الكاتب الجورجي - الروسي دينيس جوتسيكو: معرفتي بالأدب العربي لا ترضيني وأعرف «القرآن» و«ألف ليلة وليلة»

الكاتب الجورجي - الروسي دينيس جوتسيكو: معرفتي بالأدب العربي لا ترضيني وأعرف «القرآن» و«ألف ليلة وليلة»

تميزت روايات الكاتب الجورجي الروسي دينيس جوتسيكو بالحجم الكبير، وتميز حواره هذا معي بالإجابات المختصرة في الغالب، لعله قال كل ما يريد في أعماله، أو لعله يفضل التعبير عن نفسه من خلال السرد، لكن الأهم في رأيي أنه ربما لا يزال حائرًا بخصوص بعض الموضوعات المهمة، وعلى رأسها موضوع الهوية، إذ يجيب بكلمة واحدة «ربما» عندما أساله عن هويته الحقيقية هل عثر عليها؟! ولد جوتسكو عام 1969 في تيبليسي بجورجيا، زمن الاتحاد السوفييتي. حصل على جائزة البوكر الروسي عام 2005، عن روايته «دون طريق بلا أثر». لم يسبق لكاتب شاب أن فاز بجائزة البوكر الروسية قبل دينيس، لأن الجائزة تعتبر بمنزلة تتويج لتاريخ الكاتب الأدبي. ترجم المترجم المصري أحمد صلاح الدين رواية جوتسيكو «دون طريق... بلا أثر» وصدرت طبعتها العربية عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة عام 2021م.

 

 

تتناول الرواية موضوع الهوية بشكل عميق إثر انهيار الاتحاد السوفييتي، إذ يستيقظ ديمتري بطل الرواية ذات يوم ليجد أن وطنه لم يعد له وجود، اختفى من الخريطة في لحظات، صار مواطنًا أجنبيًا في بلد ولد وتربى فيه، يتحدث لغته، ولا يعرف له وطنًا غيره، إنه يقف عالقًا بين عالمين، عالم تشكل فيه ومنه وجدانه، كبر فيه وكبرت روحه، وعالم يراه بعينيه ولكنه بعيد». 

ينتمي ديمتري إلى إحدى الجمهوريات السوفييتية، ويعيش في العاصمة، لكنه فجأة يستيقظ ليجد نفسه مواطنًا في دولته التي هو بعيد عنها، غريبًا في روسيا التي يعيش فيها، وعليه أن يحصل على «مدرج الإقامة» وهي ورقة تلصق في جواز السفر تفيد بتسجيل الإقامة، ومن خلال رحلته العبثية للحصول على هذه الورقة يشرح الكاتب حالة الانهيار وفقدان المعرفة بالذات وبالعالم الذي ولى والعالم الجديد معًا. وفي هذا الحوار الذي قام الأستاذ أحمد صلاح الدين مشكورًا فيه بالترجمة بيني وبين دينيس، يتحدث الكاتب عن حياته، وبداياته ككاتب، ورأيه في موضوع الهوية والجوائز والأدب العربي وغير ذلك، وفي ما يلي التفاصيل: 

● المتتبع لحياتك الدراسية والعملية يجدها لا تقود غالبًا إلى الكتابة السردية؛ فما قصتك مع الكتابة؟ ولماذا قررت أن تكتب الرواية بالذات؟

