفة الراقية التي بتنا أسراها تفرض على المرء أن يرتقي إلى مستواها، ما يوقن بأن ضيق العبارة أكثر مما هو متوقع، وحالة من التوهان الجميل ما بين أناقة العرض وجودة وجمال المعروض، وحين يتجول المرء بين صالات العرض التي تتجاوز المئات ليكتشف أن دعة الحياة وترفها تتهادى بين جدرانه، مع سلامة الذوق واللباقة وحسن التعامل مع الآخرين، سواء كان في معارض البيع، أو المحال والمطاعم والمقاهي البالغة الكثرة، أو بقية المرافق الترفيهية الأخرى.

والمول الذي افتتح في نوفمبر عام 2008 يحوي المئات من متاجر التجزئة، ويصنف كأكبر مجمع تجاري في تاريخ التجزئة، ومن أكبر المجمعات التجارية في العالم، يضم متاجر للمجوهرات والاكسسوارات والملابس بمختلف أنواعها ومستوياتها، بينما يشمل أماكن ترفيهية فاقت حد الرقي، منها حديقة الحيوانات المائية (الأكواريوم) أحد أكبر أحواض الأسماك في العالم، يحوي العديد من أصناف الحيوانات المائية، وحلبة للتزلج تستضيف كثيرًا من المنافسات والفعاليات الجاذبة خاصة لهواة هذه الرياضة، بجانب الفنادق والوحدات السكنية والمطاعم الفاخرة، أشياء متنوعة وكثيرة للاستمتاع بجمال الوجود والتنعم بمباهج وملذات الحياة، كلها في ذاك المبنى الضخم الفاخر، فيما تضم طوابقه التي تحت الأرض مواقف لآلاف السيارات في وقت واحد.

لم أكن أتوقع أن الزمن الذي مكثناه داخل «دبي مول» على كثرته انقضى بتلك السرعة، وما كان لنا إلا أن نمضي عسى أن يفتح الله باب العودة من جديد.

 

طقطقة الكاميرات

تهيأ لنا ذات صباح أن نتوجه إلى متحف المستقبل، وعند محطة «أبراج الإمارات» توقف المترو، وبتنا كذلك أمام خيارين إما المشي على الأقدام حتى موقع المتحف، أو الذهاب عبر (الجسر الأنبوبي) الذي يمتد عشرات الأمتار، بيد أننا في تلك المرة أخذنا بالخيار الثاني، كي ننعم بقسط أكبر من المشاهدة والمتعة، كانت المنطقة غارقة في بحر من الصمت، وأنهر من الزينة الملونة ونوافير المياه المتراقصة على جانبي الطريق، تلتمع مع أشعة الشمس الهاربة بين زوايا الأبراج، أو تلك المنعكسة من مراياها، والذي يحدق في وهج المرايا لبرهة يعتقد أن الشمس تشرق من أحد الأبراج، والناس في الطريق إلى المتحف تبدو عليهم علامات الدعة والراحة، والثراء من هيئاتهم وملابسهم وهدوئهم الطبيعي، وحتى طريقة تصرفاتهم تشعر المرء بأنهم على قدر من الرفاهية في الذوق والحياة.

كانت صالة المتحف الأرضية مزدحمة بأناس غالبيتهم من الأوربيين ودول شرق آسيا، وكان الهدوء مسيطرًا رغم الاكتظاظ، وكل شيء مرسوم بحرفية عالية وذوق فنان، كانت الأعين ترنو من جدران المبنى، والناس في صمتهم غارقون في أتون الدهشة والتأمل، لا شيء يخترق ذلك إلا طقطقة أو قرقعة كاميرات التصوير، وهم يحلقون في ما يزين الجدران من مناظر تخلب الألباب، كلهم في حالة انتظار وتأهب للصعود إلى أعلى حيث المتحف، وكان العشم أن يكون لنا نصيب فيما أصابوا، لكن عندما سألت موظفة الاستقبال قالت بصوت هامس حزين: «ولكن ليس الآن...»... لم تنتظر لأسأل متى... فواصلت تقول: «طبعًا الدخول للمتحف بالحجز وأقرب فرصة بعد 5 أيام... أي يوم الجمعة القادم وقيمة التذكرة 150 درهما»... لا خلاف على القيمة... ولكننا على سفر بعد يومين فقط... فقالت... (ولكن هو النظام)، كانت فرصة أن نتجول داخل الصالة الأرضية للمتحف، مهرجان من الجمال ينتزع المرء انتزاعًا ليقف ويتفكر.

