إيتالو كالفينو لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟

إيتالو كالفينو  لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟

منذ متى وعشاق الأدب منبهرون بـ«الكلاسيكيات»؟ هل استطاع القراءُ في أيٍّ مِن الأعْصَار والأمْصَار أن يَسْتغنُوا عن «كلاسيكيات الأدب»؟ مَنْ حدَّدَ أو مَنْ باستطاعته أن يحدِّدَ المساحةَ الزاخرة لهذه الجنة الفكرية النضرة؟ كيف نجد السكينةَ والفراغَ لقراءة الكلاسيكياتِ في زمنٍ تتزاحم فيه سيولٌ من المعارفِ المتلاطمة؟ ما الذي جعلها تستحوذ على كل هذا الإغراء الفاتن؟

 

وصلًا لسلطةِ الإغراءِ الفاتنِ بموصولها، أذكرُ أنه في السنة الأخيرة من حياة خورخي لويس بورخيس (Jorge Luis Borges)، وقبل أن يرقد في سرير السكينة الأبدية، كان قد جمع أمره وعقد عزمه على أن يتعلم اللغة العربية، لا لشيء إلا من أجل أن يقرأ سرديةً من أعجبِ المصنفاتِ الكلاسيكيةِ من وجهة نظره: «ألف ليلة وليلة». بيد أن الأجلَ لم يُمْهِلْه؛ مات بورخيس صاحبُ كتابِ «الألف» في العام 1986 وفي نفسه شيءٌ من الحسرة على عدم تَمَكُّنِهِ من الإمساك مباشرةً بدُرَّةِ التَّاج في إمبراطوريته القرائية. ما الذي كان يأمله بورخيس من قراءة ألف ليلة وليلة باللغة العربية بعد أن كان قد قرأه مِرارا شتَّى بلغاتٍ شتَّى؟ أُرَجِّحُ أن الجواب مُتَضَمَّنٌ - بمعنى من المعاني - في ما ذكره إميل سيوران (Emil Cioran)، إذ قال: كان سقراط يتَمَرَّنُ على عزف الناي أثناء استخلاص السُّمِّ من الشوكران، فسُئِل: «فيمَ سينفعك العزفُ وأنت هالكٌ لا محالة»؟ فأجاب قائلًا: «يكفيني عزْفُ هذا اللحن قبل مماتي». بالنسبة إلى بورخيس، لا شك في أن قراءةَ نصٍّ أصيلٍ في مَظِنَّتِهِ الأولى يمثل استجابةً مُضْمَرَةً لسلطةِ اللحنِ الأصيل في النَّزْعِ الأخير من سيرورة حياة. هل ينطبق هذا الحكمُ على مجمل الكتب الكلاسيكية؟ يُقَرِّرُ إيتالو كالفينو (Italo Calvino) جازما بعد أربعة عشر محاولة لتحديد معنى «الكتب الكلاسيكية» أن: «السبب الوحيد لقراءة الكتب الكلاسيكية هو أن قراءتها أفضل من عدم قراءتها».

كتب إيتالو كالفينو مقالًا بعنوان «أيها الإيطاليون، أحثُّكُم على قراءة الكلاسيكيات» نشرته صحيفة لسبريسيو بتاريخ 28 يونيو 1981، ثم أعيد إدراجه ضمن كتاب «لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟» للكاتب نفسه. وقد صدرت الترجمة العربية لهذا الكتاب عن دار المدى، سنة 2021. أي بعد حوالي ثلاثين سنة من كتابة النص الأصلي، بيد أن السؤال ما يزال متجددًا، ولا يخصُّ الإيطاليين وحدَهم، بل يعني جموعَ القراء في كل الأحقاب والعصور؛ لماذا نقرأ الكتب الكلاسيكية؟

 يستهل كالفينو محاولاته من أجل القبض على تعريف تقريبيّ للكتب الكلاسيكية قائلا: إن الكتب الكلاسيكية هي تلك التي يشير إليها أغلب الناس بصيغة «أنا أعيد قراءة...»، وليس «أنا أقرأ...». بيد أن هذا لا يحدث عادة إلا مع القرّاء «واسعي الاطلاع»، أولئك الذين يؤمنون بأن قراءةً واحدةً لا يمكنها مطلقًا أن تستنفد دلالات المكتوب وجمالياته، فيضطرون إلى «إعادة القراءة»، لعلهم يستبصرون ما ظل مَحْجوبًا مُتواريًا خلف الأسطح الظاهرة للغة. أما الذين لم يسبق لهم قراءةُ كتابٍ كلاسيكيّ «ذائعِ الصيت» فقد يجدون أنفسَهم في حرج بإزاء سؤالٍ من قبيل: هل «أعدْتَ قراءةَ» هذا الكتاب؟ دفعا للحرج، ولطمأنتهم، يؤكد كالفينو «مهما تنوعت قراءاتُ المرء، سيظل هنالك عددٌ هائل من أمهاتِ الكتب التي لم يقرأها». لا شك أن ثمةَ دائمًا قائمةٌ طويلة من العناوين في انتظار القرّاء الجدد، وأخمن أن ثمة قائمةً أطول (مما يتعيَّنُ إعادةُ قراءتِه) في انتظار القراء المتمرسين الذين يستهويهم «ثراء» فعل إعادة القراءة.