- ولدت في تيبليسي سنة 1969، عندما كانت عاصمة جورجيا السوفييتية. عشت هناك حـتى بلغت سن 17 عامًا، حين أنهيت دراستي الثانوية. كنت في جورجيا ممثلًا للجيل الثالث في العائلة. انتقل جدي إلى تبليسي في شبابه - كان لا يزال في العشرينيات - من قرية في القرم تطل على شبه جزيرة تامان، هربًا من فوضى الحرب الأهلية. أنقذ جدي الكـبير من الإعدام على يد المفوض أثناء ثورة جيش الفرسان الأبيض -  اختفى اسم المفوض الذي أنقذ سلسال العائلة. اختبأ في قبو، حـتى استيلاء الجيش الأحمر على القرية. كان المفوض من مواليد تيبليسي، عندما زالت الخطورة، ولرد الجميل، صحب الولد الأصغر في العائلة، إيفان - الذي سيصبح جدي في المستقبل- معه إلى تبليسي، مع وعد بحياة جديدة. فعل ذلك وصار إيفان فاكولا مسؤولًا عن تشغيل ماكينة عرض الأفلام السينيمائية، الـتي يمكننا وصفها بالوظيفة المرموقة، بمعايير ذلك الزمن. لكن الحمر قمعوا عائلة إيفان - كان لدى عائلة إيفان أكـبر بيت في القرية، وأفضل مزرعة -  لكن الثورة قضت على طبقة الأغنياء. كان المفوض المنقذ بعيدًا، ولم يكن هناك أحد يمكن اللجوء إليه. هذا هو تاريخ العائلة. ذكرت هذا في روايـتي الأولى «متحدث الروسية». كـبرت وأنا أعـتبر نفسي روسيًا، مع تشبعي بكـثير من سمات الثقافة الجورجية. أيام الاتحاد السوفييتي، كان هذا النوع من الناس مثـيرًا - الروس أبناء جمهوريات الاتحاد، القادرين على التحدث بلغة قوم آخرين، تخرج من خلالها، مثل المحار حين يتخطى البحر، عادات أخرى، لغة أخرى.

في رأيي، كانت هذه خـبرة لا تقدر بثمن لروسيا الإمبريالية - ليست خبرة التعايش فقط، بل فيما يخص التركيبة الإبداعية، المزاوجة الحية لمثل هذا النسيج المتنوع، كالهوية الوطنية، التقاليد والقيم المحلية. بالنسبة لي، لم يكن انهيار الاتحاد السوفييتي تاريخًا سياسيًا، إنما جرحًا شخصيًا. عانيت كـثيرًا للتأقلم في وطـني التاريخي، روسيا. وقد حكيت عن هذا كما ينبغي في رواية «متحدث الروسية». سأظل أحتفظ لجورجيا بأكـثر المشاعر دفئًا. جورجيا، بالنسبة لي، هي السكينة، القدرة الكامنة على الاستمتاع بالحياة، الصحبة، الفكاهة الرقيقة المبهجة. اختصارًا، أشعر بالأسى أن روسيا وجورجيا ابتعدتا عن بعضهما كل هذه المسافة اليوم. لازلت أرى أنه لم تمر طفولتي في جورجيا هباء.

وعن اختياري للكتابة، الأمر في منتهى البساطة. ذات مرة جاءتنا في الفصل مدرسة جديدة للأدب، كان اسمها كارينا باجارودوفا. وبطريقة ما، أدركت السيدة كيف يمكن ترويض هذا الصبي المشاغب الذي كنته. بدأت تدريبي على قراءة الكتب تدريجيًا   فيما يشبه البرنامج، وأعطتني نصوصًا إضافية. المهم، في حقيقة الأمر، أنها ناقشت معي بنضج فكرة القراءة. قررت في البداية أن القراءة في حد ذاتها وجاهة. لكن في لحظة ما فتحت أمامي بابًا على السعادة من خلال القراءة؛ أستمتع بالكلمة الدقيقة، العبارة الراقية، وكل أنواع المشاعر، الـتي ترسم صورة فانتازية أثناء القراءة. حينئذ تقرر كل شيء بالنسبة لي. أدركت أنه ليس هناك أفضل من الأدب - وأني سأكون كاتبًا. للحقيقة، لعب الهوى برأسي قبيل نهاية دراستي بالمدرسة - وبجانب الفيلولوجيا (فقه اللغة التاريخي والمقارن)، درست الجيولوجيا. قرأت جاك لندن وقررت أن عالم الترحال وقضاء الليالي حول نار المخيم ستدفئ موهبتي. رحلت للدراسة في جامعة رستوف على الدون، حصلت على ليسانس في الجيولوجي، ولم أعمل بتخصصي، فهمت حينها أن الجيولوجيا ليست لي. ولا أنتظر شيئا من الأدب. مثلما لا تنتظر شيئًا من الحب الأول - فقط تحب وهنا تكمن السعادة.