قلنا إن فاتنا حظ النظر لمقتنيات المتحف فلا يفوتنا التمتع بما حوله، فأخذنا نتجول في المنطقة المكتظة بالعقارات والأبراج الزجاجية والحدائق الغناء، وكان أكثر ما يجذب النظر أن كل شيء تم بمحبة ومهارة وحذق وبراعة، وليدرك الناظر من أول نظرة أن تلك السلسلة المعمارية صممت، كما لو أنها تنافس بعضها بعضًا، وكثيرًا ما يجد المرء نفسه حيال حوار معماري هندسي عميق، وأنه مفعم بأحاسيس ومشاعر لا يدرك كنهها، وهو يتمشى في شوارع مدينة هيفاء ذات جمال وسحر وفتنة لا شبيه لها، تشبع الروح، وتأكل الوقت، وكل شيء يؤكد أن أي مكان هو حقل للمتعة والرفاهية. 

 

الغابة العمرانية

كنا من المحظوظين أن تكون الشركة الموفودون لها في أحد أبراج مارينا دبي، في وسط المدينة، عند (محطة مترو شوبا العقارية) وشاطئ جميرا، ولعل الحظ حالفنا أكثر بأن تكون مكاتب الشركة في إحدى ناطحات السحاب، الطابق (36)، الأمر الذي أتاح لنا الفرصة كي نطل على تضاريس المدينة من علٍ، والتي في كثير من أبعادها ما هي إلا ناطحات للسحاب، وبحيرات للمياه، وخضرة موزعة بعناية فائقة، لتسفر عن مدينة في عالم اليوم تضاهي العديد من المدن والعواصم الكبرى.

ويقيني دائمًا أن ما يبرز دبي من خلال عمرانها وجدرانها الزجاجية ورفاهيتها المترفة أرقامها القياسية العالمية، وكثيرًا ما تحرص مدن أخرى على اقتفاء أثرها، وأن مشاريعها ومنجزاتها في شتى المجالات لم تقف مسيرتها عند حد فاصل، فهي بالكاد تعبر أروع وأبلغ تعبير عن أن بالإمكان أبدع وأروع مما كان، طالما توفرت الإرادة وصدق النوايا.

وخلال تجوالنا عبر شوارع مارينا دبي هالني منظر الطبيعة في الغابة العمرانية، لا أعرف إن كانت محاطة بالمياه، أم أن المياه محاطة بها، مناظر تخلب اللب، والسياح والزوار من كل حدب وصوب يجولون عبر المساحات المفتوحة، والمقاهي والمطاعم الراقية بما يجاوز الخيال. قلت لمرافقي أكثر من مرة: «دبي هي المدينة الوحيدة التي تجعل المرء أن يسير في شوارعها مصنقع» (الكلمة من صنقع وتعني في العامية السودانية رفع رأسه وحدق في الأفق)، ليقول: «هذه حقيقة... وأفتكر إذا رغب الواحد في أن يتمشى في أحد الشوارع لابد أن يخصص يومًا لمشاهدة المناظر العلوية ويومًا للسفلية، ومع هذا لا أظن أنه سيكتفي»... أما إذا كان الزائر من هواة المغامرة والرياضات المائية فثمة حلبات للتزلج على الماء وركوب الأمواج بجانب حديقة (وايلد وادي) المائية المجاورة. كما يمكن له أن يرتاد المطاعم المختلفة والنوادي الشاطئية لتذوق المأكولات المحلية أو الدولية.

 

العبور بين تاريخين

كنا قد جئنا إلى حيث بدأنا زيارتنا الأولى عند «خور دبي»، ولكن هذه المرة لنتوجه بـ «العبرة» نحو بـ «بر ديرة» في الطرف الشمالي للخور، ذياك اللسان المائي الذي كان الناس في السابق يتنقلون بين ضفتيه بالسباحة أو المشي عند انخفاض منسوب المياه، ولكن بعد توسعته وتجريفه صاروا يركبون القوارب الصغيرة (العبرات) ذات المحركات للعبور بين الضفتين، مئات الأفراد يحتشدون عسى أن يظفر كل منهم بمقعد على سطح القارب أو «العبرة»، خاصة أنها أرخص وسائل النقل، درهم واحد ينقل المرء من ضفة إلى أخرى، درهم واحد فقط يعبر به من تاريخ قديم إلى حاضر زاهٍ متجدد، درهم فقط يحلق به في عوالم الأحلام والواقع. 