استنادًا إلى جزئية «الثراء» الكامن في فعل إعادة القراءة، تتشكل نواةُ صيغةٍ ثانيةٍ لمحاولة التعريف؛ «الكتب الكلاسيكية بمنزلة ثروة لمن قرأوها وعشقوها، وقيمتها أقل لمن حالفهم الحظ وقرأوها مرة واحدة». في رأي إيتالو كالفينو، قد لا تعود قراءاتُ مرحلة الشباب بالنفع العميم المرجو منها، بالنظر إلى سرعة الضجر، وكثرة السهو، وضعف الخبرة في التعامل مع المقروء، وما ينتظم ضمن هذا النسق من النقائص المرْكُوزَةِ في طبائع الشباب. لكنَّ تلك القراءاتِ ستكون بلا شك «تأسيسيةً» من ناحيةِ منحِ تجاربِ الشابِّ المستقبليةِ شكلًا عبر توفيرها لنماذج معرفية، ومصطلحات للمقارنة، ومراتب تصنيف، وتدريجات للقيمة، وأمثلة على الجمال. وسواء تذكرنا تفاصيلَ المقروء، أو اليسيرَ فقط منها، أو نسيناها تمامًا، فإن «إعادة قراءة تلك الكتب في مرحلة النضج تعنى أن العناصر المكونة لها تستصبح جزءا من كينونتنا» حتى لو جَهِلْنَا مصدرَها. لذا فإن لهذه القراءات «قوةً كامنة»؛ إنها ترغمنا على نسيانها في الظاهر، بيد أنها في الآن ذاته «تزرعُ بذورَها في باطننا»، دون أن نعي ذلك في أغلب الأحيان.

 

أزمنةِ النضج

وصلًا بمسألة تشكيل المقروء للاوعي، يتمهد السبيلُ إلى محاولة تعريفية جديدة؛ «للكتب الكلاسيكية وقعٌ يميزها، سواء أدمغت في ذاكرتنا دمغًا لا يندثر، أم تنكرت بين تلافيف الذاكرة على هيئة لاوعي جمعيّ أو فرديّ». ولعل هذا يقتضي - على جهة الضرورة - تخصيصَ أوقاتٍ في أزمنةِ النضج لإعادة قراءة بعض الكتب. وإذا استشعرنا أن إعادة القراءة تمثل «تجربة جديدة كليًا»، فسندرك آنئذٍ أن الكتاب ينتسب - بناء على تحيُّزاتِنا وتفضيلاتنا الفكرية والجمالية - إلى مصفوفةِ كتبِنا الكلاسيكية. وبالموازاة مع ذلك سندرك بناء على مقتضيات «التجربة الجديدة كليا» أن الفارق بين الفعلين: «قرأتُ» و«أعدْتُ قراءةَ...» تكاد تشاكل صعوبةَ التمييز بين «اكتشفتُ» و«أعدْتُ اكتشافَ...». ومن ثمَّ فإن «الكتاب الكلاسيكي هو الذي تكتشف جديدًا فيه كلما أعدتَ قراءته»، أو هو «ذاك الذي إذا قرأته للمرة الأولى، ينتابك شعور بأنك قد قرأته من قبل».

من مستخلصات التعريفين السابقيْن، يمكن القول في تعريف آخر: إن «الكتاب الكلاسيكي هو كتاب لا ينضب محتواه». أو إن «الكتب الكلاسيكية هي تلك الكتب التي نلاحظ فيها تأثرها بكتب سبقتها من ناحية، ونلمس تأثيرها في ثقافة أو مجموعة ثقافات من ناحية أخرى». ضمن هذا السياق، مَنْ مِنَّا لم يراوده - ولو على سبيل الـمَسَرّاتِ التي تثيرها مسألةُ إدراكِ التشابهاتِ - طيْفُ وصْلٍ بين «مغامرات السندباد البحري» في «ألف ليلة وليلة»، و«رحلات يوليسيز» في «الأودسية» الهوميرية، أو بين حكاية «حي ابن يقظان» لابن طفيل، وسردية «روبنسون كروزو» لدنيال ديفو (Daniel Defoe). أو بين «رسائل الغفران» لأبي العلاء المعري و»الكوميديا الإلهية» لدانتي ألجييري (Dante Alighieri). مع بعض التحرُّز من جدوى الأسئلة الموصولة بفكرة «الأب الأدبي» للنص التخييلي، وعما إذا كانت النصوصُ تحتمل هذه التأويلاتِ المستندة إلى جزئية المشابهة والتمايز.