 

السيرة والرواية المتخيلة

● شهدت بنفسك وتأثرت على المستوى الشخصي بالانهيارات الكبرى مثل انهيار الاتحاد السوفييتي، والفوضى، مما أثر على كتاباتك فأصبحت أقرب للسيرة تقدم فيها ما رأيته وعشته بنفسك، صف لنا هذه الأحداث وأثرها، وما الحد الفاصل بين السيرة الذاتية والرواية المتخيلة في أعمالك؟

- لا  شك أن الإنسان يتشكل من حاصل جمع الخبرات التي يمر بها في حياته، ولا يستثنى الكاتب من هذه الحسبة، بل للكاتب وضع مغاير بحكم أنه أكثر مقدرة على استيعاب ما يجري حوله، بل ورسمه في أعمال يتركها ميراثًا لمن يأتي بعده، سواء من بني جلدته أو من شعوب العالم أجمع لو قدر لعمله أن يترجم إلى لغات أخرى. لست استثناء من هذه القاعدة، فلابد وأن تعكس أعمالي تجاربي الخاصة. الكاتب يحمل مرآة تعكس ذاته التي هي جزء لا يتجزأ من عالمه الذي تشكل فيه وكبر. لذا لا غرابة في توافر انعكاسات - لو أمكننا أن نسميها بهذا الاسم - لسيرة الكاتب في أعماله لأن الكاتب تلقائيًا عند معالجة فكرة ما يحاول توظيف أكثر المواقف ألفة بالنسبة له، على أن يكون هذا التوظيف فنيًا خالصًا. وقد كنت على ثقة تامة عندما أخبرني المترجم أحمد صلاح الدين أنه ينوي ترجمة روايتي «دون طريق بلا أثر» للغة العربية أن القارئ المعاصر في العالم العربي سيعثر في تلك الرواية على صدى لأفكاره ومشاعره، وإلى أي مدى تؤثر البيئة المحيطة، التي ننشأ فيها، في تشكيل هويتنا الشخصية. إن قراراتنا ومصائرنا - هي طرح المجتمع، الذي نحن فيه. كيف يمكن أن نصون المشاعر التي نسميها «الوطن»، حال اجتاحت آلة الدولة الجهنمية العمياء سكينة المهد، حاضن الثقافة، بوحشية.

● هل تصنّف رواياتك في إطار الأدب الروسي أم السوفييتي؟

- أعتقد أن ما يكتب باللغة الروسية هو أدب روسي.

● هل الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي استطاعت أن ترسي تقاليد أدبية خاصة بها خارج عباءة الكتابة السوفييتية أو الروسية؟ إن كان قد حدث أرجو أن تقدم لنا نماذج، مع توضيح الاختلافات بين الكتابة في كل منهما؟

- أعتقد أن لكل شعب هويته الخاصة دون تقليل شأن المؤثرات المتبادلة مع الثقافات الأخرى، والهوية السوفييتية وروافد الثقافة الروسية تماهت مع الثقافات والهويات المحلية لشعوب الاتحاد السوفييتي السابق، ولا يعني الانفصال أن هذه العلاقة ماتت، إنما قد تكون دخلت إلى مرحلة جديدة. تأثير الأدب والفن الروسي عالميًا ولا يقتصر على الشعوب السوفييتية السابقة فحسب. لكن جدير بالذكر أن هناك كتابات سواء قديمة أو جديدة ترتكز على الهوية المتفردة للبلد الذي تنتمي إليه. أما الجزء الخاص برصد هذه التحولات وتقديم نماذج ربما يساعدك أحد الأكاديميين أو النقاد على نحو أفضل مني.