إذن لا غرابة إن رأينا خليطًا مثيرًا ومتنوعًا من البشر ينتظرون العبور للضفة الأخرى، وسيلًا من الناس لا ينقطع، وما أن تبدأ «العبرة» تمخر في المياه، حتى تتبدى الأشياء في أنصع أشكالها وشتى معانيها، ولك أن ترى على الجانب الأيمن حي الفهيدي التاريخي، وعلى الجانب الأيسر (ديرة) التجارية الحديثة.

من خلال ما شهدنا أن الخور يمثل حقبتين تاريخيتين، ويشكل تفاصيل عميقة لحقب تاريخية مهمة في تاريخ الإمارة، لكأن عبوره، عبور الماضي إلى الحاضر، عبور التراث إلى الحداثة، ضفتاه محاطتان بهالة جمالية نادرة قوامها الطرز المعمارية المختلفة التي تزاوج بين العراقة والحداثة في أجل وجوهها، وحيثما وجه المرء وجهه في المجرى أو على الضفتين رأى ما يبعث الفرحة والإعجاب، ما يوحي بأن دبي في سباق تقدم الدول قد تفوقت بسنوات عديدة على دول كانت تتقدمها، وحققت أقصى غايات الجمال والأناقة التي طالما عملت لها كثيرًا بإخلاص، حتى أضحت وجهة اقتصادية وتجارية وسياحية لها الأثر الكبير على مجتمعات العالم.

نزلنا في (ديرة دبي)، ولعله كان انتقالًا ضروريًا من عالم ساحر إلى عالم يفيض فتنة، فكل شيء فيها يُشعِر المرء بالتفرد في مختلف تجلياته، ولا يمكن للزائر أن يبحث فيه عن شيء إلا وجده بقربه أو أمامه، حركة لا تهدأ في الشوارع والأسواق الكبيرة والصغيرة، ولا ضجيج ولا إزعاج، والغريب عندما نرتاد بعض الأسواق الشعبية ليلًا أو نهارًا نرى الزحام تلو الزحام، ولكن بلا تدافع أو استعجال أو تذمر، ودائمًا ما نشاهد الناس يحملون الأكياس والشنط والحقائب الكبيرة على أيديهم أو على ظهر عربات الحمالين فيها الكثير مما ظفروا به من تلك الأسواق حتى نعتقد بأنهم لم يتركوا شيئًا فيها، وفي نفس الوقت كلما ولجنا المتاجر يخال لنا أنهم لم يشتروا أو يفوزوا بشيء، حركة تجارية نشطة جدًا داخل المحلات الكبيرة والصغيرة، ولا أثر للباعة الجائلين، كما نشاهد في بعض المدن الكبرى، فكل حركات البيع تتم داخل المتاجر، وحالما سدد الزبون قيمة مشترياته حتى وجد كل ما ابتاعه محزمًا ومعدًا بأناقة مفرطة، مع الأخذ بخيار التسليم الفوري عند الباب.

 

أبواب المستقبل

سمح لنا الوقت بأن نتجول في شوارع وأسواق «ديرة دبي» أكثر من مرة، خاصة بعد أن أدركنا أن الوصول إليها يمكن أن يكون بواسطة المترو الذي يجري تحت مياه الخور، أو الأتوبيسات أو سيارات الأجرة التي تقطع الخور عبر نفق الشندغة، أو عبر واحد من الجسور، (جسر آل مكتوم)، أو (القرهود)، أو (دبي العائم)، أو (معبر الخليج التجاري). 

هنا لابد أن نذكر بأن العبور من الجنوب إلى الشمال أو العكس، بأي من وسائل المواصلات في جوهره سياحة غنية بالمشاهدات المليئة بالقرائن، التي تمنح القدرة على استكشاف مواطن وكنه الجمال والبراعة في الإمارة بشكل خاص، فحتى إذ سار المرء في الطرق والشوارع يلاحظ أنها صممت على أن تستوعب حجم المرور الهائل الذي يتدفق بين الفينة والأخرى، مع حرص بليغ على استخدام أحدث الوسائل التقنية لتنظيم الحركة، مع إقامة الطرق الدائرية، أو ذات الاتجاه الواحد، أو إشارات المرور الضوئية، بجانب الجسور الخاصة بالمشاة.