بالإضافة إلى كل ما تقدم، ثمة ميزة أخرى للكتاب الكلاسيكي، تتمثل في كونه يباغتُ «تصوراتِنا المسبقة عنه». لذا يُلحُّ كالفينو على قراءة النصوص الأصيلة مباشرة، ويحثُّ على عدم الاكتفاء بقراءة التحليلات النقدية عنها، أو الاقتصار على حواشيها أو شروحها أو المقدمات الممهدة لها. فليس ذلك كلُّه إلا ستائرَ تحجب «معنى النص الذي لن تدركه عبر وسيط يدعي أن علمه يفوق ما يريد الكتابُ قولَه». إن الكتاب الكلاسيكي بهذا المعنى هو «الكتاب الذي يثير قتامَ نقْدِ الآخرين له، ثم يزيحه»، كما لو أنه يتحدى القراء والنقاد جميعًا. قد يخامرُنا إحساسٌ - أحيانًا - أننا أحطنا بمضمون كتاب ما، انطلاقًا مما يَحُفُّ حولَه من مَقُولٍ أو مَكْتوب. غير أن الكتب الكلاسيكية في الحقيقة تفاجئنا بكونها «أكثرَ أصالةً» وأعمقَ غورًا وأبْعَدَ شأوًا مما تَرَسَّبَ في مُسْبقاتِ تقديراتِنا وتوقعاتِنا. وفي هذه الحالة فإننا ما نَفْتَأُ نُؤسس علاقةً شخصية مع المقروء بعد أن تنْقَدِحَ شرارةُ حبِّه في دواخلنا. ضمن هذا السياق، ذكر ألبرتو مانغويل (Alberto Manguel) أن كتابه الشخصيّ ما بَرِحَ يَتَغَيَّر؛ «فتارةً كان كتابَ «المقالات» لمونتيني، وتارةً كتابَ «آليس في بلاد العجائب»، وتارةً كتابَ «التخيلات» لبورخيس، أو كتابَ «دون كيخوته»، أو كتابَ «ألف ليلة وليلة»، أو كتابَ «جبل السحر» لتوماس مان. أما الآن(...) فإن الكتاب الجامع المانع بالنسبة إلي هو الكوميديا لدانتي». يستطرد مانغويل قائلا: «وصلتُ متأخرًا إلى الكوميديا (الإلهية)، حدث ذلك وأنا على أعتاب الستين، ومنذ القراءة الأولى، أصبح هذا الكتابُ بالنسبة إلي كتابًا شخصيا».

 ارتباطًا إلى هذا الوَصْلِ الحميميّ المتولدِ عن علاقة شخصية مباشرة، يغدو من غير المفيد «قراءةُ الكلاسيكيات بدافع الواجب أو الاحترام» المرْتَسِمِ مُسْبقًا، بل يجب أن نقرأها بدافع الانجذاب لها، التعشُّقِ بها. ولربما مِنْ ضِدِّ هذا المنزعِ تتأتى ضروبٌ من العَنَتِ والاستِعْصاء إلى «الكلاسيكيات» التي تُقْرَأ بدافع الواجب والإلزام في المقررات المدرسية. أُرَجِّحُ أن أفضلَ ما يمكن أن تتيحه المدارس هو لَفْتُ الانتباه إلى وجود «أُمّاتِ الكتب» التي لا شك في أن من ضمنها ما يوافق نوازع القراء أو نوازغهم. وصلاً بهذا النسق، يقرر كالفينو «لن تعثر على الكتاب الذي سيصبح «كتابَكَ» إلا بقراءة طوعية». 