● في روايتك «دون طريق... بلا أثر» تؤرخ روائيًا لأثر انهيار الاتحاد السوفييتي على الأشخاص العاديين من عمال وصغار موظفين ومواطنين فقدوا هويتهم فجأة، كما توضح استغلال الساسة لهذه المأساة لكي يزيدوها سوءًا ما دامت تحقق لهم مصلحة شخصية، هل ترى أن التركيز على الأحداث الصغيرة في الحوادث الكبرى أكثر جدوى للروائي أم كان يمكن فتح مجال الصورة لتشمل طبقات أخرى غير طبقة حارس البنك بطل الرواية؟

- ربما لو ابتعدنا عن التفاصيل الصغيرة هربت منا الكارثة. قطرة المطر تنبئ بالسيل والذبذبات الهينة تشي بقدوم الزلازل. فضلًا عن ذلك، العمل الأدبي يقدم زاوية ما للرؤية قد تكون بسيطة لكنها تمنحك مذاق الكارثة أبلغ من مئات الكتب التي تحكي تفاصيل كثيرة وشاملة عنها. 

● لقد شرحت بدقة وعمق شعور الفقدان الذي عاناه بطل روايتك لأنه فجأة لم يعد مواطنًا سوفييتيًا ولا جورجيًا. هل هذا البطل هو أنت بالذات؟ وهل عثرت على هويتك الحقيقية بعد كل تلك السنوات؟

- ربما!

● وصف نثرك بأنه «نثر عفي، تتجسد فيه روح العصر، وتجربة الكاتب الخاصة، ثمة حياة حقيقية تنبض في تلك الأعمال». هل لك أن تخبرنا كيف تختار أفكار أعمالك وتخطط لها، وكيف تبني جملتك الروائية؟

- تربح دومًا لدي الفكرة الشهية القوية. لكن ليس هذا بالأمر الحتمي. والغرض - سواء أكان أو لم يكن حكيمًا طازجًا -  ليس بكافٍ لاعتبار النص أدبًا. الأهم، أو ما يأتي في المقام الأول، إبداع عمل فني على الورق تصفه الناقدة ناتاليا إيفانوفا «عملًا أدبيًا» - قوام نابض، مفعم بالحياة، يتشابك مع الواقع على نحو مركب تمامًا، تعكسه، لكن لا تكرره، قد تقدم تفسيرًا له، لكن لا تقتله، في تجسيد لا يماثل الواقع تمامًا - لكنه يصير في ذهن القارئ حيًا قيمًا.

● حصلت روايتك «دون طريق... بلا أثر» على جائزة البوكر الروسية، وحصلت رواية «متحدث الروسية» على جائزة باريس سوكولوف، فما الذي تمثله الجوائز بالنسبة لك؟

- إنها تدفع الأعمال للأمام، وتربت على كتفك ربما قليلًا.

 

الأدب العربي

● ترجم الأستاذ أحمد صلاح الدين روايتك «دون طريق... بلا أثر» إلى اللغة العربية، وهي ليست اللغة الأولى التي تترجم إليها أعمالك، لكنك قدمت لهذه الترجمة بكلمة بها الكثير من المحبة للغة العربية والقارئ العربي، فما الذي تمثله هذه الترجمة بالذات لك؟ وما علاقتك بالأدب العربي عمومًا؟

- أن يترجم عمل لي إلى اللغة العربية هذا شيء ساحر. وأنا لا أعرف العربية لكن الترجمة جعلت عملي يتحدث العربية بطلاقة إلى أهلها، هل هناك ما هو أروع من هذا. في الحقيقة، معرفتي بالأدب العربي ليست على النحو الذي يرضيني. 

أعرف القرآن؛ أعرف ألف ليلة وليلة. قرأت في شبابي ترجمة لشعر أبو نواس، المتنبي. لا أعلم ما هي الحال في البلاد العربية، إنما يعـتبر القارئ الروسي أن الشعر الفارسي جزء من التراث العربي، لذا قرأت أعمال الخيام، بل إنني أتذكر العديد من أبيات شعره. ومن الأدب الحديث، قرأت «عمارة يعقوبيان» لعلاء الأسواني، و«أسعد الله مساك» لنجيب محفوظ ■