في أثناء طوافنا لفت انتباهنا وأثار إعجابنا أن دبي تحتفي بغيرها بمختلف الصور، هذا ما لمسناه في الحضور المميز الخالد لكثير من الدول والعواصم والمدن والشخصيات في خارطة الإمارة، مثل شوارع «عمان، الكويت، الجزائر، تونس»، وهناك شوارع المدن «الرباط، الدوحة، مراكش، الرياض، بيروت، طرابلس، بورسعيد، القدس»، وكذلك الشخصيات فثمة شوارع بأسماء (خالد بن الوليد، أبو بكر الصديق، عمر بن الخطاب، علي بن أبي طالب، الشيخ راشد، الشيخ محمد بن راشد، الشيخ زايد، الشيخ محمد بن زايد، الشيخ خليفة بن زايد، الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، نايف، آل مكتوم، والملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود)، وهذا قليل من كثير، فيما يمثل شارع الشيخ زايد أطول وأهم الشوارع في دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث يبدأ من إمارة (أبو ظبي) في الجنوب مرورًا بدبي والشارقة، وعجمان، وأم القوين، حتى إمارة رأس الخيمة بطول يتجاوز الـ(550) كلم.

والطواف عبر شارع الشيخ زايد في دبي يقودنا إلى التعمق أكثر في شيء من روحها المتوهجة أبدًا، إذ تطل عليه العديد من الأبراج العملاقة، والمعالم والصروح المعمارية المبهرة التي تكشف مقدار إدراك الحكومة لجوهر العمارة والتنمية، ووسائل تطور إنسانها.

 

سوق الصناديق

كان جميلًا أن نتجول في السوق الكبير في ديرة، سيما أنه من أكبر وأهم وأقدم أسواق دبي، يرجع قيامه إلى القرن التاسع عشر، ولِما يشمل السوق من أسواق عدة متميزة يتطلب الكثير من الوقت والجهد للتجول بين المتاجر، فهو يمتاز بوفرة البضائع المختلفة خاصة القادمة من بلاد الهند كالعطور والصندل والتوابل والبهارات، وأكثر ما يثير الانتباه كثرة السياح الأوربيين، ومدى تذوقهم لجماليات السوق، ونهمهم لشراء ما هو معروض.

ويمكن للزائر أيضًا أن يتوجه إلى سوق نايف سيرًا على الأقدام عبر شارع نايف، وهو كذلك من أسواق دبي الشهيرة، وكان قد تم تأسيسه قبل أكثر من نصف قرن وحتى يواكب الطفرة التنموية الهائلة التي عمرت الإمارة، وتم تجديده في العام 2010م، وقد لا يعرف الكثيرون أنه يسمى (سوق الصناديق) - كما حدثنا أحدهم - نسبة للمحال والمتاجر الكثيرة المتلاصقة ببعضها، ويمكن للمتجول فيه أن يجد كل ما يحتاجه من كافة أنواع السلع التي يستهلكها الناس بأسعار مميزة، إذ يعد من أرخص أسواق دبي.

وخلال تجوالنا في السوق بشارع نايف لاحظنا الكثير جدًا من المنتجات المعروضة وخاصة الصينية، والهندية، والفلبينية أصلية كانت أو تقليدية بسعر التجزئة والجملة، وكذلك كثرة المتاجر الغنية بأفضل أصناف العطور والبخور الأصلية المتعددة شرقية وغربية، فيما توجد على جانبي الشارع العديد من المتاجر الخاصة بمبيعات الجوالات والاكسسوارات، ويمكن للزبون أن يتحصل على أحدث الصيحات في عالم الجوالات بأسعار مناسبة، كما توجد في تلك المحال أعمال لصيانة كل أنواع الجوالات.