 

الكتاب الشامل

بالقراءة الطوعية تكتشفُ كينونَتَك المشمولةَ في كَوْنِ كتابِك الشامل. إن الكتاب الشامل بمثابة البحر المحيط وأنتَ بإزائِه بمثابة الأثر أو الطلسم الذي يختزل المحيط. بحسبِ كالفينو «الكتب الكلاسيكية صِنْوُ الكون، إنما تنعت بالكلاسيكية لأنها تشبه الطلاسم الأثرية». ففيها أجناسٌ وأشكالٌ وأطيافٌ من المؤتلف والمختلف، وهي - من هذه الزاوية - تعيننا على تعريف ذواتنا في ضوء تآلفنا معها واختلافنا عنها. بالرغم من كل المحاولات التعريفية السابقة ما تزال في طريقنا عقبةٌ كأداء صعبةُ المرتقى تَخُصُّ مصطلحَ «كلاسيكي»، بالنظر إلى الظلال الدلالية الحَافَّةِ من حَوْلِه، لا سيما ما تَعَلَّقَ منها بالتعارض الزمني بين «التليد» و«الطريف»، «العتيق» و«المحدث». من أجل تَجَاوُز هذا التعارضِ يَنْحُو كالفينو مَنْحًى اختراقيًا، ويقترح معيارَ «الامتداد الثقافيّ»؛ فالكتابُ الكلاسيكيّ متعالقٌ بباقي الكلاسيكيات ومُخْتَرِقٌ لزمنياتها. ارتباطًا بهذا المعنى، إن «كتابك الكلاسيكي يتصدر بقيةَ الكلاسيكيات، لكنك لن تدرك مكانته بمعزل عن قراءة الكلاسيكيات الأخرى». قد يبدو هذا الاحتجاج مقبولاً في تمهيد السبيل نحو عبور الجزء الأول من العقبة، وليس كلَّ العقبة. ذلك أن السؤال التالي ما يزال منتصبًا أمامنا: لماذا ننجذب إلى قراءة الكتب الكلاسيكية عوضًا عن قراءة الكتب التي تعيننا على فهم زماننا؟ كيف نجد السكينةَ والوداعةَ وهدوءَ البال والجهدَ المسْتَفْرَغَ لقراءة الكلاسيكيات، لا سيما مع وجود «سيْلٍ يغمرنا من الأخبار المطبوعة اليوم»؟ قد يفترض البعضُ أن العالم المعاصر تافهٌ وضَحْلٌ ومُضْجِر، ولكنه ما يزال - بالرغم منا - مَرْجِعَنا الوحيد لقياس تقدمنا أو تخلفنا مع الأزمنة السابقة. من هذه الزاوية «تستوجب قراءةُ الكلاسيكيات تحديدَ «إحداثياتها» في زمن قراءتها، وإلا سيضيع كلٌّ من الكتاب وقارئه في متاهة سرمدية». وهكذا يغدو في مُكْنَةِ القارئ «استخلاصُ أقصى منفعة من الكتاب الكلاسيكي إذا قرأه بتبادل ماهر وبجرعات دقيقة مع الكتابات المعاصرة».

 في حمأة الأحداث المتشابكة والضوضاء المعاصرة، ليس ثمة ما هو أمتع وأروع من «تَدَفُّقِ الخطاب الكلاسيكي» بصفاء وسكينة في فراديس عزلتنا المتاخمة لجحيم متاعبنا. ارتباطًا بهذا المعنى، يمكن القول: إن «الكتب الكلاسيكية هي التي تحول متاعب الحاضر إلى خلفية صوتية»، وتؤدي مفاعيلها في حياتنا «كموسيقى خلفية مهما اشتدتْ نوازلُ الدهر».بعد استقصاءِ أربعَ عشرةَ محاولةً للقبض على معنى «الكتب الكلاسيكية»، هل أفلح إيتالو كالفينو في حصر القائمة؟ في واقع الأمر، لا تُحْصَرُ القوائمُ إلا لكي تظلَّ مفتوحة. لقد قرَّرَ أمبرتو إيكو (Umberto Eco) في كتابه «لا نهاية القوائم من هوميروس حتى جويس» أن كلَّ القوائمِ مُقَدَّرٌ لها ألا تنتهي إلا بعبارة «إلى آخره...». أما غيُّوم أبولينير (Guillaume Apollinaire) فقد كثَّفَ هذا المعنى في صيغة تضرع شعري ضمن قصيدة «الحسناء ذات الشعر الأحمر»، إذ قال:

«فَارْأَفِي بمَنْ يُقاتل دائمًا على تُخُومِ

اللانهائيّ والمسْتَقْبَل

وارْأَفِي بأَخْطَائِنَا وخَطَايَانَا».

لا شك في أننا إذا ما استفرغنا الجهدَ كلَّه من أجل حصْرٍ نهائيّ لقوائم الكتب الكلاسيكية - سواء في ثَقَافَتِنَا أو في تَثَاقُفِنا مع الآخر- سنكون قد ارتمينا دون أن ندري في أشنع أخطائنا وخطايانا، لأن الكلاسيكيات ليست مكتوبةً - قطْعًا - بلغة الرياضيات ■