بعدما عرفنا أهمية سوق مرشد أيقنا بضرورة زيارته، تحركنا في صباح باكر من محطة (شرف دي جي) إلى منطقة الديرة شمال الخور عبر نفق «الشندغة»، والرحلة بالأوتوبيس في حد ذاتها سياحة بصرية فريدة، ففي كل شارع أو زاوية مناظر لروعتها تجل عن الوصف، لتؤكد حرص حكومة دبي على أن تعكس الجوانب الحضارية والعمرانية والثقافية والسياحية والإنسانية. نزلنا في شارع المصلى بديرة وتوجهنا عبر شارع نايف إلى سوق مرشد، الذي يجاور مركز البريد وأسواق الذهب، وفنادق ذات شهرة عالية، توغلنا داخل السوق، وهو عبارة عن مجموعة أسواق، كانت المحلات والمتاجر تفتح أبوابها في ذاك الصباح المشرق، وأخذت الحياة فيها خطى منتظمة، والسوق مليء حد المبالغة بالمنتجات والخدمات المتنوعة، مئات المحلات التجارية، حركة نشطة، وهدوء ملفت، وكلام هامس، وعيون متحفزة لاقتناء أي شيء، إذ يتوافر في السوق كل مستلزمات الحياة الضرورية والكمالية، وهناك أيضًا سوق العطور يحوي كل أنواع الروائح النقية والزيتية الأساسية والعود التقليدي، وأماكن تركيب وتحضير العطور، وفي مكان غير بعيد يوجد سوق الأواني المنزلية، بجانب سوق العباءات الذي يضم العديد من الأشكال المختلفة من العباءات ذات الجودة الأصلية والأسعار الجيدة، ولعل هذا ما جعل النساء يتكاثرن في متاجره، كما أنه يتيح إمكانية الشراء بالجملة والقطاعي. 

ونحن في تلك الجولة كان لابد أن نمر على سوق الذهب من باب العلم بالشيء ولا الجهل به، فليس لدينا إمكانية الشراء، والسوق لما يكتنزه من نفائس مبهرة، صار أشهر وأهم أسواق الذهب في العالم وذا وجهة سياحية وتجارية، فمن لم يسعد بالشراء حتمًا سيسعد بإمتاع الروح والبصر، إذ يضم العديد من متاجر المشغولات الذهبية والمجوهرات المختلفة، الماس واللؤلؤ والحلي والأحجار الكريمة، الياقوت والزمرد.

خلال جولاتنا في كثير من أنحاء دبي، لاحظنا أنها تعج بالأسواق والمولات والمحلات التجارية الضخمة الفخيمة ذات التقنية العالية، أقل ما توصف به أنها أسواق عصرية ذات تأثير مغناطيسي فعال، في بطونها يمكن للمرء أن يحصل على كل ما يخطر ولا يخطر على البال، بأسعار مغرية، وأصحاب المحلات التجارية أيًا كانت تجدهم يشتعلون حماسًا ويتدفقون صبرًا وجهدًا لا مثيل له لخدمة الزبائن، لا يرغمونك على الشراء ولكن يجبرونك على احترامهم وتقدير جهدهم، ولابد أن تشعر بشيء من الرضا، حتى لو لم تشتر شيئًا، وهذا بالطبع فن من فنون التجارة، بعضه ما جعل دبي تتبوأ موقعًا محوريًا في المنطقة في عالم التجارة الدولية.

بلا شك إن زيارتنا لإمارة دبي على قصرها، كانت فرصة للاستمتاع بجمال الوجود، وتلمس الجمال المبدع في بقعة أهم ما يلفت النظر فيها أن كل شيء يلفت النظر، ويستوجب الوقوف والتأمل ويشحذ الخيال، وهي تشعر المرء بأنها صممت بخيال عبقري، فأي صرح لوحة، وكل لوحة آية من آيات الإفلات من قبضة الأرض والزمن، ولك أن تتخيل أنها جاوزت سقوف العالم وملكت العديد من الأرقام القياسية العالمية، ولك أن ترى بأم عينيك مدينة تجاوزت الإعجاز في فن العمارة... أي سحر ذاك؟... ولا زيادة لمستزيد ■

 

إنها مدينة الناطحات

برج خليفة

غابة من ناطحات السحاب

السوق التراثي بحي الفهيدي التاريخي

طراز البناء الأصلي

إمارة دبي لم تتغافل عن ماضيها

السياح في كل مكان

جسر بين مول دبي وسوق البحار

العبارات والسفن الصغيرة وبنك الإمارات دبي الوطني على ضفة بر ديرة